كشفت تصريحات المسؤولين الروس في الأيام الأخيرة أن مباحثات الاستقرار الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ما زالت في مرحلة "جس النبض" وتبادل الاقتراحات لمعرفة نوايا كل طرف، وإمكانية التوصل إلى حلول وسط في بعض القضايا الأخرى، من أجل التركيز على موضوع الأسلحة الاستراتيجية وخفض التسليح. وبدا واضحاً أن زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند إلى موسكو تندرج في إطار الجهود لاستكشاف أفق المباحثات وتحقيق بعض الخروقات في القضايا الثنائية، والملفات الإقليمية للبناء عليها لاحقاً، على أساس "روح نتائج قمة جنيف" بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن في 16 يونيو/ حزيران الماضي.
وبعد لقاءات نولاند في مقر إدارة الكرملين الأربعاء مع ديمتري كوزاك نائب رئيس الإدارة، المسؤول عن ملف العلاقة مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، أشار المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى أن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا تشهد تطوراً إيجابياً، وأن مباحثات نولاند جاءت في إطار "روح جنيف" والاتفاقات التي توصل لها رئيسا البلدين في قمتهما. ومع إشارته إلى أن لقاءات نولاند ليست الأولى من نوعها، وأنها جاءت بعد عدة جولات من المشاورات حول مسائل الأمن الاستراتيجي والتسليح والأمن السيبراني، دعا بيسكوف إلى عدم توقع خروقات كبيرة والتوصل إلى اتفاقات سريعاً، نظراً لأن "علاقاتنا الثنائية تواجه مشاكل كبيرة جداً. ولا يمكن تسويتها بسرعة، لكن هذه الاتصالات ضرورية بلا شك".
غير أن بيسكوف، عاد ليقول للصحافيين الخميس، إن الكرملين تمكّن من التوصل إلى تفاهم بشأن استمرار الاتصالات بين الرئيسين بوتين وبايدن، خلال زيارة نولاند إلى موسكو. وقال بيسكوف: "دار حديث عن هذا الأمر بالفعل خلال استقبال (مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية) يوري أوشاكوف لنولاند يوم الأربعاء؛ تم التوصل إلى عدة تفاهمات بشأن استمرار الاتصالات على أعلى مستوى، وسيتم تجسيد هذه التفاهمات". ورداً على سؤال عما إذا تم التوصل إلى تفاهم بشأن لقاء بين الرئيسين في المستقبل القريب، قال بيسكوف: "هناك تفاهم بشأن آفاق استمرار الحوار على أعلى مستوى". وعن توقيت حدوث ذلك، قال: "في المستقبل القريب".
بيسكوف: العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا تشهد تطوراً إيجابياً
من جهتها، لم تكشف نولاند، وهي المسؤولة الأبرز في الخارجية الأميركية في شؤون روسيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق وأوراسيا، عن نتائج مباحثاتها مع المسؤولين في الكرملين أول من أمس الأربعاء. واكتفت بالقول إن "المحادثات مع الإدارة الرئاسية الروسية كانت مثمرة للغاية". وكان نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، قال بعد محادثاته مع نولاند إن "مشكلة الاستقرار الاستراتيجي وآفاق مواصلة العمل في هذا الاتجاه كانت على رأس الأولويات ضمن المواضيع الدولية التي جرى تناولها". وأضاف أن "المحادثات مع نولاند كانت صريحة للغاية، لكن مواقف الطرفين لا تزال حتى الآن غير متطابقة بشكل جيد".
وتزامناً مع بدء زيارة نولاند إلى موسكو، برر نائب مدير إدارة منع الانتشار ونزع الأسلحة في وزارة الخارجية الروسية، قسطنطين فورونتسوف، تطوير بلاده أنواعاً جديدة من الأسلحة. وقال في كلمة أمام اللجنة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعالج قضايا نزع السلاح إن "تطوير المنظومات الواعدة، إجراء يحمل طابعاً اضطرارياً، ويرتبط بضرورة الحفاظ على التوازن الاستراتيجي، الذي قد يتم تقويضه من خلال الخطوات الأميركية المزعزعة للاستقرار، عبر نشر نظام دفاع صاروخي عالمي غير خاضع لأي قيود، مقترنة مع نشر أسلحة غير نووية عالية الدقة لضربة عالمية قادرة على حل المهام الاستراتيجية".
ورأى خبراء أن زيارة نولاند إلى موسكو مهمة جداً للدفع بمباحثات التوازن الاستراتيجي بين واشنطن وموسكو، وحل بعض الخلافات الثنائية عبر حوار على مستوى رفيع، خصوصاً أن الزيارة جاءت بعد صفقة سمحت موسكو بموجبها لنولاند بدخول الأراضي الروسية على الرغم من أنها على القائمة السوداء للممنوعين من دخول روسيا، في مقابل السماح لفورونتسوف الموضوع على القائمة الأميركية من المشاركة في اجتماعات للأمم المتحدة في نيويورك.
وفي مقال لصحيفة "روسيسكايا غازيتا"، رأى رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية والمدير العلمي لنادي فالداي، فيودور لوكيانوف، أن إصرار الإدارة الأميركية على إجراء الزيارة، وإقدامها على صفقة مع روسيا، يعود إلى رغبة بايدن في تهدئة المشاكل التي يمكن أن تعطل تركيزها الأساسي بالالتفات نحو أولوية صراعها مع الصين. ولم يستبعد أن تغير الولايات المتحدة موقفها من القيادة في أوكرانيا من أجل ضمان بقاء الأمور على حالها وعدم تسخين الصراع في منطقة دونباس شرقي البلاد (التي تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) مع المجموعات الانفصالية المدعومة من روسيا. وخلص الخبير الروسي المقرّب من الكرملين إلى القول إن زيارة نولاند جاءت بسبب حاجة الولايات المتحدة إلى التنبؤ بنوايا روسيا، في عدد من الملفات ومن ضمنها أوكرانيا.
اتسمت جولات مباحثات الاستقرار الاستراتيجي بتكتم شديد
على عكس التصريحات العلنية التي يطلقها الطرفان في مناسبات عدة، اتسمت جولات مباحثات الاستقرار الاستراتيجي بتكتم شديد عن النتائج من قبل مسؤولي البلدين. وفي 5 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، عقدت اللجنة الروسية الأميركية المشتركة الخاصة بمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية اجتماعاً جديداً، استكمالاً لمباحثات الاستقرار الاستراتيجي بين البلدين، التي انتهت جولتها الأولى في يوليو/ تموز الماضي والثانية في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي. ويثير اتفاق الطرفين على تشكيل مجموعتي عمل خاصتين الاهتمام بحد ذاته لجهة النتائج التي قد تحققها المجموعتان، على الرغم من النتائج المتواضعة التي تحققت في جولتي مباحثات الاستقرار الاستراتيجي، واستباقهما بتراشق سياسي وإعلامي بين موسكو وواشنطن. وهو ما جرى أيضاً قبيل انعقاد اجتماع اللجنة الخاصة بمعاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، لكن هذه المرة ترافق ذلك أيضاً مع مؤشرات إيجابية رمزية من الطرفين.
وكبادرة حسن نيّة، أعلنت الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي عن حجم مخزونها من الرؤوس النووية، في بيان صدر عن وزارة خارجيتها. وحسب البيان "كان الجيش الأميركي يمتلك 3750 رأساً نووياً مفعّلاً أو غير مفعل في 30 سبتمبر/أيلول 2020"، وهو المخزون الأدنى لديها منذ الحرب الباردة (1947 ـ 1991) مع الاتحاد السوفييتي السابق. وأفادت الوزارة في بيانها بأن "زيادة الشفافية بشأن المخزونات النووية للدول أمر مهم لجهود منع الانتشار ونزع السلاح". ولا يشمل هذا الرقم عدد الرؤوس الأميركية التي سُحبت بناء على معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية مع روسيا.
وفي المقابل، ذكرت وزارة الخارجية الروسية، في بيان صدر تزامناً مع البيان الأميركي، أن وزير الخارجية سيرغي لافروف أجرى لقاء في موسكو مع السكرتير التنفيذي للجنة التحضيرية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، روبرت فلويد. وجاء في البيان أن لافروف "شدّد على أن روسيا الاتحادية تعتبر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية أداة قانونية دولية فريدة لا بديل لها". يشار هنا إلى أن الولايات المتحدة من بين ثماني دول لم تصادق على المعاهدة، بسبب عدم تجرؤ أي من الرؤساء الأميركيين بعد الرئيس الأسبق بيل كلينتون وعرضها على الكونغرس. ولم توقع الصين على المعاهدة المذكورة أيضاً.
بعد أن كانت على وشك الانهيار في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، شكَّل تمديد معاهدة "ستارت 3" بين الولايات المتحدة لخمس سنوات، في فبراير/شباط الماضي، فرصة للبدء بحوار شامل بين البلدين حول الاستقرار الاستراتيجي، من دون سقف مرتفع للتوقعات. وتمّ الاكتفاء في المرحلة الأولى بالتخفيف من حدة التوتر، والتركيز على المجالات الممكنة للعمل المشترك في قضايا مثل الأمن السيبراني، للوصول إلى "جعل العلاقات بين البلدين أكثر قابلية للتنبؤ بها"، على حدّ وصف بوتين في تعليق له على جهود نظيره الأميركي للحفاظ على الاتصالات بين واشنطن وموسكو لمنع انزلاق العلاقات بينهما نحو الأسوأ.
ولم تخرج جولتا مباحثات حوار الاستقرار الاستراتيجي في جنيف عن المتوقع، ما أضفى عليهما طابعاً استكشافياً لكيفية وضع إطار مستقبلي لتقريب المواقف وحل الخلافات بين البلدين. وترأس الوفد الأميركي في المباحثات النائبة الأولى لوزير الخارجية ويندي شيرمان، بينما ترأس ريابكوف الوفد الروسي، الذي قال في تقييمه لنتائج المباحثات إنه "تم تحقيق تقدم بشأن بعض القضايا، لكن الاختلافات في المواقف لا تزال كثيرة". وأضاف في تصريح آخر بعد انتهاء المباحثات "نحن نستعد للأسوأ، لكننا بالتأكيد نأمل بالأفضل، ولا نزال نعتقد أن هناك فرصة لمقاربة براغماتية للانتصار وانخراط الولايات المتحدة في العمل مع روسيا بنوايا حسنة لإيجاد توازن وحلول مقبولة للطرفين".
بدورها وصفت شيرمان المباحثات بأنها "كانت جوهرية"، وأضافت في مؤتمر صحافي عقدته مطلع أكتوبر الحالي، أن "الولايات المتحدة وروسيا تقران بأن من مسؤولية كلتا القوتين العظميين القدرة على الاجتماع وحل المشاكل في المجالات التي يمكننا فيها ذلك".
يتفق المحللون السياسيون والعسكريون على أن التحديات التي تواجه العلاقات الأميركية الروسية تفرض على الطرفين تقديم تنازلات متبادلة لإيجاد أرضية لاستقرار استراتيجي، تبدأ بتوحيد المفاهيم، ووضع آلية فعالة لإدارة الأزمات والتخفيف من حدتها. فمفهوم الاستقرار الاستراتيجي كما أكده ريابكوف يجب أن يقوم على أساس التوازن والمساواة و"أخذ المخاوف الروسية المشروعة بعين الاعتبار".
وتبني روسيا على هذا المفهوم أن من حقها استعادة التوازن من خلال إجراءات مضادة لإجراءات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أوروبا، تشمل القدرات النووية والقدرات العسكرية التقليدية للحفاظ على تفوقها، والحد من القوة الأميركية، لاسيما في شمال أوروبا. وعلى نطاق أوسع تنطلق رؤية روسيا للاستقرار الاستراتيجي على أنه جزء من توازن عام في النظام الدولي، يضم عناصر متلازمة عسكرية وسياسية واقتصادية تخفض مستوى التهديد والصراع العسكري. وهو ما ترفضه الولايات المتحدة، وتعتبر أن أساس الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا الحدّ من التسلح لتجنب حرب نووية ودور البلدين في الحفاظ على الأمن الدولي، وعدم ربط ذلك بملفات أخرى ذات اهتمام مشترك بين البلدين دون أن يمنع ذلك مناقشتها والتعاون فيها ما أمكن.
لافروف: روسيا تعتبر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية أداة لا بديل لها
واستبقت واشنطن الجولة الثانية من مباحثات الاستقرار الاستراتيجي بالكشف عن ثلاث نقاط سيطرحها الوفد الأميركي على طاولة البحث، وحدد مسؤول شؤون نزع السلاح في وزارة الخارجية بوني جينكينز هذه النقاط أمام مؤتمر حلف شمال الأطلسي حول نزع السلاح وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، في كوبنهاغن في 6 سبتمبر الماضي. النقطة الأولى عبارة عن اتفاقيات تقييدية تشمل الأنواع الجديدة من أنظمة إيصال الأسلحة النووية العابرة للقارات. وجاء في النقطة الثانية ضرورة أن تشمل الاتفاقيات بين البلدين الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أيضاً. ونصّت النقطة الثالثة على الإبقاء على القيود المفروضة على الصواريخ الروسية الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية في الغواصات والقاذفات الثقيلة المزودة بأسلحة نووية، بعد انتهاء اتفاقية الأسلحة الهجومية الإستراتيجية الجديدة في عام 2026.
تمخضت جولتا المباحثات عن تحديد موعد لاجتماع اللجنة الروسية الأميركية المشتركة الخاصة بمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، وتشكيل مجموعة تبحث مبادئ الرقابة على الأسلحة، ومجموعة ثانية مهمتها تحديد القدرات الكامنة للأسلحة الاستراتيجية. ولعل الإنجاز الأبرز على الصعيد العملي، وربما الوحيد، تحقيق تقدم في مجال الأمن السبيراني. في المقابل، راوحت الخلافات الأخرى مكانها، وأبرزها إلى جانب ملف التسلح النووي: الأمن في أوروبا، وأوكرانيا، واتفاق "أوكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وإشراك الصين بمعاهدة الحدّ من الأسلحة النووية، علماً بأن بكين أعلنت عدم اهتمامها بإجراء مباحثات ثلاثية. وعلى الرغم من النتائج المتواضعة حتى الآن، فإن الطرفين الروسي والأميركي يدركان أهمية استمرار الحوار وتخفيف التوترات بينهما، كخصمين جيوسياسيين في ظل خارطة جيوسياسية عالمية مضطربة ومتشابكة، وأنه لا بديل عن الحوار وبناء علاقات مستقرة، أو على الأقل يمكن التنبؤ بها، بين أكبر قوتين نوويتين في العالم. وفي هذا الإطار فإن روسيا تنتظر من الإدارة الأميركية مقاربات جديدة للتوازن الاستراتيجي بعد زيارة نولاند الأخيرة تنطلق بداية من مراعاة مصالح روسيا في المحيط السوفييتي، ما ينعكس إيجاباً على مباحثات الاستقرار الاستراتيجي ومنع الانزلاق إلى سباق تسلح جديد يؤكد الطرفان أنهما لا يريدان الانزلاق إليه.