مرّ أكثر من شهر على توقف مفاوضات فيينا النووية بين إيران والمجموعة الدولية لإحياء الاتفاق النووي في 11 مارس/آذار الماضي. عودة كبار المفاوضين إلى بلدانهم، رافقها تفاؤل كبير بقرب التوصل إلى اتفاق وزيارة محتملة لوزراء خارجية الدول الأعضاء بالاتفاق النووي إلى فيينا للتوقيع عليه.
إلا أنه بعد مرور كل هذا الوقت من دون استئناف المفاوضات في ظلّ التصريحات الإيرانية والأميركية المتشددة والحديث عن أن فرص الاتفاق أو عدمه متساوية، ظهر تعثر المفاوضات وصعوبة التوصل إلى اتفاق، أقله في الوقت القريب.
توقف المفاوضات كان مصحوباً ببدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، والتي تحولت إلى العنوان الرئيسي في السياسة الدولية، فكان لها مفعولها على المفاوضات النووية، سواء لجهة تهميشها بعد أن كانت العنوان الدولي الأبرز لنحو عام، أو لجهة تأثيرها السلبي على الجهود الرامية للتوصل إلى اتفاق.
وتحولت روسيا من طرف مسهّل ووسيط بين الولايات المتحدة وإيران إلى طرف معرقل وباتت على قناعة، بحسب بعض المراقبين، بأن الاتفاق في ظروف الأزمة المتصاعدة مع الغرب لم يعد في مصلحتها.
تبقى مسألة رفع الحرس الثوري عن قوائم الإرهاب العائق الوحيد
توقفت المفاوضات لكن التحركات خارج فيينا لم تتوقف من أجل الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق لإحياء الاتفاق النووي، فاتخذت هذه الجهود أربعة خطوط ومسارات متداخلة ومتشابكة في الوقت ذاته، على الرغم من أن كل خط يعمل في ملف شبه مستقل عن الآخر.
ومن بين هذه المسارات، تبرز ثلاثة منها على شكل خطوط تفاوض غير مباشر بين طهران وواشنطن، فالخط الأول يمرّ عبر مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، التي تتولى مسؤولية التنسيق في الاتفاق النووي والمفاوضات الرامية إلى إحيائه.
والخط الثاني هو عبر سلطنة عمان الوسيط التقليدي بين الطرفين، والذي تركّز على إنجاز صفقة تبادل السجناء والإفراج عن أرصدة إيرانية.
والخط الثالث هو عبر طرف إقليمي آخر هو قطر ويهدف إلى جمع كل من واشنطن وطهران على طاولة التفاوض المباشر لحلحلة القضايا المتبقية والتوصل إلى اتفاق. والخط الرابع هو بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية لحل القضايا الخلافية بينهما بما يسهل ويمهد لاتفاق فيينا.
الخط التفاوضي الأول
بعد توقف المفاوضات النووية في فيينا، خلال الشهر الماضي، استمرت بشكل آخر، لكنها اقتصرت على إيران والولايات المتحدة، باعتبارهما الطرفين الأساسيين في الاتفاق النووي، كما أنه حسب التصريحات الإيرانية والأوروبية، لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه بين طهران وشركاء الاتفاق النووي الأوروبيين، والقضايا العالقة هي ثنائية بين إيران والولايات المتحدة.
وتقود مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي هذا الخط التفاوضي غير المباشر، الذي ما زال فعّالاً، وفق الخارجية الإيرانية، إذ أكد المتحدث باسمها سعيد خطيب زادة، أول من أمس الإثنين، في مؤتمره الصحافي الأسبوعي، أن نائب رئيس المفوضية أنريكي مورا، لا يزال ينقل "الرسائل" بين طهران وواشنطن.
وأشار إلى أن هذه الرسائل "بعيدة عن أدنى حلول" بشأن القضايا العالقة التي قال خطيب زادة إنها "تتجاوز مسألة رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية".
غير أن مصادر مطلعة مقربة من المفاوضات الإيرانية الأميركية، تؤكد لـ"العربي الجديد" أن قضية رفع الحرس من القائمة "تشكل الموضوع الوحيد العالق" الذي حال حتى اللحظة دون التوصل إلى اتفاق لإحياء الاتفاق النووي.
وتضيف المصادر، التي فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن الإدارة الأميركية قبل فترة أبدت "استعداداً" لشطب الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية مع الإبقاء على "فيلق القدس" بالقائمة والعقوبات ضد شركات ومؤسسات تابعة للحرس، مشيرة إلى أن الجانب الإيراني رفض المقترح وظل يصرّ على إخراج جميع مؤسسات الحرس من قائمة الإرهاب والعقوبات.
وتؤكد المصادر المطلعة أن "المفاوضات بشأن هذا الموضوع وصلت إلى طريق مسدود، ولم تعد الإدارة الأميركية مستعدة لرفع الحرس الثوري نفسه من القائمة".
ويستمر الجدل بشأن بقاء الحرس الثوري الإيراني على القائمة أو عدمه، فيما أكد وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، في رسالة مكتوبة في يوليو/تموز 2021 إلى البرلمان الإيراني، في ختام الجولات التفاوضية الست التي أجرتها حكومة الرئيس السابق حسن روحاني، أن الطرف الأميركي قد وافق على شطب الحرس من قائمة الإرهاب، مما يعني تراجع الإدارة الأميركية عن ذلك في مفاوضاتها مع الحكومة الإيرانية الجديدة المحافظة.
وتلفت المصادر المطلعة إلى أن هذا الموضوع "لم يكن الوحيد الذي يعمل مورا على حله"، لتشير في السياق إلى أن "الاتحاد الأوروبي نجح في دفع الطرفين باتجاه تفاهمات غير معلنة في ظل صعوبة التوصل إلى اتفاق في الوقت الراهن"، موضحة أن الإدارة الأميركية منحت الضوء الأخضر لعودة إيران إلى سوق الطاقة "بطريقة غير رسمية بحيث إنها في الفترة الحالية تبيع يومياً أكثر من مليوني برميل من نفطها".
وتضيف أن إيران في المقابل "ستتجنب اتخاذ خطوات نووية تصعيدية وستسهل عمليات التفتيش للوكالة الدولية للطاقة الذرية وتزيدها بشكل محدود، فضلا عن خفض إجراءات نووية محددة".
ولم تكشف المصادر المقرّبة من المفاوضات الإيرانية الأميركية غير المباشرة عن طبيعة هذه الإجراءات، لكنها على ما يبدو مرتبطة باليورانيوم عالي التخصيب الذي لطالما ظلت الولايات المتحدة والأطراف الأوروبية تنظر إليه بحساسية بالغة.
وتشير المصادر إلى أن "ما يحصل حالياً بين الطرفين من تفاهمات يشبه اتفاقاً مؤقتاً غير معلن يهدف إلى إدارة المرحلة الحالية"، مبينة في الوقت ذاته أن "هذه التفاهمات ليست مرتبطة بجدول زمني محدد وجاءت مدفوعة بمصالح مؤقتة ولذلك تبقى تفاهمات هشة قد تنهار في أي لحظة".
الخط العماني
تُعتبر سلطنة عمان وسيطاً قديماً بين طهران وواشنطن منذ أكثر من 4 عقود. وحول هذه الوساطة يتحدث الرئيس الرابع لإيران، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الراحل، علي أكبر رفسنجاني، في مذكراته، عن أن عمان اقترحت في السنوات الأولى من الثورة (الإيرانية في عام 1979) التوسط بين إيران والولايات المتحدة، لكن الوساطة ظهرت بشكل بارز في الملف النووي منذ عقدين تقريباً.
وهو ما دفع مسقط لجمع الطرفين على طاولة تفاوض مباشر لأول مرة في عام 2012، وقد تطور ذلك إلى التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015 في فيينا، بعد اتفاق أولي في لوزان السويسرية.
الخط العماني يعمل حالياً على إنجاز صفقة تبادل السجناء بين الولايات المتحدة وإيران، فضلاً عن الإفراج عن أرصدة إيرانية في الخارج في إطار الصفقة.
مع ذلك، تحاول مسقط أيضاً تقريب وجهات النظر بين الطرفين لحلحلة القضايا المتبقية بمفاوضات فيينا والتوصل إلى اتفاق، لكن جهودها منصبة ومركزة على صفقة التبادل، حسب ما تكشف عنه مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد".
وتضيف المصادر أن "هناك صفقة شبه جاهزة" بين الطرفين تشمل الإفراج عن ثلاثة سجناء مزدوجي الجنسية في إيران وسجناء إيرانيين في الولايات المتحدة، فضلاً عن الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج.
وتشير إلى أنه كان من المقرر أن يزور إيران وزير الخارجية العماني، بدر بن حمد البوسعيدي ومسؤول كبير بجهاز الأمن العماني، الأسبوع الماضي، لكن الزيارة تأجلت إلى أجل غير مسمى بسبب "مستجدات طارئة".
وتقول المصادر إن واشنطن "يبدو أنها غير راغبة بإنجاز الصفقة في هذا التوقيت"، مشيرة إلى أنها "ستتأخر بعض الوقت". وتوضح المصادر أن هذا الملف "بعيد" عن مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي، "لكن إنجاز الصفقة سيعزز التفاهمات غير المعلنة التي تم التوصل إليها عبر الوسيط الأوروبي".
وتلفت إلى أن الهدنة اليمنية (أُعلنت في 1 إبريل/نيسان الحالي) كانت حصيلة "تفاهمات إقليمية ودولية"، مؤكدة في السياق أن سلطنة عمان خلال الآونة الأخيرة زادت تواصلها مع إيران بشأن تهدئة الوضع في اليمن والوصول إلى هدنة "كانت مطلباً أميركياً لخفض التوتر في المنطقة".
خط إقليمي آخر
إلى ذلك، ينشط خط إقليمي آخر (قطر) بين إيران والولايات المتحدة، مؤدياً دوراً مكملاً لمهمة مورا. ويركز هذا الخط على جمع الطرفين الأميركي والإيراني على طاولة تفاوض مباشر لحل القضايا المتبقية في مفاوضات فيينا، حسب ما تكشف مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد".
وتضيف المصادر أن هذا الطرف الإقليمي (قطر) يسعى إلى إقناع إيران بالتفاوض مباشرة مع الولايات المتحدة، مشيراً إلى أن طهران ما زالت ترفض ذلك و"تربطه بتنازل كبير في مجال الإفراج عن أرصدة إيرانية" في الخارج.
وفي السياق، زار وفد إقليمي قطري رفيع المستوى، طهران، يوم الأربعاء الماضي، وفق المصادر المطلعة التي تؤكد أنه ناقش مع الإيرانيين مفاوضات فيينا وإمكانية التفاوض المباشر مع واشنطن والإفراج عن أموال إيرانية وحجمها.
وتشير المصادر إلى أن "الموقف الإيراني من التفاوض المباشر لم يعد بذلك التشدد السابق، لكن طهران لم تعط بعد موافقتها على هذا النوع من التفاوض"، كاشفة أن "المفاوضات المباشرة إن بدأت على الأرجح ستبدأ بشكل سري في عاصمة إقليمية"، مع الحديث عن أن "العامل الآخر الذي يجعل الجانب الإيراني متردداً بشأن الموافقة على الجهود القطرية للمفاوضات المباشرة مع الجانب الأميركي، هو أن سلطنة عمان هي التي كانت تمسك بهذا الملف منذ عقود واحتضنت مفاوضات سرية بين الطرفين سابقاً، وعليه ليس سهلاً القبول بانتقال الملف إلى طرف إقليمي آخر واحتضانه هذا الحوار".
الخط الرابع
بموازاة العمل في الخطوط الثلاثة، ما زالت الحوارات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية مستمرة بشأن حلحلة القضايا الخلافية المتبقية بينها حول ثلاثة مواقع مشتبه بممارسة أنشطة نووية غير معلنة فيها، بعد أن عثر مفتشو الوكالة قبل عامين على مواد نووية فيها.
وتؤكد المصادر المواكبة للمفاوضات النووية في فيينا لـ"العربي الجديد" أن الحوارات بين الطرفين لحل القضايا الخلافية "تجري بشكل جيد حتى هذه اللحظة وفق الجدول الزمني المنصوص عليه بالاتفاق المبرم مطلع مارس" الماضي.
وتشير إلى أن "مسار التعاون بين طهران والوكالة الدولية له دور كبير في تثبيت التفاهمات غير المعلنة بين الحكومتين الإيرانية والأميركية لإدارة مرحلة اللااتفاق الحالية من جهة، ومن جهة ثانية في التوصل إلى اتفاق نهائي بمفاوضات فيينا".
صاغ العُمانيون صفقة شبه جاهزة للإفراج المتبادل عن سجناء
وتضيف المصادر أن هذا الخط "يسير بشكل شبه مستقل" عن مفاوضات فيينا، "لكن من دون إنهاء الخلافات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية من الصعب بمكان تصور التوصل إلى اتفاق في المفاوضات المتعثرة، بسبب الموقف الإيراني الذي يربط بين الاتفاق وضرورة إغلاق ملف خلافاتها مع الوكالة".
وتلفت إلى أنه "وفقاً لمسودة اتفاق فيينا ستنفذ إيران خطواتها النووية الأساسية بعد نهاية الجدول الزمني المحدد لخلافاتها مع الوكالة الدولية في أواخر شهر يونيو/حزيران المقبل".
كما أن "بقاء قضايا عالقة أخرى وعدم الانتهاء من مسودة الاتفاق النهائي سيقلّص فرص حل الخلافات بين طهران والوكالة الدولية، لأن الطرف الغربي لا يبدو مستعداً لإغلاق هذه الخلافات في ظل تعثر مفاوضات فيينا في الوصول إلى اتفاق نهائي".