تشهد مالي تطورات هي الأخطر منذ انقلابي أغسطس/ آب 2020 ومايو/ أيار 2021، في ظلّ الانسحاب المرتقب لقوات حفظ السلام في مالي (مينوسما)، المفترض أن ينتهي في نهاية العام الحالي، وأيضاً في ظلّ تعثر اتفاق السلام الموقع في عام 2015 في الجزائر بين الحكومة المالية وتنسيقية حركات أزواد. وما يثير قلق مالي ومحيطها الإقليمي هو عاملان أمنيان.
الأول، مرتبط بانقلاب العسكر في النيجر في 26 يوليو/ تموز الماضي، والثاني متعلق بتقرير أممي صدر في 26 أغسطس الحالي، يكشف عن مضاعفة تنظيم "داعش" تمدده في عام واحد.
كما أن العسكر في باماكو تعرضوا لنكسة بفعل تمرد "فاغنر" الفاشل في روسيا في 24 يونيو/ حزيران، ثم مقتل زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين في 23 أغسطس الحالي، بتحطم طائرته قرب العاصمة الروسية موسكو. ويعود السبب إلى ارتباط جيش مالي بـ"فاغنر"، التي ملأت فراغاً خلّفته فرنسا إثر انسحاب آخر جندي فرنسي من البلاد في 15 أغسطس 2022.
ودعا المجلس العسكري في مالي، أول من أمس الاثنين، الجماعات المسلحة في الشمال إلى إعادة إحياء الحوار واتفاق السلام المتعثر. وذكر الوزير المسؤول عن اتفاق السلام، الكولونيل إسماعيل واغو، في بيان صحافي، أنه يريد "دعوة" الموقعين على الاتفاق "للعودة إلى طاولة المفاوضات". وأضاف أن "الحكومة لا تزال ملتزمة بالاتفاق" الموقع في عام 2015، وأيضاً بوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه خلال العام الماضي، 2022.
تعثر اتفاق السلام الموقع في عام 2015
وتعثر أخيراً اتفاق السلام الموقع في عام 2015، المعروف باتفاق الجزائر، بين الحكومة المالية وتنسيقية حركات أزواد، وهو تحالف يضم جماعات تطالب بالاستقلال والحكم الذاتي ويهيمن عليه الطوارق.
ومنذ أشهر يتصاعد التوتر في مالي، وصولاً إلى اتهام تنسيقية حركات أزواد، أول من أمس الاثنين، مقاتلات الجيش بقصف مواقعها في منطقة كيدال، من دون وقوع أي أضرار.
وأعلن الجيش المالي لاحقاً في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أنه "استهدف مجموعة من الجماعات الإرهابية المسلحة" و"حيّد" عدداً من مقاتليها. ونفذت مقاتلات الجيش المالي طلعات جوية فوق كيدال، معقل الطوارق، مرتين على الأقل هذا العام.
دعا عسكر مالي الحركات الأزوادية لإحياء اتفاق سلام 2015
وفي إشارة إلى تدهور العلاقة بين التنسيقية والجيش، أعلن رئيس وفد تنسيق حركات أزواد في باماكو عطاي أغ محمد، في 12 أغسطس الحالي، مغادرة العاصمة باماكو بناء على تعليمات من الحركات، مضيفاً في حوار مع وكالة "فرانس برس" أن "إدارتنا تعتقد أننا لم نعد بأمان في العاصمة، وأن أسباب وجودنا نيابة عن هيئة تنسيق حركات أزواد مهددة تماماً".
ويخشى خبراء في الأمم المتحدة من أنه في حال انهيار اتفاق الجزائر أن تعيد الجماعات المسلحة "سيناريو عام 2012"، في إشارة إلى العمليات التي شنتها التنظيمات المسلحة والانفصالية في الشمال التي أودت بحياة الآلاف.
في المقابل، فإن التحديات الأمنية الداخلية تتزايد، مع تأكيد رئيس بعثة الأمم المتحدة في مالي القاسم وان، مساء الاثنين، أن المرحلة الثانية من انسحاب قوة حفظ السلام "مينوسما" من مالي، التي بدأت منذ نحو شهرين، ستكون "صعبة للغاية" بسبب "الجدول الزمني الضيق" والظروف الأمنية واللوجستية.
وأعلن وان، أمام مجلس الأمن الدولي، أنه "ما زلنا على المسار الصحيح لإنهاء المهمة بحلول 31 ديسمبر/ كانون الأول" المقبل، مضيفاً أنه حتى الآن تمت إعادة 1096 جندياً من قوة حفظ السلام إلى بلدانهم. وأوضح أنه "ظهرت صعوبات في تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الانسحاب" التي انتهت الجمعة الماضي، بإغلاق قاعدة ميناكا، في شمال شرقي مالي.
وأشار وان إلى أن القافلة الأخيرة التي غادرت البر احتاجت إلى "51 ساعة لقطع مسافة 57 كيلومتراً" إلى تمبكتو "بسبب طبيعة المنطقة الوعرة والوضع الذي تفاقم بسبب موسم الأمطار وانعدام الأمن"، وتعرضت لهجومين نفذهما "متطرفون مجهولون".
ولفت وان إلى أن المرحلة الثانية من الانسحاب "التي نبدأها الآن"، تنص على إغلاق ست قواعد أخرى بحلول 15 ديسمبر المقبل، وهي قواعد تيساليت وأغيلهوك وكيدال في الشمال، ودوينتزا وموبتي في الوسط، وأنسونغو في الشرق. لكنه شدّد على أنها "ستكون صعبة للغاية"، بسبب اضطرار أكثر من ألف شاحنة لقطع مئات الكيلومترات في ظل "انعدام الأمن بشكل كبير".
وأشار وان إلى أن الانقلاب في النيجر المجاورة "له أيضاً تداعيات على خطتنا للانسحاب، التي تقوم على استخدام منطقتي العبور في كوتونو ولومي" وبالتالي تستلزم المرور عبر النيجر. وعلى الصعيد السياسي، اكد وان أن "البعثة تشجع الأطراف على التوصل إلى اتفاق لتجنب وقوع حوادث غير ضرورية قد تكون عواقبها وخيمة".
بدورها، اعتبرت السفيرة الأميركية ليندا توماس غرينفيلد في كلمة في مجلس الأمن، مساء الاثنين، أنه "كما كان يخشى الكثير منا، فإن قرار الحكومة الانتقالية بتعليق عمل مينوسما أدى إلى أعمال عنف جديدة على الأرض"، مشيرة إلى أن طلب مالي من الأمم المتحدة سحب قوات حفظ السلام بحلول نهاية العام هو "وصفة لكارثة".
غير أن سفير مالي عيسى كونفورو حاول الدفاع عن قرارات العسكر بالقول: "نحن منفتحون على الحوار من أجل تسوية القضايا التي قد تطرأ سلمياً"، لكنه جزم أن "حكومة مالي لا تنوي تمديد مهلة الانسحاب إلى ما بعد تاريخ 31 ديسمبر 2023".
احتاجت قافلة أممية إلى 51 ساعة لعبور 57 كيلومتراً
ويأتي انسحاب "مينوسما"، بعد طلب المجلس العسكري المالي ذلك، فقرر مجلس الأمن الدولي في 30 يونيو الماضي إنهاء مهامها وسحب 13 ألفاً من عناصر الجيش والشرطة الدوليين، بحلول 31 ديسمبر المقبل. وهو انسحاب بجدول زمني معقد وغير مسبوق.
وكان طلب المجلس العسكري قد سبق تمرد "فاغنر" في روسيا، ثم مقتل بريغوجين، ما أرخى بظلاله على احتمال قدرة "فاغنر" على مساندته في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأجنبية، خصوصاً أن مصير المجموعة يبقى مجهولاً، على وقع استمرار موسكو في ترتيب هيكليتها ووضعها تحت إمرة وزارة الدفاع الروسية.
انقلاب النيجر وتمدد "داعش"
وبالإضافة إلى هذه التطورات، فإن انقلاب النيجر في 26 يوليو الماضي، وضع مالي في موقف حرج أمنياً، خصوصاً أنها أيدت انقلابيي نيامي، وشدّدت، مع بوركينا فاسو، على رفضها أي تدخل عسكري، خصوصاً ذلك التي تلوح به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" في النيجر، بل عدّت أي محاولة من هذا النوع "إعلان حرب عليها".
أما المعضلة الأهم التي سيواجهها عسكر مالي فتتمثل في ما كشفه تقرير لخبراء أمميين صدر في 26 أغسطس الحالي. وذكر التقرير أن مسلحي تنظيم "داعش"ضاعفوا سيطرتهم على الأراضي التي يسيطرون عليها في مالي في أقل من عام، فيما يستفيد منافسوهم المرتبطون بتنظيم "القاعدة" من حالة الجمود والضعف الملحوظ للجماعات المسلحة التي وقعت اتفاق 2015.
وأضاف الخبراء في التقرير أن الجمود في تنفيذ اتفاق 2015، خصوصاً نزع سلاح المقاتلين وتسريحهم وإعادة دمجهم في المجتمع، يعمل على تمكين "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بـ"القاعدة" للتنافس على القيادة في شمال مالي.
ولفتوا إلى أن أعمال العنف والهجمات المستمرة التي ينفذها في الغالب مقاتلو "داعش" جعلت من الحركات الموقعة على اتفاق السلام تبدو وكأنها "ضعيفة في "تقديم الخدمات الأمنية وغير موثوق بها" للمجتمعات التي يستهدفها المسلحون.
وخلصوا إلى أن "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تستغل هذا الضعف، وتضع نفسها الآن كجهة فاعلة وحيدة قادرة على حماية السكان من تنظيم داعش". وأوضح الخبراء أن حكام مالي يراقبون المواجهة بين "داعش" و"القاعدة" من بعيد.
ونقل الخبراء عن بعض المصادر قولها إن الحكومة تعتقد أن المواجهة في الشمال ستفيد السلطات في مالي بمرور الوقت، لكن مصادر أخرى تعتقد أن "الوقت في صالح الإرهابيين الذين تنمو قدراتهم العسكرية ويزيد تغلغلهم المجتمعي كل يوم".
(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس)