يمنع الوجود الأميركي في كل من العراق وسورية، وفي الأخيرة على وجه التحديد، إيران من تنفيذ مخططها بفتح طريقٍ رسمي يربط طهران ببيروت مروراً بكل من سورية والعراق. وأمام هذا المنع الذي تبرره واشنطن بكون الطريق سيكون ممراً للاستخدام العسكري وتقوية النفوذ الإيراني في كل من سورية ولبنان، فإنّ طهران قد تلجأ للالتفاف عليه، للعودة إلى مشروع قديم - جديد بإنشاء سكة حديدية تصل إيران بميناء اللاذقية، غرب سورية، وبالتالي تحقيق الهدف الأبرز من مشروع الطريق أو السكة، بالوصول إلى مياه المتوسط، وتأمين وقوفها على منفذ بحري إضافي، بذريعة سكة الحديد، التي يوحي إنشاؤها بأبعاد اقتصادية، أكثر منها عسكرية.
ويعدّ إعلان الرئيس الإيراني، حسن روحاني، قبل أيام، عزم بلاده تنفيذ مشروع سكة الحديد، إحياءً للمشروع من جديد، خصوصاً بعدما اعتبر أن ربط شبكة سكك الحديد بين مدينتي شلمجه في إيران والبصرة في العراق "مهم للغاية". وأضاف أنّ "المشروع سيربط إيران بالعراق وسورية ومنطقة البحر الأبيض المتوسط التي تحظى بأهمية بالغة، وسيساهم في تحقيق تغيير كبير في المنطقة". وأكد روحاني أن الحكومة تتابع هذا المشروع على الصعيدين السياسي والعملياتي، على أن ينتهي في السنوات المقبلة.
وخرجت فكرة سكة الحديد الإيرانية للمرة الأولى في أواخر عام 2016، على لسان مساعد المرشد الإيراني للشؤون العسكرية، يحيى صفوي، الذي أكد حينها ضرورة إنشاء سكك حديد تربط إيران بالعراق وسورية للوصول إلى ميناء اللاذقية، معتبراً أن هذه الخطوة من شأنها تحقيق تقدم اقتصادي بين البلدان الإسلامية.
خرجت فكرة سكة الحديد الإيرانية للمرة الأولى في أواخر عام 2016
وفي يوليو/تموز من عام 2019، أعلنت السلطات الإيرانية رسمياً البدء بتنفيذ مشروع ربط ميناء "الإمام الخميني" الواقع على الجانب الإيراني من مياه الخليج بميناء اللاذقية السوري، عبر شبكة سكك حديد تمر من الأراضي العراقية. حينها، كشف المدير العام لشركة سكك الحديد الإيرانية سعيد رسولي، بعد اجتماع مع مسؤولي خطوط السكك الحديد في العراق وسورية في العاصمة طهران، أنّ إيران بدأت بتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع ربط ميناء "الإمام الخميني" بمدينة خرمشهر جنوب غربي البلاد من خلال خطوط حديدية، على أساس أن يتم اتصاله بخطوط "شلمجه (الإيرانية) ـ البصرة". وأضاف رسولي أنه بعد اكتمال المشروع، سيُربط الجانب الإيراني من الخليج بميناء اللاذقية السوري بخطوط حديدية عبر البصرة العراقية، واصفاً المشروع بأنه "استراتيجي والأهم من بقية خطوط النقل البرية".
ومنذ تعاظم نفوذها في سورية، عقب تدخلها العسكري عبر مليشيات "الحرس الثوري الإيراني"، وضعت إيران عينها على ميناء اللاذقية البحري، ثاني أهم الموانئ البحرية في البلاد، بعد ميناء طرطوس الذي بات تحت السيطرة الروسية بشكل شبه كامل. وبدأت إيران بفرض هيمنتها على الميناء من خلال التدخل بتعيين كبار مسؤوليه من جهة، وإحاطته بالمليشيات المدعومة من قبلها بالإضافة لمتنفذين في الأجهزة الأمنية السورية المقربين منها، من جهة أخرى. لكن التدخل الروسي في البلاد خريف العام 2015 بشكل مباشر، بدأ يضيّق على التطلعات الإيرانية الرامية للوصول إلى شواطئ البحر المتوسط. وربيع عام 2019، كاد رئيس النظام السوري بشار الأسد، أن يحقق لإيران ما تصبو إليه خلال زيارته المفاجئة لطهران ولقائه المرشد الأعلى علي خامنئي، بتسليم الميناء لإحدى الشركات الإيرانية بعقد رسمي، مقابل إمداد النظام بمواد تموينية ومحروقات وزيادة مساندته في المجهود الحربي، وذلك عندما بدأ النظام يواجه صعوبات اقتصادية وسياسية كبيرة نتيجة الضغوط الغربية عليه. لكن التدخل الروسي بالضغط على الأسد حال دون إتمام ذلك، إذ تحاول موسكو الاستئثار وحدها بالوقوف على الشواطئ السورية من خلال ميناءي طرطوس، بشكل رسمي، واللاذقية عبر فرض نفوذها، كما لا تزال تمنع إيران من الوصول إلى مرسى بانياس البحري، ذي الأهمية النفطية بريف محافظة طرطوس، والذي حاولت طهران كذلك مد نفوذها إليه عبر مليشياتها ووكلائها الأمنيين داخل أجهزة النظام السوري.
أحاطت إيران ميناء اللاذقية بالمليشيات المدعومة من قبلها
وإلى الآن، تنجح روسيا في فرض هيمنتها على المنافذ البحرية في سورية، لمنع الوصول الإيراني إليها. فبعد العقد الذي حصلت عليه شركة روسية لاستثمار ميناء طرطوس لـ 49 عاماً، لا تبدو موسكو لديها مشكلة في أن يدار مرفأ اللاذقية عبر شراكة بين إحدى أهم شركات النقل البحري العالمية (مجموعة "CMA CGM" الفرنسية) وشركة سورية (سوريا القابضة)، مقابل عدم السماح لإيران باستثمار المرفأ وإدارته من قبل إحدى شركاتها. وبقدر ما يهم ذلك المصلحة الروسية، اقتصادياً ونفوذاً، فإنها كذلك تدفع باتجاه إزالة الذرائع الأميركية واستغلالها لمنع مزيد من تمدد إيران في سورية، ولا سيما في مواقع حيوية، خصوصاً بعد إقرار قانون قيصر الأميركي للعقوبات الذي يضيق على النظام وحلفائه ويمنع امداده بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية.
في السياق، يرى الصحافي المتابع للشأن الإيراني ورئيس تحرير موقع "إيران إنسايدر"، أيمن محمد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه منذ عام 2016، بدأ الحديث عن مشروع سكة حديد تربط ميناء الخميني بشلمجه الإيرانية (يقع الاثنان في محافظة خوزستان) ثم بالبصرة في العراق، وصولاً إلى ميناء اللاذقية على البحر المتوسط في سورية. ويعتقد محمد أنّ "هذا المشروع مرتبط باتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران والتي تمتد لـ25 عاماً، والتي وقعها الطرفان قبل نحو شهرين، باعتبار أن مثل هذا المشروع الضخم والذي يمتد على مسافة 1041 كيلومتراً ويكلف قرابة 10 مليارات دولار، قد يصبح رديفاً لطريق الحرير الذي يمتد من الصين إلى باكستان فإيران إلى العراق وانتهاء بسورية". ويوضح محمد أنّ "طهران وبكين هما أكبر المستفيدين من مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسورية من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية، فالمشروع سيكون وأداً لمشروع ميناء الفاو الكبير (ميناء عراقي في شبه جزيرة الفاو جنوب محافظة البصرة) قيد الإنجاز المتعثر في البصرة، وضربة لمشروع سكة الحديد من الفاو وصولاً إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، والذي سيستفيد منه العراق بالدرجة الأولى على عكس مشروع الربط السككي بين شلمجه الإيرانية وصولاً إلى ميناء اللاذقية مروراً بالعراق، الذي ستستفيد منه إيران بالدرجة الأولى".
ويشير محمد إلى أن "طهران ستستفيد من المشروع من خلال تعزيز وجودها في سورية ونقل السلاح والمقاتلين، وضمان طريق جديد إضافة للطريق البري الذي سعت لفتحه منذ عام 2003. ومن خلال الاطلاع على تحركات إيران في سورية، نجد أنّ انتشارها حالياً يتركز في محافظة دير الزور، حيث بنت قاعدة الإمام علي الاستراتيجية في البوكمال على الحدود السورية العراقية، ونشرت عناصر المليشيات التابعة لها من البوكمال وصولاً للبادية السورية وحمص، بهدف حماية الطريق البري الواصل بين إيران ودمشق، وعين إيران تنصب حالياً على ميناء اللاذقية لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط. وبالتالي، فإنّ مشروع الربط السككي بين شلمجه والبصرة وصولاً إلى اللاذقية يعتبر بالنسبة لإيران استراتيجياً، وستضغط على حلفائها في العراق لتمريره وضرب مشروع ميناء الفاو".
حكومة إيران المقبلة قد تحول المشروع الاقتصادي إلى عسكري
لكن الطريق البري الذي يصل إيران بدمشق تهدده قاعدة التنف العسكرية التابعة للتحالف الدولي بقيادة واشنطن، عند مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، والتي تحوي وجوداً أميركياً كبيراً. وسابقاً، دربت واشنطن قوات من المعارضة وزودتها بالمعدات العسكرية المتطورة لتحقيق هدفين؛ الأول حماية قاعدة التنف، والثاني تحرك تلك القوات في أي وقت تشعر فيه الولايات المتحدة أن إيران ستنجح في فتح الطريق بين عاصمتها ودمشق بشكل سلس ورسمي، لقطعه في الوقت اللازم. وباستمرار، تجري القوات الأميركية مع قوات المعارضة المنتشرة في منطقة الـ 55 المحيطة بالتنف في البادية السورية، والتي تعتبر حرماً لقوات التحالف والولايات المتحدة يمنع الاقتراب منه، مناورات عسكرية ضخمة للوقوف على جاهزية قوات المعارضة، وزيادة التنسيق معها للتعامل مع أي احتمال طارئ، في مقدمته التمدد الإيراني بالقرب من المنطقة التي تعتبر جزءاً مهماً في الطريق البري الذي تحلم به طهران.
وحول التعامل الأميركي مع المشروع الإيراني الجديد، يرى الباحث الإيراني المقيم في واشنطن، حسن هاشميان، أن "هناك عدة نقاط يجب الوقوف عندها في هذا الأمر، أهمها أن هذا المشروع يعتبر اقتصادياً، ومثل أي مشروع اقتصادي يتم الحديث عنه في إيران، قد يطرح في الإعلام ويتم التهليل له، لكن لا ينجز إطلاقاً، ولدينا آلاف المشاريع التي أعلن عنها والتي لم يتم تنفيذ أي منها، على الرغم من تحميلها الشعارات والأبعاد المعروفة في إيران". ويضيف هاشميان في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هذا المشروع، إذا كان واقعياً فعلاً وتم تنفيذه وإدارته من قبل الحكومة الإيرانية الحالية، والتزم بدوره الاقتصادي، فمن شأنه أن يخدم دول المنطقة، وهذا لن تعارضه الولايات المتحدة بالتأكيد". لكن هاشميان يعتقد أنّ "الحكومة الإيرانية المقبلة قد تحوّل هذا المشروع الاقتصادي إلى مشروع عسكري، بهدف الاستحواذ على المنطقة وفرض مزيد من الهيمنة، وفي هذه الحالة سيكون لواشنطن تعاملها مع ذلك، فمن غير المسموح للعراق، مثلاً، وأي دولة أخرى، أن تعطي النظام الإيراني المجال لاستخدام أراضيها لتنفيذ مشروع عسكري يهدف لفرض مزيد من الهيمنة".
وينوه هاشميان إلى أنّ "الحكومة الحالية في إيران، برئاسة روحاني، تعيش أيامها الأخيرة في الحكم، وعلينا أن ننظر إلى الحكومة المقبلة. فإذا أتت حكومة محافظة متشددة، وهناك احتمال كبير بأن يكون (رئيس السلطة القضائية المحافظ) إبراهيم رئيسي، الرئيس المقبل في إيران، فبالتأكيد ستكون لها مشاريع متشددة وعسكرية وتعاون مع الحرس الثوري والباسيج والمليشيات، ما قد يحول هذا المشروع بالتأكيد إلى مشروع عسكري، مع تهميش الجانب الاقتصادي والتجاري والخدمي منه. وعلى هذا، فإنّ الحكومة المقبلة في إيران، ستثير مشاكل من خلال هذا المشروع، أولاً لإيران ومن ثم للعراق وأي دولة تعبر منها تلك الخطوط الحديدية، وبالتالي، فإنّ الدول الإقليمية والولايات المتحدة لن تسكت عن هذا الموضوع".