تمثل الذكرى الثلاثين لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام مناسبة ليست فقط للتذكير بدلالات الحدث الاستراتيجي وإنما بتواصل العملية نفسها في سياقيها الفلسطيني والعربي، وكما العادة مع تحديثات وتحولات لصالح إسرائيل بعيدا عن العناوين وأهداف العملية "على علاّتها"، كما تم الإعلان عنها في العاصمة الاسبانية قبل ثلاثة عقود.
للتذكير، فقد انعقد مؤتمر مدريد للسلام برعاية أميركية جوهرية وروسية وأممية شكلية، بحضور الدول العربية وإسرائيل ومشاركة منظمة التحرير الفلسطينية ضمن وفد أردني فلسطيني مشترك من أجل حلّ الصراع العربي الإسرائيلي وفق القرارات الدولية 242 و338 وقاعدة الأرض مقابل السلام، بمعنى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في يونيو/ حزيران 1967 مقابل إنهاء العرب حالة العداء وقبولهم بتحقيق السلام معها.
قبل الحديث عن التداعيات والآثار لا بد من التعاطي أولاً بجدية واهتمام مع دلالات مؤتمر مدريد الذي مثّل تعبيراً عن انتهاء الحرب الباردة إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ووقائع ما بعد حرب الخليج الثانية -1990 - التي شهدت تدمير وحصار العراق وإخراجه عملياً من دائرة الصراع العربي مع إسرائيل.
مؤتمر - عملية مدريد للدقة كان تعبيراً كذلك عن النظرة الأميركية للمشهد في الحوض العربي الإسلامي "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" عبر إطلاق عملية سلام ومفاوضات بين العرب وإسرائيل تكسر الحاجز النفسي، وتنهي عملياً حالة الحرب والعداء حتى لو لم يتم التوصل إلى سلام نهائي بمعنى أن العملية نفسها هي المهمة بغض النظر عما تحققه من نتائج.
مؤتمر مدريد كان تعبيراً أو تجسيداً كذلك لقبول أميركا والمجتمع الدولي بالشرعية الدولية وقراراتها كأساس لحل الصراع العربي الإسرائيلي، مع ترك التنفيذ وحتى التفسير للأطراف المتفاوضة وبالطبع لموازين القوى المختلة على الأرض، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لصالح إسرائيل.
في هذا السياق، لا بد من الانتباه إلى أن الدولة العبرية رفضت المشاركة في المؤتمر ثم فعلت ذلك مضطرة وتحت ضغوط شديدة من الإدارة الأميركية "الجمهورية" بقيادة الرئيس جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر، والتي وصلت إلى حجب ضمانات لمساعدات مالية ضخمة عنها ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق شامير للمشاركة، ولكن بشعار أننا سنفاوض العرب مائة عام دون التوصل إلى نتيجة في فلسطين تحديداً، علماً أنه عرّاب ومعلم رئيس الوزراء السابق أيضاً بنيامين نتنياهو الذي سار على نفس القاعدة مع تحديثات وتأويلات خاصة به منها إقراره النظري بحلّ الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية ناقصة وحكم ذاتي زائد، كما اعتاد القول دائماً.
في ما يتعلق بالدلالات، لا بد من الإشارة إلى أن أميركا الجمهورية "وحتى الديمقراطية في ما بعد" تصرفت دائماً وفق مصالحها ومصالح إسرائيل المتساوقة معها عبر السعي لإنهاء الصراع وفق موازين القوى الراهنة ودمج إسرائيل في نسيج المنطقة لإنقاذها من نفسها ومن انهيار حتمي في حالة استمرار الصراع بدون حلّ.
في الدلالات أيضاً مثلت عملية مدريد إنهاء أو إلغاء لاءات قمة الخرطوم العربية الشهيرة الثلاث لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض، حيث قبلت الدول العربية المركزية وتحديداً دول الطوق مع فلسطين بالتفاوض المتضمن اعترافا صريحا بإسرائيل وسعيا للتوصل إلى صلح واتفاق معها وفق قواعد أو نقاط توافق الحد الأدنى العربية، أي قراري 242 و338 وقاعدة الأرض مقابل السلام مع إسرائيل الذي تحوّل إلى خيار استراتيجي للعرب، كما تبدى في المبادرة الشهيرة الصادرة عن قمة بيروت 2002 التي ألغت أيضاً وبأثر رجعي مقررات ولاءات الخرطوم.
في النتائج والآثار فلسطينياً أنتج مؤتمر - عملية مدريد اتفاق - عملية أوسلو الانتقالي المرحلي 1993 بغرض التوصل إلى حل نهائي خلال خمس سنوات 1999 وفق قواعد مدريد وما بات يعرف بحلّ الدولتين.
إلا أن الوضع الانتقالي تحوّل إلى دائم، وباتت السلطة الفلسطينية في الذكرى الثلاثين للمؤتمر تقبل بالواقع الراهن، حيث لا سلطة ولا دولة مفضلة بقاءها بحد ذاته دون أفق سياسي واضح ومحدد المعالم، ومتجاهلة حقيقة مهامها المركزية كجسر نحو إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.
عربياً؛ أثمر مؤتمر – عملية مدريد اتفاقا ثنائيا مع الأردن رغم أنه ارتبط مباشرة بأوسلو الفلسطيني بموازاة فشل المسارين السوري واللبناني بعدما كان الاتفاق قاب قوسين أو أدنى، خاصة في السياق السوري.
عربياً أيضاً، فشل الحل الإقليمي الساعي لإقامة سلام عربي إسرائيلي شامل يتضمن التطبيع والتعاون في ملفات وقضايا إقليمية مثل اللاجئين والمياه والاقتصاد، ولكن على قاعدة أن إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي مرتبط بحل القضية الفلسطينية. وهو ما رفضته إسرائيل اليمينية مفضلة إدارة لا حل الصراع والإقلاع حتى عن التطبيع والسلام الإقليمي المرتبط بدفع الثمن الفلسطيني.
تبدى هذا الفهم اليميني في إقامة الجدر والأسوار مع المحيط العربي والانطواء والخطوات الأحادية تجاه الفلسطينيين من أجل إدارة الصراع بأقل ثمن ممكن، والتي تم تحديثها إسرائيلياً بقاعدة تقليص الصراع لا حلّه لرئيس الوزراء نفتالي بينت.
في الذكرى الثلاثين لمدريد بات السلام الإقليمي أو للدقة العلاقات العربية الإسرائيلية الإقليمية غير مرتبطة مباشرة بالقضية الفلسطينية ومدريد وقواعده على علاّتها، وإنما بالاتفاقيات الإبراهيمية حيث التطببع بعيداً عن القضية الفلسطينية، بل طعنة لها، وتجاهل جوهر المبادرة العربية، علماً أنه لا يدار من الدول العربية المركزية ودول الطوق وإنما من الأطراف في الإمارات العربية المتحدة أبوظبي بدعم كامل من إدارة دونالد ترامب الجمهورية السابقة وحتى إدارة جو بايدن الديمقراطية الحالية رغم حديثها النظري عن حلّ الدولتين بموازاة إقرارها أنه غير مطروح على الأجندة حالياً.
في هذا السياق يمثل اتفاق الكهرباء مقابل الماء الأخير الذي تم توقيعه في أبوظبي بمشاركة عمان وتل أبيب، ورعاية مباشرة من واشنطن أفضل تجسيد لمدريد الإبراهيمي وأقصى أحلام مدريد القديم وشيمون بيريز وشرق أوسطه الجديد لم تصل إلى ذلك.
التطبيع الإبراهيمي لا يتجاوز القضية الفلسطينية فقط، وإنما يعيد إنتاج الأنظمة العربية الفاشلة، أنظمة مدريد وقراري 242 و338 التي أسقطتها الثورات بعد فشلها في امتحانات الخبز والحرية والكرامة، وامتحان فلسطين، وهي كانت قد قبلت أساساً بالسلام كخيار استراتيجي للاستقواء على شعوبها ونيل الشرعية، والمساعدات الأميركية لحلّ مشاكلها وأزماتها الداخلية.
في الأخير وباختصار، يمكن التأكيد أن نجاح مدريد فلسطينياً لن يستمر إلى الأبد كون السلطة ميتة سريرياً وإدارة الصراع لا يمكن أن تتواصل أو تنقذ إسرائيل من ورطتها الوجودية ونهايتها الحتمية ككيان استعماري طارئ وغريب عن المنطقة وتاريخها ونسيجها الاقتصادي الاجتماعي.
أمر مماثل يمكن قوله عن مدريد العربي - التطبيعي الإبراهيمي الذي سيتواصل في المدى المنظور أيضاً لكن لا فرصة لنجاحه وتوسعه عربياً وإقليمياً في ظل الرفض الشعبي العنيد والواسع، ودون حلّ القضية الفلسطينية حلاًّ عادلاً يرتضيه أصحاب القضية أنفسهم وممثلوهم الشرعيون.