على الرغم من أن القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي لم ينقطع طيلة سنوات اعتقاله التي تدخل اليوم عامها العشرين عن المشهد السياسي الفلسطيني، إلا أنه يعود هذه المرة ليتصدر عناوين الأخبار بزلزال سياسي عبر دعمه قائمة "الحرية" للانتخابات التشريعية المقررة في مايو/ أيار المقبل مقابل قائمة حركة "فتح" الرسمية، ونيّته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في يوليو/ تموز المقبل من دون توافق مع قيادة "فتح" حتى الآن.
وتتصدّر أخبار البرغوثي القابع في سجن "هداريم" الإسرائيلي المشهد فتحاوياً وفلسطينياً، محدثة دوّامات من الأسئلة والتوقعات، بعد أن رمى القيادي المعتقل بحجر ثقيل في بركة الانتخابات التشريعية والرئاسية. ويحظى البرغوثي الذي اعتقله الاحتلال الإسرائيلي في 15 إبريل/ نيسان 2002، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة أحكام مؤبدات (مدى الحياة)، برمزية كبيرة كما جميع الأسرى من ذوي الأحكام العالية، فحكم المؤبد يعني أن المعتقل قاد أو نفّذ مقاومة مسلحة مباشرة ضد الاحتلال وأوقع في صفوفه خسائر بشرية. لكن ما يميّز البرغوثي أيضاً أنه وافد من المستوى السياسي الفلسطيني وليس الميداني فقط، كما هو حال غالبية الأسرى الفلسطينيين في حركة "فتح" تحديداً.
بدأ البرغوثي المقاومة مبكراً فقد اعتُقل أول مرة وهو على مقاعد الثانوية العامة وحُكم بالسجن خمس سنوات. ولاحقاً ترأس مجلس طلبة جامعة بيرزيت لثلاث دورات، والتي كانت في حينه إحدى أهم بؤر العمل الوطني في الأرض المحتلة، قبل أن يتم إبعاده إلى الخارج عام 1987. واصل عمله المقاوم ليربط بين ساحة الأرض المحتلة وساحة الشتات حيث القيادة الفلسطينية لمنظمة التحرير، ويترشح في مؤتمر "فتح" الخامس عام 1989 ويفوز بمقعد في المجلس الثوري، ويعود إلى رام الله عام 1994 بعد اتفاق أوسلو الذي تأسست بموجبه السلطة الوطنية الفلسطينية وأعاد آلاف الفلسطينيين مع قيادة المنظمة من الشتات.
دعم البرغوثي قائمة "الحرية" للانتخابات التشريعية وينوي الترشح للرئاسيات
بعد نحو أسبوع من عودة البرغوثي تأسست اللجنة الحركية العليا لـ"فتح"، أي الإطار التنظيمي للحركة، بإيعاز من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وترأسها الراحل فيصل الحسيني، فيما أصبح البرغوثي أمين سرّها وهو المنصب الفعلي في الحركية التي بدأت تضعف وتتفسخ عام 1999 وتلاشت مع الانتفاضة الثانية وهيمن اسم آخر هو "تنظيم حركة فتح" أو اختصاراً "التنظيم"، والذي أصبح حالياً إحدى مفوضيات الحركة العديدة باسم "مفوضية التعبئة والتنظيم".
وتقول قيادات من حركة "فتح" إن عرفات أوكل للبرغوثي المهمات الفعلية في الحركية العليا لـ"فتح" وأغدق على ميزانيتها الأموال، لأنه لم يرَ في البرغوثي منافساً له على رئاسة "فتح" عكس الحسيني في ذلك الوقت، الذي كان يشكل منافسة جدية لأبو عمار. أمانة سر الحركية العليا أعطت البرغوثي مزيداً من نقاط القوة على الأرض ليدعم تنظيم حركة "فتح" وأعضاءها في مختلف الأقاليم بالضفة الغربية وقطاع غزة، ويصبح الرجل القوي في التنظيم الذي يحتاج إلى موازنة مالية وعناصر فاعلة على الأرض، ولاحقاً عام 1996 ترشح للانتخابات التشريعية وفاز عن كتلة "فتح" ليصبح نائباً في المجلس التشريعي.
مع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000، ذاع صيت البرغوثي عربياً ودولياً بعد أن تصدّر الفضائيات العربية الإخبارية من عام 2000 إلى إبريل/ نيسان 2002 متحدثاً باسم "كتائب شهداء الأقصى" واليد اليمنى لمؤسسها عرفات، بعد أن وصلت المفاوضات مع إسرائيل إلى طريق مسدود في قمة "كامب ديفيد" عام 2000 وأدرك عرفات حينها أنه دخل في دوامة وهم "أوسلو" الذي لن يعطيه دولة فلسطينية على أي شبر، إذ كان احتقان الشارع الفلسطيني في أوجّه حينها وفجّره اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها أرييل شارون للمسجد الأقصى.
البرغوثي، والذي كان يقود المسيرات والتظاهرات في الشوارع، كان مثل أي فلسطيني، بملابس عادية من دون ربطة عنق أو بدلة رسمية، لكن يؤخذ عليه أنه كان ضالعاً في النشاطات التطبيعية مع أحزاب ومؤسسات إسرائيلية بداية تأسيس السلطة، لكن الفتحاويين القريبين منه يقولون "كانت مرحلة مختلفة تماماً، كنا نريد السلام مع إسرائيل"، لكن عندما أدرك عرفات أن إسرائيل لن تعطيه دولة واكتفت بأن تكون المرحلة الانتقالية هي كل شيء، تحرك من معسكر السلام والتطبيع إلى دعم المقاومة المسلحة، وكان من الطبيعي أن ينتقل البرغوثي معه.
بشكل شبه يومي كان البرغوثي يخرج على الفضائيات ليحمّل إسرائيل مسؤولية بركة الدم التي باتت تسبح فيها الضفة الغربية باستخدام الأسلحة الإسرائيلية الثقيلة، والتي تصدّرت في بدايتها "فتح" العمل المسلح ضد إسرائيل، ليصبح مطلوباً للاحتلال الذي حاول اغتياله أكثر من مرة، قبل أن ينجح باعتقاله في 15 إبريل 2002 من رام لله، ويوجّه له تهم تمويل "كتائب شهداء الأقصى" وإعطائها الأوامر بالعمليات المسلحة ضد أهداف إسرائيلية.
اعتقال البرغوثي ومن ثم عرضه على محاكمة مدنية إسرائيلية زاد من شهرته، واختارت إسرائيل محكمة مدنية وليست عسكرية له ولعدد من قادة "شهداء الأقصى"، أبرزهم ناصر عويص، لتثبت للعالم أن محاكمها عادلة وأنها ليست دولة عسكرية محتلة. لكن سرعان ما انقلب الأمر بعد حضور المئات للمحاكمات العلنية، التي ندمت إسرائيل لاحقاً على علنيتها بسبب توافد نواب من كل برلمانات العالم للتضامن مع النائب الأسير البرغوثي، والذي رفض المحكمة وأكد عدم شرعيتها ورفض توكيل محامٍ عنه، وترافع عن نفسه، وكذلك عويص الذي رفض الاعتراف بالمحكمة. وقال عويص في حديث سابق: "البرغوثي كان الرجل الوحيد من المستوى السياسي الأول بعد عرفات الذي احتضن كتائب شهداء الأقصى ودافع عنها وعن المقاومة أمام وحشية إسرائيل وخرج في الفضائيات العربية ليقول ذلك علناً".
طوال سنوات اعتقاله التسع عشرة الماضية، ازداد نفوذه في "فتح"، والذي كان يعكس أكثر من مرة تناقضه مع بعض القيادات المهيمنة على "فتح"، وليس تناقضاً مع الحركة، وأعلن نيّته الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2005 ضد الرئيس محمود عباس، واستغرق الأمر العديد من الزيارات التي قامت بها قيادات في "فتح" لثنيه عن هذا القرار، إذ زاره وزير الشؤون المدنية جميل الطريفي، وشخصيات مثل قدورة فارس، وأحمد غنيم وزياد أبو عين وغيرهم، إلى أن تراجع عن قراره. ووصف أحدهم لـ"العربي الجديد" ما جرى في حينه بالقول "كانت مهمة متعبة جداً في حينه إقناع مروان بعدم الترشح للرئاسة مقابل أبو مازن".
وفي كل نقطة تحوّل فلسطينية كان المسؤولون الفلسطينيون يذهبون لزيارته في سجن "هداريم". وعلّقت زوجته فدوى البرغوثي لـ"العربي الجديد" على ذلك بالقول: "أوقف مروان مساعيه للترشح عندما أعلنت الدول المانحة التي كانت تريد عمل مؤتمر لإعادة إعمار الضفة الغربية بعد عمليات التخريب الإسرائيلي الواسعة لها، أن هذا الترشح يجعلنا نعيد النظر، والإقليم لم يكن جاهزاً لأن يرشح أسير نفسه، خصوصاً بعد ياسر عرفات، خوفاً من حالة الفلتان الأمني".
التناقض الكبير بين البرغوثي وقيادة "فتح"، تجلّى أكثر في إضراب الكرامة 2017
لكن مروان البرغوثي تصدّر قائمة "المستقبل" للانتخابات التشريعية عام 2006 والتي كان فيها القيادي المطرود من حركة "فتح" محمد دحلان، وجبريل الرجوب وقدورة فارس وآخرون، قبل أن يتم حلها في اللحظات الأخيرة. وعام 2006 شارك البرغوثي بشكل رئيسي مع قيادات "حماس" و"الجبهة الشعبية" و"الجهاد الإسلامي" والجبهة الديمقراطية" في المعتقلات، في صياغة وثيقة "الوفاق الوطني" لإنهاء الانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس". أما عام 2009 فشارك البرغوثي في المؤتمر السادس للحركة الذي عُقد في مدينة بيت لحم، ووجّه كلمة مكتوبة قاسية لقيادة "فتح" التي جمعت بين قيادة التنظيم والسلطة، منتقداً "الجمع بين العمل في الأجهزة الأمنية والعمل التنظيمي"، وقال: "من يتباكون على حال "فتح" هم من أسهموا في إضعافها وترهلها وفي تعطيل المؤتمرات الحركية، لأن مراكزهم في السلطة أهم من الحركة"، في انعكاس واضح لمدى التناقض الذي يحمله البرغوثي لبعض قيادة الحركة والمتنفذين فيها، وفاز في المؤتمر وكان ترتيبه الثالث.
أما في المؤتمر السابع للحركة 2016 فقد فاز بشكل كاسح. أما التناقض الكبير بين البرغوثي وقيادة "فتح"، فتجلّى أكثر في إضراب الكرامة 2017 الذي قاده البرغوثي وعدد من قيادات "فتح" في المعتقلات، أبرزهم ناصر عويص، لمدة 43 يوماً، وتعاطت القيادة الفلسطينية مع الإضراب وما صاحبه من احتجاجات في الشارع على أنه محاولة للانقلاب على عباس، إلى أن تم إنهاء الإضراب عبر تدخّل قيادات فتحاوية من الخارج، ما جعل زوجة البرغوثي، وهي عضو مجلس ثوري في "فتح"، تهاجم جبريل الرجوب في اجتماع للثوري حينها وتتهمه بالتآمر على إضراب الأسرى، كما نشرت "العربي الجديد" حينها.