ماراثون الاعتداءات في السعودية: "داعش" ينتقم دموياً بسبب خسائره

06 يوليو 2016
أسفر هجوم المدينة المنورة عن مقتل 4 أمنيين(فرانس برس)
+ الخط -
يمكن قراءة الاعتداءات الدموية الثلاثة التي شهدتها المملكة العربية السعودية أخيراً، في جدة والقطيف والمدينة المنورة، والتي تحمل بصمات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، في إطار تراجع التنظيم في العراق وسورية، وصعوبة إيجاد أرضية صلبة للتنظيم في السعودية، في ظل عدم سيطرته على استراتيجيات "ذئابه المنفردة"، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف، إلى استهداف الحرم النبوي في المدينة المنورة، ما سيؤدي إلى نتائج كارثية على "داعش"، تُشابه تداعيات استهداف تنظيم القاعدة لمبنى الأمن العام في الرياض في 2004.
وأكدت وزارة الداخلية السعودية مقتل 4 رجال أمن، وإصابة 5 آخرين، في الاعتداء الذي نفذه انتحاري، أمس الأول، في موقف للسيارات قريب من الحرم النبوي في المدينة المنورة. وأشار المتحدث الأمني باسم وزارة الداخلية، إلى وجود "أشلاء بشرية" لثلاثة أشخاص، بالقرب من أحد مساجد القطيف، في الهجوم الفاشل الذي كان يستهدف المسجد، وأدى إلى مقتل انتحاريين، وشخص ثالث، يُعتقد أنه من قام بنقل المهاجمين.

تراجع التنظيم
منذ انطلاق عمليات التحالف الدولي ضد "داعش"، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، انتهت فاعلية شعار "باقية وتتمدد" الذي رفعه التنظيم، في إشارة إلى "دولة الخلافة" التي أعلن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي عن نشأتها. فمناطق نفوذ التنظيم في العراق وسورية، تنكمش منذ ذلك الوقت، في ظل زيادة تهديدات التنظيم، وعملياته الانتحارية على الأرض، خصوصاً منذ الأشهر الأخيرة لسنة 2015.

وخسر التنظيم مدينة الفلوجة العراقية، وهي ثالث أهم المدن التي يسيطر عليها، بعد مدينتي الرقة والموصل. وإن لم تكن خسارته للفلوجة نهائية بعد، في ظل استمرار المعارك في المناطق القريبة منها، إلا أن سقوط المدينة، مثّل ضربة قوية للتنظيم على الصعيد العسكري والمعنوي، من المتوقع أن يسعى إلى محاولة تجاوز هذه الخسارة، من خلال تكثيف عملياته الدولية، ليرفع معنويات أتابعه، خصوصاً بعد الصعوبات التي بات يواجهها في التجنيد، بعد خسارته لمناطق حدودية، وإغلاق الحدود التركية في وجهه، ما جعل قدراته على استقطاب مقاتلين جدد، تنخفض بصورة كبيرة.
فالأحداث الأخيرة التي تحمل بصمات "داعش"، في السعودية وبنغلاديش وتركيا ولبنان، تأتي في ظل هذا التراجع على أرض المعارك المباشرة، في العراق وسورية، وامتداداً لدعوات أحد قيادات التنظيم، أبو محمد العدناني، الذي هدد قبل دخول شهر رمضان، بأن التنظيم سيشن هجمات عالمية واسعة النطاق، ودعا المتعاطفين مع التنظيم، إلى شن هجمات على أي هدف يستطيعون استهدافه.

صمت مفاجئ
اعتمد تنظيم "داعش" على أذرع إعلامية فاعلة، يقوم من خلالها بالترويج لعملياته، ونشر أفكاره، والتجنيد، وجلب الأموال. واستخدم الإعلام أيضاً، كاستراتيجية عسكرية، ينشر من خلاله الرعب، ليحصد نتائجه على أرض المعارك. ولم يفوّت التنظيم أبداً، فرصة تبني أي عملية تحدث في أي مكان من العالم. حتى تلك التي تبدو مرتجلة ولم تنفذ بناءً على أوامر مباشرة من التنظيم، كعملية إطلاق النار التي نفذتها تاشفين مالك وزوجها سيد فاروق في ديسمبر/ كانون الأول 2015 في كاليفورنيا، أو عملية استهداف ملهى للمثليين في أورلاندو، والتي نفذها عمر متين، الشهر الماضي. ووضع التنظيم لهذه العمليات عنواناً جذاباً، هو استراتيجية "الذئاب المنفردة". فأصبح يروج لفكرة أن أي شخص، في أي مكان، يستطيع أن يصبح عنصراً من عناصر التنظيم، ويخدم قضيته، من خلال القيام بأي عملية، حتى لو طعن أحد المارة بالسكين، أو قذفه بالحجارة، كما قال العدناني في خطابه الأخير، قبل شهر من اليوم.
لكن هذه الاستراتيجية تغيّرت فجأة، ولم يقم التنظيم بتبني أبرز عملياته الأخيرة، خلال الأيام القليلة الماضية. فلم يقم بتبني التفجيرات التي ضربت مطار إسطنبول التركي، ولا تفجيرات بلدة القاع في لبنان، ولا العمليات الأخيرة التي استهدفت جدة والقطيف والمدينة المنورة في السعودية. ومن الصعب التنبؤ بسبب عدم تبني التنظيم لهذه العمليات، خصوصاً أنها تحمل بصماته وأسلوبه. كما أن التنظيم سارع، في حالات سابقة، إلى تبني أي عملية، حتى لو لم يعرف عنها إلا من وسائل الإعلام، ضمن استراتيجية "الذئاب المنفردة".

ويمكن وضع صمت التنظيم المفاجئ في سياقين، الأول هو الشكوك التي أحاطت بعملية أورلاندو، إذ أصرت السلطات الأميركية على وضع العملية في سياق أميركي محلي، مختلف عن سياق تنظيم "داعش". وجاء هذا من خلال تأكيدات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن العملية تتعلق بكراهية المثليين وفوضى السلاح في الولايات المتحدة، لا سياق الإرهاب الدولي الذي يتبناه "داعش"، إضافة إلى التقارير الإعلامية الأميركية التي كانت تؤكد مثلية منفذ الهجوم عمر متين، وأن العملية مرتبطة بسياق شخصي، له علاقة بهويته الجنسية، وليست تنفيذاً لأجندة تنظيم "داعش"، وإن صرح متين بأنه ينفذ العملية لصالح التنظيم.

السياق الثاني، الذي قد يفسر صمت "داعش" عن تبني العمليات الأخيرة، هو رغبة التنظيم بزراعة الشكوك في الدول التي استهدفها. فالهجمات التي استهدفت بلدة القاع اللبنانية، قد تحمل بصمات أكثر من جهة، إضافة إلى "داعش"، كما أن عملية مطار إسطنبول، قد تؤدي إلى الأمر ذاته، ما يعزز الإرباك للدول المستهدفة من جهة، ويعزز الهالة حول التنظيم أيضاً، لتفسير "صمته" المفاجئ.


فقدان السيطرة

لا يمكن قراءة عملية استهداف الحرم النبوي في المدينة المنورة، إلا في إطار الارتدادات الكارثية لاستراتيجية "الذئاب المنفردة" التي تبنّاها التنظيم وروج لها. فالتنظيم كان يعتقد أنه يستطيع بسهولة شن "حرب عصابات دولية"، كما وصفها رئيس الاستخبارات الأميركية (سي أي إيه) جون برينان، من خلال الترويج لعمليات "الذئاب المنفردة". لكن ارتدادات عكسية بدأت بالظهور، منذ استهداف مساجد، في 2014، في منطقتي القطيف والأحساء، شرقي السعودية. كان التنظيم في البداية، يبرر هذا الاستهداف بأن المساجد التي يستهدفها ليست مساجد أصلاً، بل كان يصفها بـ"المعابد" لكونها مساجد شيعية، وبسبب تكفيره للشيعة. لكن هذا التبرير، والذي لم يكن مقبولاً في العالم الإسلامي، خصوصاً دول الخليج العربي المستهدفة (السعودية والكويت)، سقط لاحقاً أيضاً، عندما استهدف التنظيم مسجداً لقوات الطوارئ السعودية في منطقة عسير، جنوب السعودية.

أما الآن، فالتنظيم وصل إلى نقطة حرجة جداً، باستهداف المدينة المنورة، والقيام بتفجير انتحاري في مواقف للسيارات قريبة من الحرم النبوي. هذه العملية ستحمل تداعيات تفوق بكثير تداعيات استهداف تنظيم القاعدة لمبنى الأمن العام في الرياض في 2004، والتي أنهت أي تعاطف مع "القاعدة"، في وقتها، وسهّلت ملاحقة التنظيم، على المستويين التنظيمي والفكري. فتنظيم القاعدة كان يحظى ببعض التعاطف بعد أحداث سبتمبر/ أيلول، ممن يرى أن العمليات كانت انتقاماً من السياسات الأميركية في المنطقة. لكن هذا التعاطف تراجع بصورة حادة، بعد تفجيرات مجمعات المحيا والحمرا السكنية، في العاصمة السعودية الرياض، وتفجيرات الدار البيضاء، في المغرب. لكن الحادثة التي ساهمت في تدمير أي تعاطف مع "القاعدة"، كانت استهداف مبنى الأمن العام السعودي، التي لم يستطع أي متعاطف مع التنظيم تبريرها.

ومن المؤكد اليوم، أن استهداف الحرم النبوي، سيقضي على بقايا أي تعاطف مع التنظيم، لدى من كان يرى عملياته في إطار طائفي وحرب شيعية - سنّية. فالعملية لاقت استنكاراً على نطاق واسع دولياً، من مناوئي السعودية في المنطقة، أي إيران وحزب الله، حتى أن نادي بايرن ميونخ الألماني، أصدر بياناً استنكر فيه اعتداءات المدينة المنورة والقطيف. ومن غير المتوقع أن يكون التعامل مع تنظيم "داعش"، بعد استهداف المدينة المنورة، كما كان قبل هذه اللحظة. ولن يستطيع التنظيم التملص من العملية، سواء صمت، أو استنكر. ففي حال صمته، وعدم تبنيه الهجوم، وهو ما حدث حتى اللحظة، أو إصدار بيان استنكار وشجب، وهذا مستبعد، فإن العملية ملتصقة به، وتحمل بصماته، وجاءت ضمن استراتيجية "الذئاب المنفردة" التي تبنّاها وروّج لها، وخرجت عن سيطرته أخيراً، ما يعني أنه سيدفع ثمناً غالياً لهذه الاستراتيجية، التي حصد من ورائها الكثير من التأثير والحضور العالمي.