حتى وقت قريب حُصر مفهوم الأسرلة في وصف الظاهرة داخل صفوف التجمع الفلسطيني الذي نجا من التطهير العرقي، الذي فُرضت عليه المواطنة الإسرائيلية، بعد زرع الدولة الاستيطانية؛ أوروبية المنشأ، في الوطن العربي عام 1948.
في العقد الأخير أطلق مصطلح الأسرلة على سلوك السلطة الفلسطينية أيضاً، في إطار ممارستها دور الوكالة تحت هيمنة نظام الأبارتهايد الاستعماري، ونشوء طبقة محيطة بها ترتبط مصالحها مع الاحتلال.
مؤخراً تأسرلت أنظمة عربية في الخليج والمغرب العربي، بإرادتها الكاملة، وفق تبعية فاضحة، مصحوبة بحملات تحريض ضد النضال الفلسطيني، وتبني الرواية الاستعمارية الصهيونية.
منعاً للالتباس؛ لا تعني الأسرلة في وسط فلسطينيي 48 تحويل الفلسطينيين إلى مواطنين متساويين مع اليهود، بل هي سياسة تشويه وإعادة هندسة هويتهم، عبر قطعها عن جذروها العربية والحضارية والتاريخية، وعن أهداف الشعب الفلسطيني، من أجل التماثل مع الدولة اليهودية.
غالباً؛ حركة أبناء البلد أول من استعمل مصطلح الأسرلة، نشأت أوائل السبعينيات في مدينة أم الفحم، رداً على سياسات الأسرلة. انتشرت الحركة بين الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، حركة وطنية فلسطينية، تعتبر فلسطينيي 48 جزءاً من الشعب الفلسطيني، الذي تُمثله منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي ميزه عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي غلّب الهوية الطبقية على الهوية الوطنية، معرّفاً نفسه بـ"حزب الوطنية الإسرائيلية".
تسعى المبادرات إلى بناء كتلة شعبية تاريخية تصنع التغيير والنهوض
ظهرت لاحقاً حركات وطنية امتداداً وتطويراً لتوجه حركة أبناء البلد؛ الحركة التقدمية في الثمانينيات، التجمع الوطني الديمقراطي في أواسط التسعينيات. لعب التجمع الوطني الديمقراطي دوراً محورياً في كبح ظاهرة الأسرلة المتسارعة بعد توقيع اتفاق أوسلو، نتيجة الاعتقاد بقرب حل المسألة الفلسطينية.
صاغ التجمع خطاباً وطنياً ديمقراطياً، في إطار تصديه لظاهرة الأسرلة، يضع مطلب المواطنة المتساوية؛ المتضمنة الحقوق الجماعية، في توتر دائم مع يهودية الدولة وطابعها الكولونيالي.
دأب الفلسطينيون؛ شعباً وطلائع، منذ النكبة على المناورة بين الانتماء الوطني ومتطلبات البقاء والحياة اليومية، في ظل نظام سياسي غريب، فُرض عليهم دون أن يصنعوه.
مع مرور الوقت أنشأت إسرائيل تقسيمات أو تصنيفات بين بالمتأسرلين والوطنيين، في إطار سعي الدولة الجديدة إلى التحكم بمسار حياتهم. نشأت، على خلفية ذلك، في الوسط الفلسطيني، خلافات واختلافات، وجدال حول "الفلسطنة" و"الأسرلة".
ساهمت هذه النقاشات والحملات الإعلامية الساخنة في بلورة هوية التيارات الوطنية المذكورة، وضيقت مجال تيار التأسرل، كذلك ساهمت في إنضاج مقدمات الهبات الشعبية؛ الشاملة والمحدودة، وعززت الهوية الوطنية الفلسطينية على حساب الأسرلة.
أعظم تلك الهبات والمواجهات الشعبية تلك التي اندلعت عقب انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، إذ شهدتها كل المدن والقرى العربية الفلسطينية داخل "إسرائيل"، وقمعها الكيان الإسرائيلي بالرصاص الحي، مسقطاً شهداء وجرحى.
عوامل موضوعية وذاتية وراء ظاهرة الأسرلة
نشأت وتطورت الأسرلة، داخل مناطق 48، في سياق العملية الاستعمارية الصهيونية، التي مارستها الدولة الجديدة منذ يومها الأول، هي أسرلة الأمر الواقع. في حين بدأت الأسرلة الأوسلوية الفاضحة بعد قمع الانتفاضة الثانية، بفعل قرار فلسطيني رسمي.
نجد عاملاً مشتركاً في خلفية الصيرورتين، يتمثل في غياب الانتصار العربي والفلسطيني على إسرائيل، الذي مهّد نشوء هذه العلاقة السياسية والاقتصادية المشوهة، مع الدولة العبرية الاستعمارية.
لم يكن بالإمكان نشوء هذا التشوه، أو إطالة عمر الاستعمار في فلسطين، لو توفرت في الدول العربية أنظمة عصرية قومية وديمقراطية، ذات قدرة على التفكير الاستراتيجي والتنمية الشاملة، في مواجهة الاستعمار والتخلف.
طبعاً لا يصح إعفاء القيادة الفلسطينية، التي ساهمت في فصل المقاومة الفلسطينية عن بعدها القومي العربي، تحت دعوى القرار الفلسطيني المستقل، عن مسؤولية الهزائم العربية والفلسطينية.
حديثاً؛ تعمقت ظاهرة الأسرلة، نتيجة سلوك الأنظمة العربية القمعي، تجاه الثورات العربية، إذ تكشف استطلاعات رأي أجراها باحثون فلسطينيون داخل الخط الأخضر "أن ردود فعل الأنظمة العربية الوحشي على ثورات شعوبها؛ التي اندلعت في بداية العقد الثانية من الألفية الثانية، دفع الكثير من الفلسطينيين إلى مقارنة تعامل هذه الانظمة مع شعوبها من ناحية، وتعامل إسرائيل مع مواطنيها في مجتمعها الاستيطاني بطريقة ديمقراطية من ناحية ثانية".
الأسرلة في وسط فلسطينيي 48 عملية مركبة، مرت بمراحل وأشكال عديدة، تداخل فيها اعتماد الفلسطينيين الكلي على الاقتصاد الإسرائيلي؛ بسبب الاستيلاء على أملاكهم وتدمير بنيتهم الاقتصادية، مع فرض مناهج المدارس العربية التعليمية، التي تعتمد الرواية الصهيونية وتطمس الرواية الفلسطينية، وفق نظام مراقبة وضبط صارم.
بعد عام 1948 شهدنا أولى مراحل الأسرلة؛ مرحلة الحكم العسكري، عبر التصويت الواسع لأحزاب صهيونية، من خلال قوائم حزب المباي الصهيوني الحاكم. يعود انخراط الفلسطينيين الكبير في عملية التصويت لأحزاب صهيونية إلى الخشية من الطرد، الذي استمر شبحه طوال عقدي الاحتلال الأولين. أي كان مدفوعاً بغريزة البقاء في الوطن، ويُحركه الاعتقاد بأن إسرائيل حالة مؤقتة.
المرحلة الثانية؛ الأسرلة الواعية، تدعو إلى الاندماج الجماعي، مثّلها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي رفع شعار المساواة ومناهضة التمييز والقمع ضد المواطنين العرب، دون أن يتحدى جوهر النظام الإسرائيلي، أي البنية العرقية والكولونيالية، في إطار شعار "دولتين لشعبين"، الذي تبناه الحزب وأوساطه المؤيدة.
وبعد أكثر من عقد ونصف على مسيرة حزب التجمع، تعاظم قمع نظام الأبرتهايد ومحاصرته برنامج التجمع، حتى وصلنا إلى نوع جديد من الأسرلة، بدأت بتوصية أحزاب عربية مجرمي حرب رؤساء لحكومة إسرائيل، ثم تبعها اندماج حزب عربي إسلامي في نظام الأبرتهايد، وتحوله عملياً إلى جزء من منظومة القهر.
تستند نسخة الأسرلة الجديدة إلى الاندماج الفردي، وتدعي تطور المجتمع الفلسطيني عبر النجاح الفردي. حمل هذا التوجه شرائح من الطبقة الوسطى، التي توسعت في العقد الأخير، بفضل التطور الاقتصادي الإسرائيلي، ونتيجة الانفتاح النسبي على الكوادر العربية المهنية، في ظل تآكل المرجعية الوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر. على هذه الأرضية اندمج تيار عربي سياسي؛ الحركة الإسلامية الجنوبية، في حكومات إسرائيل.
عند تقييم الظاهرة، نجد في اتساع الطبقة الوسطى وتحسين مستوى المعيشة تطوراً مهماً للمجتمع الفلسطيني ومستقبله، لكنه يُضحي خطراً عند غياب مرجعية سياسية وطنية جامعة، توجه الطبقة التي تختزن إمكانية التغيير والنهوض وطنياً وأخلاقياً.
هذا ما نفتقده اليوم داخل المناطق المحتلة عام 1948، إذ انحسرت قوة الأحزاب العربية، وتلاشت مكانة المرجعيات التمثيلية القطرية، كذلك المرجعيات الاجتماعية التقليدية؛ الحمولة، لذلك اشتدت سطوة الدولة العبرية، وازدادت وتيرة قهرها لنا.
بتنا اليوم أمام واقع جديد يحتاج إلى فهم ورد مختلفين، وأداء فاعل في نطاق جغرافي يشمل الوطن الفلسطيني الكامل؛ من النهر إلى البحر، صحبة الشتات الفلسطيني. يستند هذا التوجه إلى تحولات السنوات الأخيرة فلسطينياً، متمثلة بالهبات الشعبية المجيدة، والتحول الفكري نحو العودة إلى شعاري التحرير والعودة؛ التحرر الديمقراطي.
مجابهة الأسرلة في إطار مشروع تحرري جامع
يتأثر فلسطينيو 48 بأحداث الساحة الفلسطينية والمحيط العربي، سلباً أو إيجاباً، لذا لم تعد ممكنة؛ سياسياً وأخلاقياً، في ضوء ما يحدث عربياً وفلسطينياً، وبحكم توغل المشروع الاستعماري الاستيطاني، تجزئة المعركة الوطنية.
قلص المستعمر من تباين سياساته تجاه التجمعات الفلسطينية، بعد إقراره سيطرته العملية والدستورية على كل فلسطين؛ على اعتبارها حقاً حصرياً يهودياً. أي لم يترك مجالاً أمام الفلسطينيين سوى المضي قدماً في مسار العودة إلى أصل الصراع.
طبعاً لا يعني هذا إعفاء أو عدم قدرة فلسطينيي 48 على ابتكار أفكار وخطط ومبادرات وطنية متماسكة، من أجل مواجهة خطر التأسرل المتسارع؛ تعج الساحة بالمبادرات، وإعادة بناء مرجعية وطنية تواجه حكومات الأبرتهايد والقمع والمصادرة والهدم.
مقاومة المشروع الصهيوني مستمرة بأشكال عديدة ووتيرة متفاوتة، كذلك يتزايد تلاقي وتعاون الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، لكنه لم يتمخض حتى الآن عن بلورة مرجعية وطنية جامعة، أو رؤية موحدة واستراتيجية عمل جامعة.
يتفق معظم الساعين إلى التغيير على جملة من شروط التغيير، يمكن إيجازها بالنقاط الآتية:
- إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني، على اعتباره مشروعاً تحررياً من نظام استعماري استيطاني وفصل عنصري.
- إنهاء وظيفة السلطة الفلسطينية الأمنية، والتخلص من جميع قيود أوسلو.
- العمل على بناء جبهة شعبية عريضة، تتبنى استراتيجية تحررية طويلة الأمد، ووضع أهداف مرحلية.
- تعزيز وتطوير الجبهة العالمية؛ المدنية، ضد نظام الأبرتهايد، والاستعمار الاستيطاني، وحصار قطاع غزة، في صلبها حركة الـ BDS.
- تطوير وتعزيز جبهة عربية شعبية ضد التطبيع.
- العمل على إعادة الجامعة العربية تفعيل قرار المقاطعة.
كيف الطريق الى ذلك، ومن يقوم بهذه المهمة؟
خلق وبلورة كتلة شعبية حقيقية، من خارج الأطر التمثيلية الرسمية العاجزة والمنقسمة، تفرض انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، وتعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية كأداة تحرير وبناء، وتستعيد الميثاق الوطني وتحدثه بما يتلاءم مع تطلعات التحرر الوطني والديمقراطي الفلسطيني، بما يشمل تحرير اليهود من الصهيونية حتى يصبحوا مواطنين عاديين في فلسطين المحررة.
المضي قدماً نحو تحقيق هذه الأهداف له تأثير إيجابي على مواجهة فلسطينيي 48 ظاهرة الأسرلة، وحفظ وجودهم، ويعزز مساهمتهم ودورهم في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.
هذا ليس مجرد كلام؛ إلى جانب التحركات الشعبية المحلية الشاملة هناك تحركات ومبادرات لا تتوقف، في فلسطين التاريخية وفي الشتات، يحركها مناضلون ومناضلات، يسعون إلى بناء كتلة شعبية تاريخية تصنع التغيير والنهوض.