استمع إلى الملخص
- **الصراع على إدارة المصرف المركزي**: اشتد الصراع حول إدارة المصرف المركزي بعد قرار المجلس الرئاسي بتغيير المحافظ، مما دفع مجلس النواب إلى رفض القرار وتحشيد عسكري حول مقر المصرف في طرابلس.
- **تداعيات الخلاف على الوضع السياسي والأمني**: أدى الخلاف إلى انقسام التشكيلات العسكرية وتهديدات بإغلاق الحقول النفطية، مما قد يدفع المجلس الرئاسي إلى إعلان حالة الطوارئ وتجميد عمل المجلسين، مع احتمال تدخل المجتمع الدولي.
في تطور جديد لفصول الصراع الليبي الذي تعددت أقطابه طوال سنوات أزمة البلاد الماضية، برز المجلس الرئاسي طرفاً جديداً تصدّر المشهد في مواجهة مجلس النواب، إذ أصدر مجلسا الرئاسي والنواب في ليبيا أخيراً عدة قرارات أدت إلى تصاعد الخلاف بينهما وتسارعه إلى حد تأثيره في الوضع الأمني والعسكري الهشّ في البلاد.
وبدأت أولى مظاهر الصدام بين مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا إثر إعلان المجلس الرئاسي، مطلع الأسبوع قبل الماضي، إنشاء مفوضية للاستفتاء لطرح القرارات التشريعية والسياسية على الشعب للاستفتاء عليها، أعقبه إعلان مجلس النواب "إنهاء ولاية السلطة التنفيذية (المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية) التي جاءت بالمرحلة التمهيدية" لانتهاء مدة اتفاق جنيف منتصف عام 2022، بالإضافة إلى سحب صفة القائد الأعلى للجيش من المجلس الرئاسي ونقلها إلى رئيس مجلس النواب.
وعلى الرغم من أن سحب مجلس النواب صلاحية القائد العام للجيش من المجلس الرئاسي جاء في أعقاب إصدار المجلس الرئاسي بهذه الصفة أوامره "بعودة القوات كافة إلى ثكناتها بشكل فوري" ومنع أي تحرك دون إذنه، لكونه القائد الأعلى للجيش، إثر تحريك خليفة حفتر مليشياته باتجاه مدينة غدامس الغنية بحقول الغاز والخاضعة للحكومة بطرابلس، إلا أن مسار الصدام بين مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا تحول سريعاً صوب المؤسسة المصرفية، المناط بها التصرف في أموال موارد النفط. فقد أصدر المجلس الرئاسي، مطلع الأسبوع الماضي، قراراً لتغيير محافظ المصرف المركزي وإعادة تشكيل مجلس إدارته بوضع قرار سابق لمجلس النواب أصدره عام 2018 بإقالة المحافظ الحالي الصديق الكبير وتعيين المصرفي محمد الشكري بديلاً له موضع التنفيذ، فرد مجلس النواب بإعلان وقف العمل بقرار تعيين الشكري واستمرار تفويض الكبير في منصبه.
عقيلة الأطرش: إنشاء مفوضية الاستفتاء فجر الخلاف بين المجلسين بشكل معلن
ورغم تكرار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح تأكيد بطلان قرار المجلس الرئاسي بشأن تغيير محافظ المصرف المركزي لعدم امتلاكه صلاحية تعيين شاغلي المناصب السياسية التي تحصرها المادة الـ 15 من الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات (2015) في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، إلا أن المجلس الرئاسي مضى في تنفيذ قراره استناداً إلى صلاحياته الرئاسية التي منحها له اتفاق جنيف، خصوصاً المادة الثانية منه التي تسمح له بالتعيين في المستويات القيادية لمؤسسات الدولة.
تصعيد مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا
وشقّ تصعيد مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا وحدة صف التشكيلات العسكرية المسيطرة على طرابلس، وأبرز خلافات بينها إلى حد التحشيد العسكري والانجرار إلى مواجهة مسلحة صباح أمس الأول الجمعة. واصطفت بعض التشكيلات المسلحة التي تؤمّن مقر المصرف إلى جانب محافظ المصرف الحالي الصدّيق الكبير الرافض لقرار الرئاسي، وأخرى اصطفت إلى جانب الرئاسي والحكومة، وكانت على وشك اقتحام مقر المصرف لتمكين مجلس إدارة المصرف، الذي كلفه الرئاسي، البدء بأعماله. لكن عدة وساطات محلية، إلى جانب البعثة الأممية، استطاعت تهدئة الوضع، وإقناع طرفي التحشيد بأن الأمر إجراء إداري للمجلس الرئاسي.
وفي مقابل هذا الإصرار من جانب المجلس الرئاسي، هدد عقيلة صالح بإغلاق الحقول النفطية لمنع تحويل إيراداتها إلى المصرف المركزي في حال تنفيذ المجلس الرئاسي قراره بتغيير محافظ المصرف. واتهم صالح المجلس الرئاسي، خلال تصريحات أدلى بها لتلفزيون مقرب منه مساء الخميس الماضي، بالسعي لنهب المال العام من خلال تغيير إدارة المصرف ومحافظه.
وبعد توتر أمني عالٍ عاشته طرابلس خلال الساعات الأولى من صباح الجمعة الماضي على وقع تحشيدات عسكرية بالقرب من مقر المصرف، خرج وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي، في مؤتمر صحافي، ليعلن انتهاء حالة التوتر واتفاق أمراء التشكيلات المسلحة كافة، برعاية الحكومة، على ترك مسألة تغيير إدارة المصرف للمجلس الرئاسي، وكذلك انسحابها من محيط مقارّ مؤسسات الدولة التي تؤمنها، وترك مسألة تأمين مقارّ المؤسسات لقوات وزارة الداخلية.
ومنذ تشكله مطلع عام 2021 لم ينخرط المجلس الرئاسي في الصراعات القائمة بين جميع الأطراف، بل صدّر نفسه طرفاً قادراً على التنسيق مع البعثة الأممية للوساطة بين الأطراف المتصارعة بسبب علاقته الجيدة بالجميع، بما فيهم مجلس النواب الذي التقى رئيسه عقيلة صالح رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي مرات عديدة، بل شاركا معاً في طاولة الحوار السياسي الثلاثية التي احتضنتها الجامعة العربية بالقاهرة في مارس/آذار الماضي، واشتركا في العديد من مخرجاتها، ومنها ضرورة تشكيل حكومة موحدة بديلة لحكومتي البلاد الحالية، حكومة الوحدة الوطنية وحكومة مجلس النواب.
وعلى الرغم من الهدوء الذي كان يطبع علاقة مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا إلا أن مظاهر الخلافات المبطنة بدت في العديد من المرات، منها اتهام عقيلة صالح أسرة المنفي بالوقوف وراء محتجين في طبرق أضرموا النيران في مقر مجلس النواب في يوليو/تموز 2022، وهو ما نفاه المنفي وقتها.
وعلى خلفية تنازع حكومتي البلاد، حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والحكومة المكلفة في مجلس النواب ببنغازي، على حق تنفيذ الميزانية المالية للدولة، شكل المجلس الرئاسي بالتنسيق مع البعثة الأممية في يوليو 2023 لجنة مالية عليا برئاسة المنفي، وبعضوية ممثلين عن أطراف الصراع كافة بهدف الاتفاق على هيكلة لميزانية موحدة للبلاد، قبل أن يعلن ممثلو مجلس النواب باللجنة، بعد أربعة أشهر من عملهم باللجنة، انسحابهم من عضويتها واتهامهم للمنفي بسوء إدارة اللجنة ووضع آلية لا تضمن تصميم ميزانية موحدة.
ترميم علاقة مجلس النواب والكبير
وبعد انسحاب ممثليه من عضوية اللجنة المالية، اتجه مجلس النواب لترميم علاقته بمحافظ المصرف المركزي، الصدّيق الكبير، بعد سنوات من القطيعة بسبب موالاة الأخير للحكومة في طرابلس ومنحه لها حق تنفيذ الميزانية المالية، فأصدر في ديسمبر/كانون الأول الماضي قراراً تراجع فيه عن قراره السابق عام 2018، بشأن إقالة الكبير من منصبه، وفوض إليه الاستمرار في منصبه، على أن يكون مرعي البرعصي، أحد أبرز ممثلي مجلس النواب المنسحبين من عضوية اللجنة المالية العليا، نائباً له.
وبدأ توتر مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا منذ ذلك الحين يظهر بشكل أكثر وضوحاً. فإثر إعلان مجلس النواب، مطلع يوليو الماضي، إقرار الميزانية المالية للعام الحالي لصالح الحكومة المكلفة منه بالتنسيق مع الكبير، أصدرت اللجنة المالية العليا برئاسة المنفي بياناً على الفور أعلنت فيه رفضها إصدار قرار الميزانية دون موافقتها، لاختصاصها باتفاق جميع الأطراف بوضع هيكلية وأبواب الميزانية وموافقتها قبل إصدار أي قرار بشأنها، لكن مجلس النواب أصر على المضي في قراره دون أي تعليق على اعتراض المجلس الرئاسي.
إنشاء مفوضية الاستفتاء فجّر الخلاف
وتصاعد خلاف مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا حول مساعي السيطرة على ملف إدارة أموال النفط، بحسب رأي الناشط السياسي عقيلة الأطرش، الذي لفت إلى أن قرار الرئاسي، مطلع الأسبوع قبل الماضي، لإنشاء مفوضية الاستفتاء فجّر الخلاف بين المجلسين بشكل معلن، وبدأ كل منهما بالسعي لسحب الصلاحيات من الآخر.
عبد الله الكبير: انقسام مجلس الدولة أضعف مجلس النواب بشكل غير مباشر
واعتبر الأطرش، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن إنشاء المجلس الرئاسي مفوضية الاستفتاء التفاف واضح على سلطة مجلس النواب، موضحاً أن "نصوص إنشائها تصرح بعرض القرارات التشريعية على الشعب للاستفتاء عليها وما ينتج من الاستفتاء يكون ملزماً للأطراف كافة، وبذلك يلغي المجلس الرئاسي حصانة كل قرارات مجلس النواب وسينتزع منه الشرعية التي يتكئ عليها ويناور بها الجميع، وهي أنه السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب".
وأكد الأطرش أن "أول خطوة كان سينفذها المجلس الرئاسي من خلال المفوضية استعادة سيطرته على إدارة ملف المال العام، لكن تسارع الأحداث تجاوزها، فحدة قرار مجلس النواب القاضي بإنهاء ولاية المجلس الرئاسي والحكومة دفع المجلس الرئاسي إلى المجاهرة بنياته بإصدار قرار تغيير محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير حليف مجلس النواب".
وبخلاف ما توقعه مجلس النواب من نجاح قراراته في عرقلة مساعي المجلس الرئاسي، إلا أنها ضيّقت عليه الخيارات، بحسب رأي الأطرش، الذي لفت الى أن قرار مجلس النواب إنهاء ولاية المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية قوى من علاقتهما، ومكن الرئاسي من حشد الحكومة القوية في طرابلس حليفاً له، خصوصاً أنها المتضرر الأول من عدم تمكنها من الحصول على الأموال بعد تحالف الصدّيق الكبير مع مجلس النواب.
وأضاف الأطرش: "في غضون مخاوف الجميع من انهيار المؤسسة المصرفية وحدوث تداعيات قد تصل إلى تضرر تعاملاتها الخارجية وانهيار قيمة الدينار، إذا حدث صدام مسلح بين المليشيات الموالية للكبير وتلك الموالية للمجلس الرئاسي، فقد حصل العكس بنجاح الحكومة في الضغط على تلك المليشيات للاتفاق على النأي بنفسها عن الخلافات حول المصرف، الأمر الذي جعل محافظ المصرف معزولاً داخل طرابلس، وهو ما قد يسهل على الرئاسي تغيير إدارة المصرف وتعيين محافظ بديل".
وفيما أعلن وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي، في مؤتمره الصحافي، أن تنفيذ خطة تسلم وزارته مقار مؤسسات الدولة، بما فيها مقر المصرف المركزي، سيكون في غضون عشرة أيام، قال الأطرش: "لو نجحت الحكومة في تنفيذ هذه الخطة، فستزداد قوة أوراق المجلس الرئاسي والحكومة وتتحسن صورتهما في أوساط المجتمع الدولي الذي يمانع تغيير إدارة المصرف بالقوة، لكنه لا يمانع إذا حدث ذلك سلمياً".
وأكد الأطرش أن صدام مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا يمثل حدثاً كبيراً قد يدفع المجلس الرئاسي باعتباره طرفاً جديداً فاعلاً في خريطة الصراع الليبي، لكنه في ذات الوقت اعتبر أن مجلس النواب "لا يزال يملك أوراق قوة للمناورة، مثل ارتباط مصالح دول إقليمية به كمصر وتركيا التي بدأت ترسم علاقات جديدة معه، فكلتاهما لن تسمح بإقصائه وإضعاف قوته. ويزداد موقفه الدولي قوة إذا نفذ تهديداته وأصدر أوامر بغلق حقول النفط الخاضعة لسيطرة خليفة حفتر حليف الروس، ما يؤدي إلى تعقيد أزمة المصرف المركزي".
انقسام المجلس الأعلى للدولة
لكن الصحافي والكاتب في الشأن السياسي عبد الله الكبير، لفت إلى جانب آخر ألقى بظلاله على قوة مجلس النواب بكونه طرفاً أساسياً في الصراع الليبي، وأدى إلى ضعفه أخيراً، وهو الانقسام الحاد الذي يعاني منه المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، شريكه الأساسي في العملية السياسية. ورأى الكبير، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "بداية الانهيار الذي يشهده مجلس الدولة بسبب انقسامه الحاد أخيراً على خلفية عدم اتفاقه على انتخاب رئيس له حتى الآن، أضعف مجلس النواب بشكل غير مباشر، فكلا مجلسي الرئاسي والنواب في ليبيا مرتبط وجوده بالآخر، لأن القرارات الكبيرة تستمد شرعيتها من اتفاق المجلسين عليها. وعلاوة على ذلك، فمجلس النواب لا يصدر قراراته كجهة تشريعية ملتزمة بالقوانين، وبالتالي لا تحظى قراراته بالاحترام المحلي والدولي، فانتهى إلى طرف غير فاعل بعيداً عن العاصمة التي لا يمتلك فيها أدوات التأثير".
ومن هذه الزاوية، رأى الكبير أن مجلس النواب ظهر ضعيفاً في معركته مع المجلس الرئاسي حول المصرف المركزي. وقال: "أعتقد أن مجلس النواب سيستسلم في نهاية المطاف، لأنه سيدرك أنه في ظل غياب مجلس الدولة وفي ظل غياب نصاب صحيح بمجلس النواب لن يستطيع التأثير في مجرى الأحداث الخاصة بالمصرف".
وعبّر الكبير عن اعتقاده بأن المجلس الرئاسي قد يُقدم على خطوات أخرى بإصدار "قرارات أخرى قد تحظى بدعم شعبي، مثل إعلان حالة الطوارئ وتجميد عمل مجلسي النواب والدولة". وأضاف: "أعتقد أن عقيلة صالح بات في خضم أحداث المصرف المركزي يستشعر وجود قوة دولية تشجع المجلس الرئاسي على اتخاذ قرارات من مثل تجميد المجلسين". وحول توقعه لمستقبل علاقة المجلسين، رأى الكبير أن عدم حسم الخلاف حول المصرف المركزي "قد يفضي إلى تدخل دولي وأممي لفرض حوار بين جميع الأطراف لحلحلة أزمة المصرف، وربما يحدث تغيير طفيف في شكل السلطة التنفيذية أيضاً بالتوافق بين مختلف الأطراف". أما إذا نجح المجلس الرئاسي في تغيير إدارة المصرف في الأيام القليلة المقبلة، فرأى الكبير أن "ما ستحرص عليه القوى الدولية وبعثة الأمم المتحدة في ظل الاضطرابات والأحداث الدولية السائدة الآن هو الحفاظ على حالة التوازن والهدوء في ليبيا ومنع أي توترات قد تؤدي إلى تفجر الأوضاع".