في ظل تفاقم الخلافات في المواقف، وغياب البرامج المشتركة بين أفرقاء السلطة الانتقالية في السودان، وتوتر العلاقات بين مختلف أطرافها، رسم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، صورة قاتمة للأوضاع في بلاده، ملمحها الأهم هو الانقسام داخل السلطة الانتقالية، ما دفعه لاقتراح مبادرة لإنقاذ ما يمكن. وفيما انقسمت الآراء بين الترحيب ورفض هذه المبادرة، فإن مراقبين فسروا تحرك حمدوك بمحاولة لتحميل كل طرف في الحكم مسؤوليته، وتخفيف الضغوط عنه خصوصاً في ظل تردي الأوضاع المعيشية والأمنية.
ولخّص حمدوك، في خطاب مفتوح للشعب السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، وهو الثاني من نوعه خلال أسبوع، الأزمة الراهنة في السودان بالانقسام الحاد داخل السلطة الانتقالية، بما يشمل الخلافات الداخلية للمكون العسكري، وما شابهها داخل المكون المدني، مضافاً إليهما تأزم العلاقة بين المكونين، اللذين يشكّلان عماد السلطة الانتقالية في السودان منذ أغسطس/آب 2019، عقب التوقيع على الوثيقة الدستورية بين المكون العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير".
عد حمدوك تصاعد الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية خطراً على وجود السودان نفسه
وأضاف رئيس الوزراء مشاهد إضافية لقتامة المشهد السياسي بالتنبيه إلى تردي الأوضاع الاقتصادية، والاضطراب الأمني، والتوترات الاجتماعية، وتعدد مراكز القرار، خصوصاً في السياسة الخارجية، وبطء العمل في ملفات، مثل: الترتيبات الأمنية والعدالة، فضلاً عن ملف تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي. وحذر حمدوك من تصاعد الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية، ما عده خطراً جدياً، لا على الفترة الانتقالية فحسب، بل على وجود السودان نفسه، مشيراً إلى أنه بذل جهوداً في التواصل مع الأطراف المختلفة، ونزع فتيل الأزمة التي رأى أنها لن تحل إلا في إطار تسوية سياسية شاملة، تشمل توحيد الجبهة المدنية والعسكريين وإيجاد رؤية مشتركة بينهم، للتوجه صوب إنجاح المرحلة الانتقالية، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
وللخروج من تلك الأزمة، اقترح حمدوك جملة من الحلول، في بدايتها توحيد الكتلة الانتقالية، وتحقيق أكبر إجماع ممكن داخلها حول مهام الانتقال، والشروع مباشرة، وعبر جدول زمني متفق عليه، في عملية الوصول إلى جيش واحد مهني وقومي، بعقيدة عسكرية جديدة عبر عملية للإصلاح الشامل للقطاع العسكري والأمني، بما يعبّر عن تنوع السودان، مع توحيد مراكز القرار داخل الدولة، وعملها وفق رؤية مشتركة بين كل الأطراف، والاتفاق على آلية موحدة للسياسة الخارجية، وإنهاء التضارب الذي شهدته الفترة الماضية في هذا المجال، والالتزام بتنفيذ اتفاق السلام، واستكماله كقضية رئيسية من قضايا الانتقال، خصوصاً مع الحركتين المسلحتين اللتين لم توقعا على اتفاقية السلام، وهما "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة عبد العزيز الحلو، و"حركة تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد محمد نور.
كما اقترح حمدوك، تقوية توجه الحكومة والدولة الذي يقوم على الإنتاج المحلي، وحماية الفقراء والمستضعفين، والتعاون مع المؤسسات الدولية، والالتزام بتفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن، وبناء دولة مؤسسات وطنية مستقلة، عدا مطالبته كل الأطراف بالالتزام فعلاً لا قولاً، بالعمل من أجل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي مدني. وشدد على ضرورة تنفيذ قوات المخابرات والشرطة ما ورد في الوثيقة الدستورية بشأنهما، وأن يخضعا لعملية إصلاحات عميقة وجذرية وعاجلة، على أن يضطلع الجهاز التنفيذي بدور أكبر في إدارة جهاز المخابرات، وتغيير كافة مدراء الإدارات بآخرين، وإجراء إصلاحات جوهرية وسريعة في هيكله وطرق عمله، ومراجعة النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وحصره في الصناعات ذات الطبيعة العسكرية، ومراجعة الشركات التي انتقلت لحوزته عقب التغيير، ودمج نشاطه الاقتصادي في الاقتصاد الوطني تحت ولاية المالية على المال العام.
وكانت السلطة الانتقالية في السودان قد تشكلت بعد 5 أشهر من سقوط نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير في إبريل/نيسان 2019، من مجلس سيادة من مدنيين وعسكريين، ومجلس وزراء مدني بحت، رشحه تحالف "الحرية والتغيير". وفي فبراير/شباط الماضي، انضم طرف ثالث للحكومة، هو الحركات المسلحة في كل من دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، بعد توقيعها على اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. والثابت في كل تلك المعادلة الثلاثية هو غياب البرامج المشتركة والخلاف في المواقف، وتوتر العلاقات بين كل طرف والآخر. فالحركات المسلحة تنتقد بشدة المكون العسكري، وتتهمه بالتباطؤ في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الذي يسمح لها بالمشاركة في إدارة الأجهزة الأمنية والعسكرية، ودمج قواتها تدريجياً في الجيش السوداني وتكوين قوات مشتركة لحماية المدنيين في دارفور. كما تتحفظ الحركات نفسها على ما تعتبره هيمنة من تحالف "الحرية والتغيير" على مقاليد السلطة واتخاذ القرار. أما المكون المدني، فهو الآخر دخل في صدامات مستمرة مع المكوّن العسكري، وتحفظ أكثر على تدخله في السياسة الخارجية، والذي بدأت تجلياته بتبني العسكر لاتجاه التطبيع مع إسرائيل منذ فبراير/شباط 2020.
فتح الرحمن أحمد: حمدوك عمد بمبادرته الأخيرة لتخفيف الضغوط عليه
وفي الوقت نفسه، يواجه كل طرف من الأطراف الثلاثة خلافات داخلية. إذ انقسم تحالف "الحرية والتغيير" إلى أطراف عدة، وكل طرف انقسم إلى اثنين كما هي حالة تجمع المهنيين. كما أن الحركات المسلحة، التي تتوحد في تحالف "الجبهة الثورية"، منقسمة على نفسها لكيانين، وعن المكون العسكري تروج أحاديث كثيرة عن خلافات عميقة بين الجيش وقوات الدعم السريع في مواضيع مثل الدمج والتسليح والاستقلالية.
ويرجح كثيرون، أن حمدوك لجأ لتلك المبادرة والمكاشفات وطرح المشاكل أمام الرأي العام، بعد حالة يأس انتابته من التشظي الداخلي للسلطة الذي يعيق حركته. كما أراد بخطوته تلك تحميل المسؤولية لكل طرف، خصوصاً للعسكر في ما يتعلق بالاضطرابات الأمنية والنزاعات القبلية، وتحميل المسؤولية للمدنيين في ما يختص بعدم اكتمال هياكل السلطة، بما فيها البرلمان الانتقالي والمفوضيات المستقلة التي نصت عليها الوثيقة الدستورية في 2019.
وعن ذلك، قال رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين، فتح الرحمن أحمد، في حديث مع "العربي الجديد"، إن حمدوك عمد أكثر بمبادرته الأخيرة، لتخفيف الضغوط عليه، وهي ضغوط يواجهها شعبياً نسبة لتردي الأوضاع المعيشية والأمنية، والضغوط الأخرى التي يمارسها عليه المكوّن العسكري والحركات الموقّعة على اتفاق السلام ومن النظام السابق، ومن بعض قوى "الحرية والتغيير" التي تناهض بقوة سياسته الاقتصادية القائمة على الانفتاح على العالم. وبين أن رئيس الوزراء يدرك أن كثيرا من الأزمات الحالية مفتعلة وجزء من الحرب عليه وعلى التحول الديمقراطي، لذا حاول صد الهجوم بطريقته الخاصة.
وأضاف أحمد أن مبادرة حمدوك تخاطب المجتمع الدولي والإقليمي كذلك، بتحذيرات صريحة، مفادها أن أي انهيار أمني في السودان لن يكون وحده المتأثر منه، بل ستشاركه كثير من دول الإقليم، خصوصاً دول الجوار. وأشار إلى أن حديثه عن تعدد مراكز القرار في السياسة الخارجية هدف إلى بعث رسالة إلى الدول التي تبحث عن فرض إرادتها على السودان، خصوصاً في ملفات مثل سد النهضة والتمحور الإقليمي، مشيراً إلى أن المبادرة، وتحركات حمدوك الأخيرة، سيكون لها ما بعدها، عقب التغيير في سياسة النفس الطويل التي انتهجها رئيس الوزراء في فترته الأولى.
وبعيداً عن المغازي والأهداف، فإن ردود الأفعال على مبادرة حمدوك التي وضع لها عنوان "الأزمة الوطنية وتحديات الانتقال- الطريق للأمام"، لم تكن كلها إيجابية، إذ سرعان ما عقد رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بمعية نائبه وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اجتماعاً بكبار ضباط الجيش السوداني، نفى خلاله البرهان وحميدتي وجود أي خلافات بين القوتين. وصنف البرهان، أي حديث غير ذلك كنوع من أنواع بث الشائعات وزرع الفتن بين مكونات المنظومة الأمنية، فيما أوضح حميدتي، أن الجيش والدعم السريع كلاهما تحت إمرة القائد العام، وعليهما مسؤولية تاريخية في الخروج بالبلاد إلى بر الأمان.
كمال عمر: المبادرة دليل على فشل الحكومة وحمدوك
أما قوى "الحرية والتغيير"، التحالف الحاكم، فقد التزمت الصمت، عدا حزب "المؤتمر السوداني" الذي رحب بالمبادرة، وأكد قابليتها للتطبيق، وأنها تمهد الطريق لتصحيح المسار بشرط توفر الإرادة السياسية الكافية، داعياً كل قوى الثورة والمكون العسكري للقبول بها والتمسك بوحدتها. لكن كتلة "نداء السودان"، وهي أكبر الكتل التي تشكل تحالف "الحرية والتغيير"، ردت على المبادرة بطريقتها الخاصة، مؤكدة في تصرف لها ما ذهب إليه حمدوك عن التشظي داخل المكون، إذ قررت تجميد عضويتها داخل التحالف، وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان حمدوك مبادرته التي تتضمن توحيد أجسام السلطة الانتقالية.
حزبا "الأمة" بقيادة مبارك الفاضل المحسوب في خانة المعارضة، و"البعث"، وفي بيانين منفصلين، اعتبرا مبادرة رئيس الوزراء عنواناً كبيراً لفشل الحكومة. وأشار "الأمة" إلى أن الحلول التي اقترحها حمدوك جاءت قاصرة، ولا تتناسب مع حجم وعمق الأزمة السياسية والاقتصادية، مطالباً بإعادة تأسيس السلطة الانتقالية وفق اصطفاف وطني ينهي حالة الاستقطاب الحاد في السلطة السياسية بين مكونات "الحرية والتغيير" والقوى السياسية الأخرى، والتوافق على ميثاق سياسي واقتصادي، ومهام محددة للفترة الانتقالية، وعلى إجراء انتخابات عامة في فترة لا تتعدى نهاية العام المقبل، وتشكيل حكومة جديدة بعد استقالة الحالية.
من جهته، قال القيادي في حزب "المؤتمر الشعبي" المعارض، كمال عمر، إن المبادرة دليل على فشل الحكومة وفشل حمدوك، وتأكيد لإخفاق "الحرية والتغيير" بأن يكون الحاضنة السياسية، وتأكيد أيضاً لإخفاق الحاضنة العسكرية. واعتبر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الحل لن يكون إلا بتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وتغيير الوثيقة الدستورية باستيعاب القوى السياسية الفاعلة وقوى المجتمع المدني والقبائل، وذلك لمنح فرصة للسودانيين لاستعادة ثورتهم، التي قال إنها سرقت بواسطة العسكر الذين يستأسدون ويتحكمون في القرارات المصيرية، وهو أمر يشير إلى أن ذلك التحكم ضد حركة التاريخ السوداني، إذ لم يسيطر عسكر على ثورة أطاحت بهم.
أما الواثق البرير، الأمين العام لحزب "الأمة" القومي الشريك الرئيس في الحكومة، فأكد، لـ"العربي الجديد"، أن خطوة حمدوك تتماشى تماماً مع ما دعا إليه الحزب منذ العام الماضي، حينما طرح برنامج عقد اجتماعي جديد يعيد ترتيب الأوراق داخل السلطة الانتقالية، وينهي حالة التشظي والخلاف، ويضع برامج واقعية عملية لتنفذ بواسطة الحكومة الانتقالية. وأضاف أن المبادرة ستكون فرصة نهائية لتصحيح ما يمكن تصحيحه، والانطلاق للأمام وصولاً إلى صندوق الانتخابات الذي يحسم بعد ذلك كل شيء، مؤكداً أنهم سيعملون على تقديم مقترحات إضافية بالتشاور مع الآخرين تحقيقاً للغايات الكلية.
ويبدو أن كثيراً من الدول التي تدعم المرحلة الانتقالية تصطف هي الأخرى مع مبادرة حمدوك، إذ أصدرت السفارة الكندية في السودان بياناً مقتضباً، أشادت فيه بما جاء في المبادرة، مؤكدة دعمها للشعب السوداني، ورغبته الواضحة في رؤية التغييرات التي من شأنها تعزيز حكومة شاملة وديمقراطية بقيادة مدنية، وتعزيز ظروفهم المعيشية اليومية.
إلى ذلك، رأى وزير الثقافة والإعلام، المتحدث الرسمي باسم الحكومة حمزة بلول، أن مبادرة رئيس الوزراء مهمة من حيث المبدأ، لأن هناك مخاطر تحدق بالمرحلة الانتقالية، وحمدوك في إطار ممارسته لتكليفه بإدارة الجهاز التنفيذي، استشعر تلك المخاطر، لذلك أطلق مبادرته التي أحاطت بمعظم القضايا، التي تطلب توافقاً من قبل قوى الثورة، للوصول بالمرحلة الانتقالية إلى نهايتها المخطط لها بانتخابات حرة نزيهة. وأضاف بلول، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المبادرة وضعت شركاء الحكم أمام مسؤولياتهم في التصدي للقضايا الوطنية الكبرى بروح جماعية، وإعلاء قيم الثورة على أي خلافات، مطالباً كل القوى السياسية بالتركيز على جوهر المبادرة، وأن تعمل مع رئيس الوزراء للوصول إلى صيغة مشتركة للقضايا المطروحة، وفي مقدمتها استكمال هياكل الحكم الانتقالي وتشكيل البرلمان في أسرع وقت، "لأننا من خلال البرلمان يمكن أن نسهم في إنجاز ملفات مهمة، مثل العدالة والاقتصاد وتقويم أداء الجهاز التنفيذي بشكل عام".