أقل من ثلاثة أسابيع تفصل عن نتائج انتخابات "حزب المحافظين" لاختيار زعيمهم ورئيس حكومتهم الجديد.
وكل صباح، تطالعنا الصحف بآخر مستجدّات السباق إلى "داونينغ ستريت"، والذي تخوضه وزيرة الخارجية ليز تراس ضد وزير المالية المستقيل ريشي سوناك، علماً أن آخر تلك المستجدات واستطلاعات الرأي ترجّح فوز تراس، وتشير إلى حجم النزاعات بين المتنافسين، ومقدار الانقسام في صفوف الحزب. إلا أن أخطر ما تشي به أخبار مجلس الوزراء هو حالة الشلل الذي تعيشه الحكومة اليوم وسط أزمة معيشية غير مسبوقة وقلق متصاعد من فواتير التدفئة الشتوية.
فما هي أبرز الملفّات التي سيرثها رئيس الحكومة الجديد؟
الاقتصاد
أخطر ما سيرثه هو الملف الاقتصادي في بلد ينحدر نحو ركود ثانٍ خلال عامين فقط، مع استمرار ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء والمواد الغذائية، ووصول معدّل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، إذ يصرّح بنك إنكلترا بأن الزيادات الأخيرة في فواتير الطاقة، والتي من المقرر أن تبلغ هذا الشتاء ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل عام، ستدفع التضخّم إلى 13.1 بالمائة.
ومن المتوقّع أن يكون أحدث رقم للتضخّم، والذي من المقرّر صدوره غداً الأربعاء، أعلى من ذلك. وحتى وإن لم يبالغ بنك إنكلترا في بث المخاوف، مرجّحاً أن يصل معدّل التضخّم إلى ذروته خلال الشتاء، ثم ينخفض إلى 2 بالمائة في غضون عامين، فإن دروس التاريخ تجعل الاقتصاديين غير متيقنين من ذلك؛ فعندما ارتفع التضخّم تاريخياً إلى أعلى من 9 بالمائة، استغرق التعافي سنوات وليس أشهراً.
وتواجه إذاً الحكومة البريطانية والمرّشحان لرئاستها الكثير من الضغوط والانتقادات بسبب ما يصفه اقتصاديون بالفشل الذريع في إدارة الاقتصاد البريطاني وأزمة غلاء المعيشة. وفي الوقت الذي تطالب فيه النقابات برفع الأجور لمواكبة غلاء المعيشة، تجادل الحكومة بأن ذلك قد يدفع التضخم إلى مستويات قياسية جديدة.
وإن كان متوسط الأجور قد ارتفع بنسبة 4.7 بالمائة خلال السنة المالية المنتهية في يوليو 2022، فإن مستوى التضخّم جعل القيمة الحقيقية لمتوسط الأجور تنخفض بنسبة 3 بالمائة مقارنة بما كانت عليه قبل 12 شهراً، إذ بلغت الفجوة بين نمو الأجور والتضخّم أعلى مستوى لها منذ اليوبيل الفضي للملكة عام 1977.
القطاع الصحي
الملف الثاني ليس أقلّ سوءاً من الملف الأول: القطاع الصحي المتهالك الذي يعاني من أسوأ أزمة توظيف في تاريخه، والذي لا يتوقّف العاملون فيه عن مناشدة الحكومة وعن اتّهامها بـ"عدم امتلاك استراتيجية ذات مصداقية".
وتقول لجنة الرعاية الصحية والاجتماعية متعدّدة الأحزاب، في أحدث بيان لها، إن أزمة التوظيف أسوأ مما تشير إليه الأرقام الرسمية، وإن المرضى في بريطانيا يواجهون خطراً جسيماً.
وشهد القطاع الصحي في المملكة المتحدة أعباء تفوق طاقته خلال جائحة كورونا، ما جعل من تعافيه معضلة في ظلّ تقاعس الحكومة عن التخطيط السليم للقوى العاملة. يضاف إلى ذلك النقص الهائل في اليد العاملة عموماً، والذي ما تزال الحكومة رافضة للاعتراف بأنه أحد تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
النقص الكبير الذي يشلّ القطاع الصحي، دفع رجال الشرطة إلى إسعاف مرضى الأزمات القلبية والجلطات الدماغية مما رفع مستوى الجريمة بشكل غير مسبوق في إنكلترا وويلز
ويصعب الفصل بين غلاء المعيشة وبين أزمة القطاع الصحي، إذ يحذّر العديد من الأطّباء من أن عبء ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية سيزيد من الضغوط الملقاة على عاتق الطواقم الطبية، لأن مئات الآلاف قد يجدون صعوبة في تدفئة منازلهم هذا الشتاء، أو في الحصول على ما يكفي من غذاء، كما أن البرد قد يفاقم بعض أمراض القلب والرئة والسكري، إضافة إلى حالات العدوى بالإنفلونزا الموسمية وبكوفيد-19.
يُذكر أن مكتب رئيس الوزراء في "داونينغ ستريت" استبعد، أمس الإثنين، أي دعم جديد لمعالجة أزمة المعيشة، لأن "معالجتها متروكة لرئيس الحكومة المستقبلي".
يُذكر أيضاً أن تقريراً نشرته صحيفة "ذا إندبندنت" قبل أيام يشير إلى أن عناصر الشرطة يقضون ما يصل إلى ثلث الوقت المخصّص للعمل في الاستجابة لنداءات العاملين في القطاع الصحي.
وكشف التقرير عن أن النقص الكبير الذي يشلّ القطاع الصحي دفع رجال الشرطة إلى إسعاف مرضى الأزمات القلبية والجلطات الدماغية، مما رفع مستوى الجريمة بشكل غير مسبوق في إنكلترا وويلز. كما أن رقم الطوارئ 999 لم يعد قادراً على استيعاب حجم الاتصالات، وبالتالي تُرك الكثير من المرضى المحتاجين لاستجابة فورية في حالة انتظار وصلت في أحيان كثيرة إلى ساعتين.
الاتحاد الأوروبي وأيرلندا الشمالية
الملف الثالث هو العلاقة المتوترة مع دول الاتحاد الأوروبي وبروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي يصرّ كلا المرشّحين على الالتزام بتمزيقه، وأيضاً كيفية جني فوائد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وهذا الملف مرتبط أيضاً بشكل كبير بالملفّين السابقين، إذ أدّى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى زيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة بلغت 6 بالمائة خلال العامين الماضيين، وفقاً لدراسة جديدة صادرة عن كينغز كولدج.
وتشير الدراسة أيضاً إلى صعوبة التوظيف التي يواجهها أرباب العمل في الصناعات التي كانت في السابق تعتمد بشكل كبير على عمال وافدين من الاتحاد الأوروبي، وعدم توفّر دليل على أن هذا النقص يترجم إلى أجور أعلى مستدامة في تلك القطاعات المتضرّرة. وتخلص الدراسة إلى أن البديل المتوفّر حتى اللحظة تبعاً لسياسات الحكومة الحالية هو بلد أفقر، معزول، منقسم.
ويرى الكثير من الخبراء السياسيين والاقتصاديين أن تمزيق بروتوكول أيرلندا الشمالية سيكون بمثابة قطيعة مروعة مع تاريخ المملكة المتحدة في احترام القانون الدولي. هذا بالإضافة إلى ملف الهجرة الذي يصرّ المرشّحان على التوعّد بالمزيد من التشدّد في التعاطي معه، مع أن المخاوف من المهاجرين تراجعت وفقاً لاستطلاعات الرأي حتى وإن كانت قد لعبت دوراً أساسياً في استفتاء "بريكست" عام 2016.
ويبدو أن سياسات المحافظين المتشدّدة في ملف بريكست تحديداً، والخروج من السوق الموحدة وتمزيق البروتوكول، زادت من تشدّد القوميين وحفّزت مطالب التغيير الدستوري، ما دفع زعيمة حزب "شين فين" ميشيل أونيل إلى القول إن أولويتها اليوم تكمن في إعادة توحيد أيرلندا وإجراء استفتاء على هذه الوحدة بحلول عام 2032. وأضافت أونيل، في لقاء نشر اليوم في "فايننشل تايمز"، أن إيرلندا الموحدة ستكون أكبر موروثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يبقى أن إنقاذ سمعة "حزب المحافظين" والوصول به سالماً إلى الانتخابات العامة المقبلة بعد عامين، هو الملف الأصعب بالنسبة لرئيس الحكومة الجديد. وسيرتبط تحقيقه بمواجهة كل ما سبق من ملفات وبإيجاد حلول إسعافية وأخرى مستدامة لتفادي عناوين عريضة هذا الشتاء من قبيل: "مواطن بريطاني يموت على عتبة بيته في انتظار سيارة الإسعاف"، أو حتى "مات جوعاً وبرداً".