تشهد العلاقات المغربية الفرنسية مؤشرات على عودة لعلاقات دافئة بينهما، بعد أزمة عميقة شهدتها تلك العلاقات منذ عام 2021، أبرز مظاهرها حالة فراغ ديبلوماسي، بعد تجميد زيارات مسؤولي البلدين المتبادلة وأي اتصال بين قادتهما.
من تلك المؤشرات إعلان وكالة الأنباء الرسمية المغربية أنه "بتعليمات سامية من الملك محمد السادس، استُقبلت الاثنين الأميرات للا مريم، وللا أسماء، وللا حسناء، لمأدبة غداء بقصر الإليزيه، بدعوة من بريجيت ماكرون، زوجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون"، في ظل تأكيد الوكالة أن المأدبة تندرج "في إطار استمرارية علاقات الصداقة التاريخية القائمة بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية".
بالمقابل، أعلنت الرئاسة الفرنسية في منشور لها على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام" أنه "استمراراً لعلاقات الصداقة التاريخية بين فرنسا والمملكة المغربية، استقبلت السيدة بريجيت ماكرون الأميرات للا مريم وللا أسماء وللا حسناء". وأضافت الرئاسة: "في هذه المناسبة، حضر الرئيس إيمانويل ماكرون للترحيب بهن"، مشيرة إلى أن رئيس الدولة "تحدث أخيراً عبر الهاتف مع الملك محمد السادس".
وتأتي دعوة عقيلة ماكرون، لشقيقات العاهل المغربي إلى المأدبة، قبل أربعة أيام فقط على تأكيد السفير الفرنسي في المغرب، كريستوف لوكورتيي، في لقاء بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق بالدار البيضاء، على إرادة باريس بشأن تقوية شراكتها مع الرباط، مشيراً إلى أن بلاده "تمتلك القدرة على أن تكون حليفاً وشريكاً مفيداً، بلا حصر أو احتكار"، وأن "من حق المغرب أن يرى فرنسا حول الطاولة، مع الإرادة كما نريد نحن أيضاً، إعادة بناء هذه الأجندة الطموحة جداً".
كما تأتي هذه التطورات اللافتة في العلاقات المغربية الفرنسية بعد أيام على تعهد وزير الخارجية الفرنسية الجديد ستيفان سيجورنيه بعمل كل ما بوسعه للتقريب بين باريس والرباط، وذلك بطلب من الرئيس ماكرون نفسه، كما أكد لصحيفة "وست فرانس"، أنه باشر اتصالاته مع المسؤولين المغاربة منذ تسلمه منصبه في 12 من يناير/ كانون الثاني الماضي.
توتر العلاقات المغربية الفرنسية
وبدأ التوتر في العلاقات المغربية الفرنسية منذ 3 سنوات، وصدرت أولى المؤشرات على بداية دفن ماضي التوتر بين البلدين الحليفين، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد تعيين المديرة السابقة للأخبار في القناة الثانية المغربية سميرة سيطايل، سفيرة للمملكة في فرنسا، بعد أشهر من فراغ دبلوماسي، إثر تعيين السفير السابق محمد بنشعبون على رأس صندوق الاستثمار.
وعرفت العلاقات بين الرباط وباريس منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه سنة 2017، مداً وجزراً، وعاشت على وقع توتر صامت، تحول إلى "مواجهة مفتوحة" دارت رحاها على جبهات عدة، سياسية ودبلوماسية واقتصادية وإعلامية.
وبدا لافتاً أن العلاقات بين البلدين تمر بأسوأ حالاتها، بعدما سارعت السلطات المغربية، في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى انتقاد إعلان وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاثرين كولونا ونفيه، زيارة الرئيس ماكرون المغرب بدعوة من الملك محمد السادس، معتبرة أن الزيارة "ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة".
وقبلها بأيام، رفضت السلطات المغربية المساعدات الفرنسية الموجهة إلى ضحايا زلزال الثامن من سبتمبر/ أيلول الماضي، ما أثار حفيظة الإعلام الفرنسي الذي شن حملات ضد المغرب ومؤسساته، وعكس حجم الأزمة "الصامتة" التي ألقت بظلالها على علاقات الرباط وباريس منذ أكثر من سنتين.
وكان قرار الحكومة الفرنسية، في سبتمبر/ أيلول من عام 2021، بـ "تشديد شروط منح تأشيرة الدخول" للمتقدمين من تونس والجزائر والمغرب، قد انعكس سلباً على علاقات البلدين، وأثار غضباً وصل إلى حد المطالبة بمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر بعثة الاتحاد الأوروبي في الرباط.
وإلى جانب أزمة التأشيرات، كان ملف الصحراء من الملفات التي أرخت بظلالها على العلاقات المغربية الفرنسية، إذ ينتظر المغرب من حليفه التقليدي توضيح موقفه بشأن "سيادته على الصحراء"، في ظل التحولات الكبرى التي عرفها الملف منذ اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بـ"مغربية الصحراء"، وما تلاه من تأييد قوى دولية أخرى كان من أبرزها إسبانيا وألمانيا.
كما سبّبت قضية التجسس تراجع العلاقات بين البلدين، بعدما اتهمت صحف فرنسية الرباط في يوليو/ تموز 2021، باختراق هواتف شخصيات مغربية وأجنبية عبر برنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس"، وهو الاتهام الذي نفته الحكومة المغربية، ولجأت في 28 من الشهر ذاته إلى مقاضاة كل من صحيفة "لوموند" وموقع "ميديا بارت" و"فرانس راديو" بتهمة التشهير.
مقاربة "رابح رابح"
ويرى الباحث في تاريخ العلاقات الدولية بوبكر أونغير، أن الرباط بصدد التأسيس لعودة الدفء إلى العلاقات المغربية الفرنسية بعد التقاطه عدة إشارات إيجابية من طرف السلطات الفرنسية، أولاها قرار فرنسا بدعم المغرب غير المشروط في مجلس الأمن الدولي، رغم الضغوط الجزائرية الهائلة التي فرضت على قصر الإليزيه.
وقال، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الدولة العميقة الفرنسية كما عادتها استحضرت مصالح فرنسا الاستراتيجية، وكان تصريح السفير الفرنسي الأخير، الذي يعتبر إلى حد كبير نوعاً من النقد الذاتي الفرنسي لسياسات خاطئة سابقاً حول التعامل مع المغرب".
واعتبر أن قرار استقبال الأميرات المغربيات "يأتي ليتوّج التوجه الجديد لعودة المياه إلى مجاريها في العلاقة بين البلدين"، متوقعاً أن "تشهد العلاقات يقيناً تطوراً مهماً سينعكس إيجاباً على البلدين في تحسين قضايا المهاجرين وتسهيل التأشيرات، وكذا التعاون الأمني والتقني، خاصة أن المغرب كان ولا يزال حريصاً جداً على أمن منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط واستقرارها، نظراً إلى الجهود الكبيرة التي يقوم بها لمحاربة ظواهر الإرهاب والتطرف وانتشار المخدرات وغيرها من القضايا التي تؤثر على السلم والأمن الأوروبي".
ولفت أونغير إلى أن عودة العلاقات "لن تؤثر بتاتاً في تحالفات المغرب الاستراتيجية وتبني المملكة لديبلوماسية متوازنة مبنية على تعدد الشركاء الدوليين والاحترام الواجب للجميع، في إطار مقاربة رابح رابح التي تنهجها الرباط في العلاقات الدولية".