ماكرون "الجريء" يضعف فرنسا: سنة أولى من ولاية ثانية مضنية

24 ابريل 2023
ماكرون في موتيرشولتز ـ شرقي فرنسا، 19 إبريل (لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -

في 24 إبريل/ نيسان 2022، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه خصمته في الدور الثاني من الرئاسيات الفرنسية، زعيمة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف السابقة، مارين لوبان. ومع أنه "جرت العادة"، في دورتي 2002 و2017، التي يكون فيها مرشح اليمين المتطرف في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، أن تصطف كل المعسكرات خلف أي مرشح في مواجهة المتطرفين، إلا أن فوز ماكرون بنسبة 58.55 في المائة، في مقابل 41.45 في المائة للوبان، قرع جرس إنذار في ظلال المدن الفرنسية.

أظهرت النتيجة الرئاسية أن ماكرون سيحكم، لكن على أرضية متحركة. وهو ما أثبتته نتائج انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان) في يونيو/حزيران 2022. بالنسبة للرئيس الفرنسي، فإن الولاية الثانية والأخيرة المتتالية، وفقاً للدستور، ستصبح أكثر قسوة، وتدفعه إلى اتخاذ قرارات أكثر جرأة وغير شعبية.

وبعد عام على انتخابه للولاية الثانية، وقبل 4 أعوام من نهايتها، أصبح ماكرون في وضعٍ لا يُحسد عليه، في الداخل والخارج. فقد أظهر استطلاع للرأي نُشرت نتائجه أول من أمس السبت، أن أكثر من 70 في المائة من الفرنسيين غير راضين عن أداء الرئيس.

وبحسب الاستطلاع الذي أجراه معهد دراسات الرأي والتسويق "إيفوب" لحساب صحيفة "لو جورنال دو ديمانش"، أبدى نحو 26 في المائة فقط من المشاركين رضاهم عن أداء ماكرون، بتراجع نقطتين مقارنة باستطلاع مماثل في مارس/ آذار الماضي. وتقترب هذه النسبة من أدنى مستوى لشعبية ماكرون (23 في المائة)، المسجّل في ديسمبر/ كانون الأول 2018 في ذروة أزمة "السترات الصفراء".


مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة يفضي إلى رد فعل عكسي في أوروبا وخلاف مع واشنطن

ونسبة التأييد المسجّلة في الاستطلاع الحالي هي أدنى بـ15 نقطة مقارنة بشعبية ماكرون لدى إعادة انتخابه لولاية ثانية في إبريل 2022. ومن أصل الـ72 في المائة من المستطلعين الذين أعربوا عن عدم رضاهم عن الرئيس، قال 47 في المائة إنهم "غير راضين بشكل كبير"، بزيادة 7 في المائة عن استطلاع الشهر الماضي. وأجري الاستطلاع إلكترونياً في الفترة بين 14 إبريل الحالي والـ21 منه، وشمل عيّنة من 1955 فرنسياً أتموا الـ18 من العمر، وبهامش خطأ راوح بين 1 و2.3 نقطة.

غضب داخلي

تعكس هذه الأرقام الغضب الذي اعترى شريحة واسعة من الفرنسيين جراء إصدار ماكرون في 15 إبريل الحالي، بموافقة المجلس الدستوري، مرسوم رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً عبر استخدام المادة الدستورية 49.3، التي تتيح للحكومة تمرير مشروع قانون من دون عرضه على التصويت في الجمعية الوطنية.

وعلى الأثر، تحدث ماكرون، الاثنين الماضي، عن مهلة زمنية تمتد مائة يوم، وتنتهي في 14 يوليو/ تموز المقبل، في يوم العيد الوطني، من أجل "إجراء تقييم أولي" لمشروع القانون. يراهن الرئيس الفرنسي على عامل الوقت، وهو ما أكده أحد المقربين منه لوكالة "فرانس برس"، السبت الماضي، بقوله: "إنها مرحلة أساسية لإعادة فتح الأوراق" و"الحصول على هدنة".

ولفت إلى أن ماكرون "يدرك أنه من خلال خطته سيكون الأمر صعباً في البداية"، قبل أن "تتحسن الأمور تدريجياً"، وفقاً لـ"نظرية توجيه اللكمات والنهوض بعد كل ضربة".

وفسّر أستاذ العلوم السياسية في جامعة "سيانس بو"، فيليب مورو- شيفوليه، فترة المائة يوم التي أعلنها ماكرون، بأنها "طريقة للقول: كان هناك إخفاق في الانطلاقة وحصل سوء فهم بيننا ونبدأ من الصفر".

وأشار في حديثٍ لـ"فرانس برس" إلى أن الرئيس "سيحاول إحداث شيء جديد كل يوم" من خلال القيام بزيارات ميدانية، ومن خلال تجديد الدعوات للنقابات في مايو/أيار المقبل.

مفترق غزو أوكرانيا

وبعد مرور 6 سنوات على بدء حكمه، إثر فوزه بالولاية الأولى في عام 2017، يبدو أن إشكاليات ماكرون كثيرة في الداخل والخارج. وفي ظلّ مركزية فرنسا الجيوبوليتيكية في الغرب الأوروبي وما وراء البحار، وكونها صلة وصل تجارية ـ اقتصادية ـ سياسية، فضلاً عن تمتعها بخاصيّة كونها "دولة عظمى"، دفع ذلك ماكرون لتشبيك الداخل بالخارج.

وكانت أبرز الإشكاليات التي أفضت إلى ضرورة حصول هذا التشبيك هو الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، وتأثرت أوروبا سلباً بحكم وقوفها مع أوكرانيا، وبدء التخلي عن الطاقة الروسية. كما تأثرت دول القارة بتدفق اللاجئين الأوكرانيين إليها، وتخصيصها معونات مالية لهم، ومدّ السلطات الأوكرانية بالسلاح وكل أنواع الدعم المالي والطاقوي والإنساني والطبي.

والأسوأ أن أوروبا، والعالم عموماً، كانت مع بدء الغزو الروسي، تسعى للخروج من تأثيرات تفشي وباء كورونا، الذي أدى إلى إغلاقات عامة، وعرقل سلاسل التوريد.

وعشية الشتاء الماضي، كانت الدول الأوروبية تسابق الوقت لملء خزاناتها بالغاز من مصادر متنوعة في العالم. وطُرحت خلال هذه المرحلة فرضية "التقنين" الكهربائي لتوفير الطاقة. وفي 24 أغسطس/آب الماضي، خرج ماكرون للقول لمواطنيه: "عهد الرفاهية انتهى ونعيش نهاية زمن الوفرة وراحة البال".

تعرض ماكرون خلال زيارته منطقة الألزاس الأربعاء الماضي لصيحات استهجان بسبب ارتفاع الأسعار وقانون رفع سن التقاعد

ومن الطبيعي أن حديث ماكرون أثار هواجس الفرنسيين، غير أنه ظلّ متماسكاً، على قاعدة أن الاستحقاقين الرئاسي والبرلماني، وما تلاهما من تشكيل حكومة موالية له، مرّا بأقل ضرر، وبالتالي فإن تكثيف التصريحات "الجريئة" وتطبيقها بشكل قوانين ومراسيم سيكون أسهل، تحديداً في إدارة التعامل مع ردات الفعل السلبية الناجمة عنها.

وهو ما بدا، الأربعاء الماضي، حين زار ماكرون منطقة الألزاس، حيث تعرض لصيحات استهجان بسبب ارتفاع الأسعار وقانون رفع سن التقاعد. غير أن قصر الإليزيه اكتفى بالقول إن ما حصل كان "متنفساً جماعياً للغضب".

خصوم في الخارج

ولا يواجه ماكرون خصوماً في الداخل من معسكري اليمين واليسار فحسب، بل إن خطواته الخارجية أظهرت فرنسا دولة ضعيفة ومترددة وتملك خصوماً كثراً.

في أفريقيا، أعلن ماكرون عن "استراتيجية فرنسية جديدة" هناك. وتلخصت الاستراتيجية، التي طُرحت في فبراير الماضي، في "التحلّي بالتواضع والمسؤولية، رفضاً للمنافسة الاستراتيجية في القارة"، التي يفرضها من يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم".

وأضاف ماكرون، في إشارة إلى روسيا ومجموعة "فاغنر" المنتشرة خصوصاً في أفريقيا الوسطى ومالي: "يريد الكثيرون دفعنا للدخول في منافسة، أعتبرها مفارقة تاريخية. يصل البعض مع جيوشهم ومرتزقتهم إلى هنا وهناك".

وتابع: "إنها طريقة فهمنا المريحة للواقع في الماضي. قياس تأثيرنا من خلال عدد عملياتنا العسكرية، أو الاكتفاء بروابط مميزة وحصرية مع قادة، أو اعتبار أن أسواقاً اقتصادية هي أسواقنا لأننا كنا هناك من قبل". وشدّد على وجوب بناء "علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة مع دول القارة الأفريقية".

لم يُترجم هذا الكلام بعد، أقله في الفترة الماضية، بل زخّم المشاعر المعادية للفرنسيين، التي تلت انسحاب قواتهم من دول أفريقية عدة، كما سمحت بتغلغل "فاغنر" فيها.

لم تقف خسارة ماكرون، وبالتالي فرنسا، هنا، بل إن اتفاق "أوكوس" (اتفاق ثلاثي أميركي ـ أسترالي ـ بريطاني موقّع في 15 سبتمبر/أيلول 2021)، أخرج باريس من كانبيرا، وحدّ عملياً من نفوذها في جنوب المحيط الهادئ، على الرغم من انتشار جزر بولينيزيا وكاليدونيا الجديدة الفرنسية فيها.

أدى الاتفاق إلى خروج أستراليا من صفقة غواصات فرنسية لمصلحة أخرى أميركية ـ بريطانية. كبح ماكرون غيظه مما حصل، لكنه لم يتمكن من فعل شيء، حتى إنه واكب الأميركيين في عملية دعم أوكرانيا، على الرغم من تشديده مراراً على الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل إنه دعا إلى "عدم إذلال روسيا".

وكانت لافتةً مطالبته في أحد لقاءاته مع بوتين بأوروبا واحدة "ممتدة من جبال الأورال إلى المحيط الأطلسي". وجبال الأورال تقع في عمق روسيا، وتُشكّل حاجزاً طبيعياً قبل الولوج إلى سيبيريا.

ومع أنه كان من دعاة قيام "جيش أوروبي" موحّد، واصفاً حلف شمال الأطلسي (ناتو)، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، بأنه "ميت دماغياً"، غير أن الرئيس الفرنسي لم يتمكن من نسج علاقات في الداخل الأوروبي تسمح بنشوء هذا الجيش، خصوصاً بعد الحرب الأوكرانية.

على العكس من ذلك، باشرت معظم الدول الأوروبية العمل على تمتين قوتها ورفع ميزانياتها العسكرية، ضمن مفهوم "التحالف مع الولايات المتحدة" تحت مظلة الأطلسي. وهو ما تكرّس مع انضمام فنلندا رسمياً إلى الحلف، واقتراب عضوية السويد فيه، وتقديم أوكرانيا طلباً بذلك.

ودائماً ضمن إطار تشبيك الداخل مع الخارج، توجه ماكرون شرقاً إلى الصين في الشهر الحالي ساعياً إلى عقد اتفاقات اقتصادية، بغية تعويض ما خسره في أستراليا وأفريقيا، وتمويل الخزينة الداخلية.

لكنه اصطدم بأمرين. الأمر الأول، عجزه عن إقناع الرئيس الصيني شي جين بينغ بتغيير موقفه في الحرب الروسية على أوكرانيا. والأمر الثاني، هو اتجاهه للتطرف تجاه الولايات المتحدة، عبر دعوته إلى الاستقلالية الأوروبية عنها، لا التبعية، من دون فك التحالف معها.


رفع سن التقاعد يضرب شعبية الرئيس الفرنسي المراهن على عامل الوقت لكبت الغضب الداخلي تجاهه

ارتد هذا الأمر سلباً عليه، بعد وصف وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر هذه الدعوة بـ"الساذجة"، معتبراً خلال جلسة في جامعة برينستون الأميركية، منذ أكثر من 10 أيام، أن "فكرة استقلال الاتحاد الأوروبي الاستراتيجي ساذجة، وذلك لأنّه لا يمكن تصور توفير الأمن على الأراضي الأوروبية من دون الإمكانات النووية الاستراتيجية للولايات المتحدة".

توترات مع الدول العربية

أزمة أخرى طبعت المرحلة الماكرونية: العلاقات مع الدول العربية، خصوصاً مع الجزائر، إذ اندلعت أزمة تخصّ خفض باريس عدد التأشيرات الجزائرية بسبب خلافات في مجال الهجرة، قبل معالجتها.

واندلعت أزمة أخرى مع احتجاج الجزائر الشديد على تصريحات لماكرون، عندما نسبت له صحف تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وقوله إن النظام الجزائري الحاكم بُني على "ريع مرتبط بالذاكرة".

وبعدها بأيام، تراجع ماكرون بشكل مبطن، وقال الإليزيه إن الرئيس الفرنسي "يكن احتراماً كبيراً للأمة الجزائرية ولتاريخها ولسيادة الجزائر"، وعادت العلاقات لقوتها أشهراً بعد ذلك، خصوصاً مع زيارة ماكرون إلى الجزائر في صيف 2022، وتأكيده برفقة الرئيس عبد المجيد تبون بدء صفحة جديدة من العلاقات.

وقبل عودة السفير الجزائري لدى فرنسا سعيد موسى لمزاولة مهامه، قامت الخارجية الفرنسية بإحالة سفيرها لدى الجزائر، فرانسوا غويات، على التقاعد، ما اعتُبر إشارة فرنسية إيجابية للبحث عن حل للأزمة مع الجزائر على خلفية دعم دبلوماسيين فرنسيين لخروج الناشطة الحقوقية الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا، وهي الممنوعة من السفر بقرار جزائري، بينما دافعت باريس حينها عن دعمها للناشطة بحكم توفرها على الجنسية الفرنسية.

في المقابل، تستمر الأزمة الصامتة بين المغرب وفرنسا، بسبب خفض التأشيرات الممنوحة للمغاربة. كما تراجعت علاقة باريس مع الرئيس التونسي قيس سعيّد، وإن كان هذا بسبب انقلابه على الثورة في تونس.

مع إيران، لا تمرّ العلاقة بفترة جيدة، خصوصاً مع احتجاز طهران مواطنين فرنسيين، ومصادرة البحرية الفرنسية أسلحة إيرانية مرسلة للحوثيين في اليمن في فبراير الماضي. أما في لبنان، فقد فشل ماكرون في التدخل الفاعل في بيروت، بعد انفجار مرفئها في 4 أغسطس 2020، بل يسعى حالياً للتسويق لمرشح حزب الله لرئاسة الجمهورية، سليمان فرنجية.