شهدت مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل في عام 1993 تراجعاً حاداً لتأثير المثقف الفلسطيني التحرري على الجسم الرسمي الفلسطيني، خصوصاً بعد تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) ومؤسساتها، وصعوداً "لمثقف السلطة" وانقلاباً في مواقف عدد من "مثقفي الثورة" لصالح الاستسلام لواقع الظلم الذي فرضه تفرد أميركا في السيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع الحركات التقدمية.
لا يعني ذلك أن قيادات منظمة التحرير والفصائل لم تحاول أن تحد من تأثير المثقفين الثوريين داخل صفوفها "في مرحلة ما قبل أوسلو"، بل جرت عملية تهميش لدور المثقف داخل الأطر التنظيمية لصالح الحسابات الفصائلية والعلاقات مع الأنظمة العربية خاصة بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982 والخروج إلى "المنفى" من حيث البعد عن أرض فلسطين واستحالة تشكل قاعدة جديدة انطلاقة للتحرر الوطني.
لكن انطلاقة الثورة، أو انطلاقة النضال المسلح الذي أعلنته الحركة الوليدة "فتح" في 31 /12/ 1964، وبعد ذلك صعود التنظيمات الفلسطينية إلى قيادة م.ت.ف، كتجسيد لانهيار، ولو مؤقتاً، لأنظمة دول الطوق بعد هزيمة حزيران عام 1967، جذبا المثقفين "التحرريين"، فلسطينيين وعرباً، وحتى أجانب، للانضمام إلى صفوفها، باعتبارها في ذلك الوقت طليعة حركة التحرر الوطني في العالم.
انخراط أعداد من المثقفين في فصائل منظمة التحرير، وبغض النظر عن محدودية تأثيرهم على القرار الرسمي الفلسطيني، أثر وبشكل واسع على الخطاب الإعلامي والسياسي التعبوي، مساهما في رفع مستوى الوعي بمتطلبات وثقافة التحرر، خاصة أن عددا من المثقفين تولى قيادة مطبوعات منظمة التحرير وفصائلها مثل فلسطين الثورة والهدف والحرية، التي أنتجت مثقفين فلسطينيين ملتزمين بالقضية، لكن خفت دور معظمهم في ظل تسلط القيادات والتشرذم الذي بدأ بعد الغزو الإسرائيلي للبنان وتسارع بعد توقيع اتفاق اوسلو وتبعاته.
هنا يجب أن نذكر أن وجود مثقفين؛ إذ أخذنا بتعريف المثقف على أنه الإنسان المتقدم بمعرفته وقدراته العلمية والذهنية؛ في مواقع قيادية، كان له تأثير في القرار السياسي أو على الأقل دور في تعطيل بعض القرارات المساومة على الحق الفلسطيني، مثال على ذلك نتائج مؤتمر حركة فتح الرابع في دمشق، الذي عكس دور مثقفي فتح الثوريين، لكن تم إجهاضها لاحقا بقرار من القيادة، نتيجة سيطرة فكرة التسوية السياسية على تفكير القيادة الفلسطينية آنذاك.
وهنا تجب الإشارة إلى ثلاث نقاط حول حدود دور المثقف الفلسطيني في النظام الرسمي الفلسطيني، بالأخص ما قبل أوسلو: أولا عمليات الاغتيالات الإسرائيلية للمثقفين المنضمين والقياديين في منظمة التحرير الفلسطينية، فمن اغتيالات مندوبي المنظمة مثل محمود الهمشري ووائل زعيتر وعز الدين القلق، مروراً بعملية فردان في بيروت للثلاثي الفتحاوي الذين جمعوا بين العمل العسكري والفكر الثوري وهم كمال نصار وكمال عدوان ويوسف النجار، والمثقف القيادي ماجد أبو شرار والروائي غسان كنفاني والمثقف العراقي (الفلسطيني في هويته النضالية) باسل الكبيسي وآخرين، وجلهم ممن دافع عن النضال المسلح أو انخرط فيه عملياً.
الاغتيالات المتتالية برهنت على أن المشروع الصهيوني يرى في المثقف الثوري، المنخرط في إطار الجسم الفلسطيني، خطرا علميا واستراتيجيا، لأنه يقوم بدور المثقف والقائد المحرض معاً، فيترجم فكره إلى قرارات وأفعال مقاومة، فهو ينشر الوعي بكتابته، ويجسد بأعماله ونشاطه أن الكيان الصهيوني يمثل خطرا استراتيجيا على الفلسطينيين وشعوب المنطقة والعالم، فلا يمكن قبول شروط الكيان دون تذويب الحقوق الفلسطينية، لذا يسعى المثقف الثوري إلى استمرار المقاومة بكل أشكالها من أجل إفشال المشروع الصهيوني.
مسلسل القتل الإجرامي للمثقفين الفلسطينيين كان ضربة لتأثير المثقفين الفلسطينيين ككل وفي الهياكل الرسمية بشكل خاص، وأنا أعتقد أن الساحة الفلسطينية لم تستيقظ تماما من تأثير تلك الاغتيالات، خاصة بعد ما لحقها من انقسامات داخلية وجغرافية، جراء فقدان مركز النشاط الفلسطيني في بيروت، ومن ثم بعد الدخول في فخ اتفاق أوسلو.
الملاحظة الثانية: أن انهيار الاتحاد السوفييتي وخسارة حلم تأمين قاعدة انطلاقة لمعركة التحرر أفقدا الكثير من المثقفين في منظمة التحرير توازنهم لفترة، فهي كانت مرحلة لجوء جديدة وانكسار وشعور بالإحباط من فساد واستسلام وقمع قيادات نافذة في المنظمة. لذا نشأ فهم جديد للمرحلة مفاده أن انتهاء الحرب الباردة يفتح الأبواب لموقف جديد من واشنطن، أي يقلل من عداء أو رفض أميركا من تنفيذ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، والبعض كان متأثرا بفرصة العودة إلى جزء من فلسطين لبناء الحلم ومواجهة العدو الصهيوني ثقافيا ونضاليا من داخل فلسطين، هذا أيضا أضعف دور المثقفين المندمجين في منظمة التحرير عبر تراجع مساهمتهم في نقد السنوات الأولى من أوسلو، كما أشعر الناقدين داخل وخارج المنظمة بالعزلة.
الملاحظة الثالثة: إن قيام سلطة فلسطينية منزوعة السيادة ومقيدة باتفاقيات تنسيق أمني مع الجانب الإسرائيلي، أسس لبيئة طاردة للمثقفين داخل الجسم الرسمي الفلسطيني وخارجه، فبالإضافة إلى شروط المفاوضات وما يسمى بعملية السلام التي اشترطت شل كل أنواع المقاومة، تم إضعاف دور المثقف التحرري وإفساح المجال أمام صعود المثقفين الانتهازيين، الذين كانوا يعتبرون يوماً "مثقفين ثوريين"، ليتحولوا إلى مخلوقات سلطوية بعد تبوؤ المواقع والمناصب داخل دوائرها ومؤسساتها. في حين شغل من احتفظ بنزاهته منهم مواقع أقل تأثيرا في وزراتي الثقافة والإعلام، دون الارتهان للعقلية والممارسات المصلحية المستلمة، محاولين المساهمة في الحفاظ على الذاكرة والثقافة الفلسطينية.
في نفس الوقت شكل تكوين السلطة فرصة جاذبة لخبراء فلسطينيين (من أميركا ودول أخرى) للعمل في مؤسسات السلطة، فالعمل في السلطة الفلسطينية أصبح مقبولاً في الغرب ولا يرافقه اتهامات بالإرهاب، لكن أغلب هؤلاء لا يحملون فكرا تحررا ولا يحتل تاريخ الثورة وحركات التحرر مساحة في وعيهم، وكان ممكن أن يتطور هذا الوعي عبر الممارسة العملية، لكن التركيبة الرسمية الفلسطينية وظفتهم في خدمة فكرة المفاوضات تحت إشراف أمريكا ودون ركيزة وفكر مقاوم، مما حد من إمكانية نجاح مشروع تهيئة مثقفين تحرريين، ليس بسبب تخصصهم بالمفاوضات لكن لغياب الرؤية التحررية داخل السلطة الفلسطينية ذاتها.
هذا يعيدنا إلى فترة تأثير المثقفين الفلسطينيين الكبار من أواسط السبعينيات إلى عشية التوصل إلى اتفاق أوسلو، حين كانت القيادة تستمع إلى المثقفين حتى لو لم تأخذ بآرائهم، مثل وليد الخالدي وبالأخص هشام شرابي والمفكر العالمي إدوارد سعيد. أي كان للمثقفين دور دائم ومستمر في النظام السياسي الفلسطيني، لكن دورهم الأكبر إضافة إلى عطائهم في تطوير الفكر الإنساني، كان في الدفاع الفكري والإعلامي عن منظمة التحرير الفلسطينية كممثل للحركة التحرر الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
أي قدمت علاقة المثقفين بمنظمة التحرير حماية فكرية عالمية وغطاء لها، في زمن كانت تعتبر المنظمة والكفاح الفلسطيني ككل حربة للإرهاب العالمي، وكان الإعلام الغربي ينعت رئيس المنظمة الراحل الشهيد ياسر عرفات بالمنبوذ، وكان هذا دوراً مهماً للمثقفين الفلسطينيين العالميين، وهو ما لا يمكن الاستهانة به، فمهما اختلف هؤلاء مع المنظمة، كانوا جزءا من المشروع الوطني الفلسطيني، لكن حين اقترب توقيع اتفاق أوسلو لم تتم استشارة أي من المثقفين في الوطن وخارجه.
وذلك ينطبق على الشاعر محمود درويش، إذ تم تجاهل وجوده في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، من خلال تجاهل اللجنة التنفيذية بأكملها، بالرغم من أن كل الأطر الفلسطينية كانت في انتظار قصائد درويش، ليس لقيمتها الفنية والشعرية فحسب، بل لأن قصائد درويش كانت تحتوي تحليلاً تاريخياً فلسفياً للحدث، إذ كان يؤرخ الألم بتفاصيله و قدم علامات لاستشراف المسقبل. ليس القصد هنا استبعاد أسماء مفكرين ومثقفين معروفين وغير معروفين كانت لهم أداور مهمة، منهم من اتبع، ومنهم من استشهد، لكن القصد هنا مناقشة دور الفلسطيني ككل، فالتأثير لا يمكن قياسه بتأثير المثقفين على القرارات فقط، بل على إنتاج الوعي الجمعي الفلسطيني ككل، وفي داخل "المؤسسات الرسمية الفلسطينية"، ولذا نرى أن إسهاماتهم، وبالأخص أعمال إدوارد سعيد ومحمود درويش، ساهمت في خلق وعي تحرري لدى أجيال عديدة، وهي عملية مستمرة، لكن غياب جسم تحرري فلسطيني بعثر الجهود وحرم المثقفين من المساهمة، بل وعرقل المباشرة في تشكيل أو إعادة تشكيل المشروع الوطني الفلسطيني.
فمنظمة التحرير الفلسطينية مع سلبياتها كانت تجمع المثقفين الفلسطينيين، سواء في اجتماعات المجالس الوطنية أو اجتماعات الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطيني، رغم ترافقها مع قمع للمثقفين في المؤسسات الفلسطينية، التي لم تكن تعتبر "مؤسسات حكم بل مؤسسات ثورة"، لكن كانت هناك مؤسسات، واحترام لدورهم ومكانتهم، مقارنة بدور المثقف حاليا، خاصة المثقف التحرري، فالمؤتمر التوحيدي لمنظمة التحرير الفلسطينية والإعلان عن اتفاق الوحدة وإنهاء انقسامات الفصائل مهد لهما المؤتمر العام للكتاب والصحافيين في الجزائر عام 1987.
لم تكن الصورة وردية، بل أوصلتنا أخطاء و خطايا القائمين على المشروع الفلسطيني إلى مرحلة الانحدار هذه، كما ساهم تهميش وشبه تلاشي المنظمة في تشتيت المثقفين. ففي مرحلة بعد أوسلو التحقت غالبية المثقفين، إما بالسلطة، سواء الذين عادوا بحكم ارتباطهم بمؤسساتها، أو القدامة منهم والشباب، أو بالمنظمات غير الحكومية، التي انفتحت أنابيب التمويل الأجنبي كي تتدفق في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة وبعض المؤسسات في القدس. وبدا يتغير دور المثقف وابتعاده عن الخطاب التحرري، فقلما نرى من الشباب المثقفين الفلسطينيين في الغرب أو على أرض الوطن مُن يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني باللجوء إلى الكفاح المسلح لمقاومة الاحتلال. لا أتحدّث عن الدعوة إلى المقاومة المسلحة، بل عن التمسك بحق المقاومة بكافة أشكالها. فقبول الفلسطيني في الغرب خاصة، ما زال مشروطاً في إثبات "سلميته".
لا شك في أن الجيل الجديد من المثقفين الفلسطينيين الناشطين أو المنخرطين على الأقل ثقافياً وإعلامياً في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وجدت في نقد إدوارد سعيد وآخرين منارة للفكر التحرري، إذ وعيت على استمرار الاحتلال ووجود سلطة فلسطينية لا سلطة لها إلا على المواطن الفلسطيني، لكن أصوات المثقفين لا تعوض عن غياب الإطار التحرري، وهذه إحدى معضلات المثقفين الشباب، فلا إطار ثورياً ولا مشروع ثقافياً تحررياً يستقبلهم، بل بحث عن فرص عمل في مؤسسات قد تقيد حرية الفكر، إن كانت أجنبيه أو عربية، وتبعدهم عن العمل المباشر مع قواعد الشعب الفلسطيني في الداخل أو في مخيمات الشتات.
لذا أضحى الشهيد باسل الأعرج نموذج المثقف العضوي المشتبك لجيل كامل، وفق تعريف المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو جرامشي، نموذج المثقف المشتبك الذي حمل السلاح وقاتل بشجاعة جيشاً أخافته ثورة مقاتل فرد منفرد، أبى إلا أن يلتزم بمعتقداته عن دور المثقف والثورة حتى الموت. لكن قصة باسل التي أضحت أسطورة، لم تتحول إلى حالة ثورية، صحيح أن باسل سبقهم أجيالاً بضرورة الثورة على الخنوع والاحتلال معاً، لكن قصته هي أيضاً مثال على محدودية دور المثقف الفلسطيني "التحرري"، في غياب المشروع التحرري، وأن المثقف الثوري المقاوم أصبح في ذاته شعلة تحريض ووعي تبث روح المقاومة ورفض الاستعمار في المثقفين وكل الفلسطينيين في الوطن والشتات.
هناك طاقات وأسماء موهوبة تتقن مخاطبة العالم دفاعاً عن القضية، وهناك مؤلفات وكتابات إبداعية لأجيال جديدة تحتاج مؤسسات لتنشر فكرها، ولمنحها مساحة للحوار فيما بينها، وبين مثقفي الشتات والداخل، أي نحتاج إلى مؤسسة ملتزمة بالقضية الفلسطينية ولديها الإمكانات المادية الكافية للقيام بمثل هذه المهمة.
الخوف من أن يصبح المثقف التحرري الملتزم بقضاياه ظاهرة غير دائمة، فمتطلبات الحياة المادية قد تأخذ المثقفين في طريق آخر يبعدهم عن التمسك بقضاياهم. لكني أعتقد أن الأجيال المقبلة قادرة على فرز مثقفين يضعون تصور وأسس استكمال المشروع الثوري، خاصة إذا كان لديهم الاستعداد لفهم ودراسة التجربة الفلسطينية والاستفادة من تحديات النضال كي يتم تجنب إعادة ذات الأخطاء. لكن في النهاية فالثورات لا يبدأها بالضرورة المثقفون، ومن يخرج إلى الشوارع ويقاتل هم مشاريع أسرى وشهداء، ليسوا بالضرورة من كبار المثقفين، من دون الاستهانة بثقافتهم، لذا فدون الانخراط الحقيقي لن يكون للمثقف إلا تأثير محدود، فالمثقف لا يُعلِم بل يتعلم من الذين لديهم الاستعداد للتضحية لإشعال الثورات.