بعد يوم على تصريح سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، أوليكسي دانيلوف، أن روسيا قد تعرض على أوكرانيا "السيناريو الكوري لإرساء هدنة ضمن خطوط التماس الحالية"، نفى الكرملين وجود أي نوع من المفاوضات حول هذا الموضوع. كما رفضت الحكومة الألمانية نفي أو تأكيد هذه المعلومات.
وقال دانيلوف، للتلفزيون الأوكراني يوم أمس الأحد، إنه "يتم عرض السيناريو الكوري علينا حالياً.. ما يسمى (خط عرض 38 درجة). الروس سيبتدعون الآن أي شيء. وأنا أعلم على وجه اليقين أن أحد الخيارات التي يمكنهم تقديمها لنا هو (خط عرض 38)".
الكرملين: لا أحد يتحدث عن الخط 38 أو السيناريو الكوري
وذكر دانيلوف أن نائب مدير مكتب الرئيس الروسي ديمتري كوزاك التقى سياسيين سابقين في أوروبا، ونقل من خلالهم رسالة مفادها بأن الروس مستعدون لتقديم تنازلات من أجل إصلاح الوضع الراهن وإرغام أوكرانيا على الهدنة.
نفي روسي لـ"السيناريو الكوري"
لكن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قال إن المعلومات حول مباحثات كوزاك، المسؤول عن العلاقة مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق في إدارة الرئيس فلاديمير بوتين، غير صحيحة بالمطلق. وأضاف: "لا أحد يتحدث عن هذا الموضوع (الخط 38 أو السيناريو الكوري).. وإذا فهمت بشكل صحيح فإن لديهم بالواقع رسائل ما، لكنها من شخص آخر لقب عائلته كوزاك. وهو حسب ما أعتقد من الرادا (البرلمان الأوكراني) أو في مركز آخر". وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية ستيفن هيبيستريت، في إفادة صحافية: "ليس لدي مثل هذه المعلومات".
خسارة أوكرانيا 100 ألف كيلومتر مربع
وفي حال تطبيق هذا السيناريو ضمن خطوط القتال الحالية فإن أوكرانيا تخسر في شكل مباشر قرابة 100 ألف كيلومتر مربع. وسوف يقسمها إلى جزأين، الأول تحت سيطرة روسيا، ويقع في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية ويضم شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في 2014 والجزء الشرقي من مقاطعة خيرسون الواقع شرق نهر دنيبر، وقرابة ثلثي مقاطعة زابوريجيا (مركز المقاطعة مدينة زابوريجيا ومحيطها بيد أوكرانيا). وضمن هذا الجزء يقع أيضاً معظم أراضي مقاطعة لوغانسك، باستثناء عدد من القرى الصغيرة التي حررها الجيش الأوكراني في الخريف الماضي. كما يضم هذا الجزء قرابة 60 في المائة من مساحة مقاطعة دونيتسك بحدودها الإدارية في 2014، وأخيراً عدة مناطق حدودية بين روسيا وأوكرانيا في الشرق في مقاطعة خاركيف.
وإضافة إلى المناطق المذكورة، فإن أوكرانيا سوف تخسر إلى الأبد الشواطئ على بحر آزوف، الذي تباهى بوتين، منذ أيام، بأنه استطاع جعله بحراً روسياً مغلقاً، في حلم لم يستطع تحقيقه الإمبراطور بطرس الأكبر.
ومن المؤكد أن روسيا سوف تواصل عملها لاحقاً من أجل السيطرة على كامل المناطق شرقي نهر دنيبر، وضم كامل "نوفوروسيا" (مصطلح يضم دونباس، والقرم، وزابوريجيا، وأوديسا وخيرسون).
مصلحة روسيا من "السيناريو الكوري"
رغم النفي الروسي لوجود مباحثات حول "السيناريو الكوري"، فإن هذا الأمر يعدّ تسوية مفيدة بالنسبة لموسكو لأسباب كثيرة؛ فالحرب الروسية على أوكرانيا دخلت مرحلة الاستنزاف منذ أشهر، ولا يستطيع الجيش الروسي تحقيق أي تقدم، بعد تعرضه لعدة انتكاسات كبيرة منذ بداية الحرب في 24 فبراير/ شباط الماضي.
ولجأت روسيا إلى تغيير تكتيكاتها في الحرب على أوكرانيا منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عبر التركيز على استهداف البنى التحتية الأوكرانية، من أجل تحسين صورة الجيش الروسي، رغم أن جميع الجنرالات يعلمون أن الضربات الجوية لا يمكن أن تؤدي إلى الفوز بالحرب.
يضمن "السيناريو الكوري" لروسيا المحافظة على المناطق التي سيطرت عليها شرقي وجنوبي أوكرانيا، وتحصين مواقعها فيها
والسيناريو مفيد لروسيا التي استنفدت أكثر من 70 في المائة من مخزونات الصواريخ بعيدة المدى في ضرباتها على محطات الطاقة الأوكرانية. وتراجع المخزونات من هذه الصواريخ، المخصصة لحمل رؤوس نووية، والمهمة جداً للتوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) يؤدي إلى إضعاف روسيا في هذا المجال.
محافظة روسيا على المناطق التي سيطرت عليها
ويضمن "السيناريو الكوري" لروسيا المحافظة على المناطق التي سيطرت عليها شرقي وجنوبي أوكرانيا، ويمنحها الفرصة لتحصين مواقعها في هذه المناطق، التي أعلنت ضمها في سبتمبر/ أيلول الماضي. والبقاء من دون معاهدة سلام يعطي الكرملين ذريعة في المستقبل لمعاودة الهجوم على أوكرانيا، في حال تراجع الدعم الغربي لكييف، أو ازدادت قوة الجيش الروسي وتلافي المشكلات التي واجهها منذ بداية الحرب.
وربما تراهن روسيا على أن سيطرتها على بعض المناطق في جنوب وشرق أوكرانيا تفتح المجال أمام تقسيم أوكرانيا مع بولندا والمجر ورومانيا، وهو سيناريو طرحه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، في 27 يوليو/ تموز الماضي، عبر نشره على قناته في "تليغرام" خريطتين. وتظهر الخريطة الأولى أوكرانيا باللون الأصفر، وتضم شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014، وكذلك جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين على أنها مناطق أوكرانية. وقال: "الخريطة التالية للمستقبل المشرق لبلاده ظهرت في عقل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المصاب باضطرابات عقلية".
أما الخريطة الثانية فهي حسب ميدفيديف خريطة أوكرانيا كما يراها "محللون غربيون"، وتنتقل فيها 7 مقاطعات أوكرانية إلى بولندا، ومقاطعة واحدة إلى المجر، ومقاطعتان إلى رومانيا، و13 مقاطعة، بما فيها القرم، إلى روسيا، بينما تقتصر جغرافية أوكرانيا على مقاطعة كييف. وكتب ميدفيديف حينها: "يعتبر المحللون الغربيون أنّ الوضع سيكون هكذا".
ويروج المسؤولون الروس منذ سنوات لوجود مطامع بولندية في المناطق الغربية لأوكرانيا. وفي 30 يونيو/حزيران الماضي أعلن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين أن السلطات البولندية "مقتنعة" بأن الولايات المتحدة وبريطانيا "ستُضطران إلى دعم خطة تقسيم أوكرانيا"، وأن وارسو تعتقد أنّه "مع تقدّم القوات الروسية في عمق الأراضي الأوكرانية، لن يكون أمام واشنطن ولندن خيار سوى إظهار تضامن غير مشروط مع حليف مستعد للدفاع بحزم عن مصالح الغرب في أوكرانيا".
وأضاف ناريشكين أنه "وفقاً للمعلومات التي لدينا، فإنّ القيادة البولندية بدأت وضع سيناريوهات تقسيم أوكرانيا"، بعدما أيقن الغرب أنه "من المستحيل منع القوات الروسية وقوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من تنفيذ مهماتها بنجاح، في إطار العملية الخاصة، ومنع انتصار روسيا في ميدان المعركة".
ومن المؤكد أن الحديث المتكرر عن التقسيم في أوكرانيا يعطي مشروعية لسردية بوتين التاريخية حول عدم وجود كينونة لدولة أوكرانيا في التاريخ، وأنها كانت موزعة بين الإمبراطوريات السابقة، وأن المناطق من كييف إلى شواطئ البحر الأسود روسية، والمناطق الغربية بولندية، مع وجود مناطق اقتطعت من الإمبراطورية النمساوية المجرية في "زاقرباطيا" التي يجب أن تعود للمجر حالياً.
تحذير أوكراني من تقاعس الدعم
لا يستبعد أن تكون تصريحات المسؤول الأوكراني في إطار التحذير من أي تقاعس للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا عسكرياً، والتأكيد على أن خيار التفاوض من عدمه يجب أن يكون أوكرانياً خالصاً.
وهذا السيناريو لا يروق للجانب الأوكراني، نظراً لأنه يعني فقدان أكثر من سدس مساحة البلاد، ومن ضمنها شبه جزيرة القرم. وتراهن أوكرانيا على أن استمرار الدعم الغربي وتزويد جيشها بالأسلحة الحديثة للدفاع الجوي والأسلحة الدفاعية والهجومية سوف يساهم في منع روسيا من التقدم، ويفتح المجال لاحقاً أمام هجمات مضادة ناجحة أخرى، كما جرى في خاركيف وليمان وخيرسون.
ربما تراهن روسيا على أن سيطرتها على بعض المناطق تفتح المجال أمام تقسيم أوكرانيا مع بولندا والمجر ورومانيا
وبعيداً عن الأسباب التي دفعت دانيلوف لإطلاق هذه التصريحات ومدى صحتها، فإن الجانب الأوكراني يعلم جيداً المثل الروسي القائل بأنه "لا يوجد أكثر استدامة من الحل المؤقت".
ولهذا فإنه لن يقبل بأي صيغة لتجميد الصراع وفق "السيناريو الكوري"، إلا في حال توقف الدعم الغربي بالكامل، وهو احتمال ما زال ضعيفاً على المدى المنظور، لأن أوروبا ما زالت تعتبر أوكرانيا خط الدفاع الأول عنها، والولايات المتحدة التي كانت تنفق أكثر من 10 مليارات دولار يومياً في حربها في العراق وأفغانستان ترى أن الفاتورة التي تدفعها الآن لإضعاف روسيا هزيلة جداً، مقابل الفوائد التي تجنيها في جميع المجالات، سياسياً واقتصادياً، وحتى في ميدان تجريب أسلحتها ومعرفة قدرات روسيا الدفاعية الحقيقية.