فيما تقترب الذكرى الستون للاستقلال، رأى مؤرخون أن توطين الأوروبيين الذي ترافق مع ارتكاب مجازر وعمليات ترحيل واسعة كان في صلب استعمار فرنسا الجزائر في القرن التاسع عشر.
شهدت السنوات السبعون التي أعقبت إنزال القوات الفرنسية في الجزائر في 1830 مجازر كبيرة، بما في ذلك عمليات "الخنق بالدخان" والتهجير القسري لمئات الآلاف من السكان من مناطقهم الأصلية.
أوضح أوليفييه لوكور غرانميزون المتخصص الفرنسي في التاريخ الاستعماري، لوكالة فرانس برس: "في البداية، ساد منطق (طرد العرب) من ديارهم واستبدالهم، تبعه منطق استغلال أراضيهم ونهبها".
وتابع زميله الجزائري حسني قيطوني، الباحث في جامعة إكستر البريطانية، بأن الغزو كان هدفه "استبدال شعب بآخر"، موضحا أنها "كانت في الأساس سياسة استبدال وسياسة توطين".
ولا يرفض المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا مصطلح "الاستيطان"، لكنه يستبعد فكرة أن يكون الأمر استراتيجية متعمدة. ويقول "لم يكن هناك فكر ممنهج لاستبدال السكان.. لم تكن سياسة استبدال" .
وأضاف أن الأمر كان "شبيهاً بالسياسة التي جرى اختبارها في الغرب الأميركي.. نأتي بمستوطنين للسيطرة على البلاد.. لا توجد استراتيجية.. إنه استيطان تدريجي بإضافة سكان يصلون في حركة غير منظمة".
"الخنق بالدخان"
أكد ستورا أن "غزو الجزائر كان مروعا وجرى باستخدام العنف"، موضحا أنه في الجزائر "استخدم الجيش الفرنسي في أفريقيا (الأرتال الجهنمية) التي استخدمت ضد المتمردين في حرب فونديه في بداية الثورة الفرنسية.. وهي تقوم على قتل السكان وترحيلهم".
هذا ما حصل في البليدة بالقرب من الجزائر العاصمة، حيث "قُتلت أكثر من 600 امرأة وطفل ومسن" في تشرين الثاني/نوفمبر 1830، كما ذكر المؤرخ قيطوني.
وأوضح أنه منذ عام 1840 عندما واجهت فرنسا أزمة اقتصادية كبيرة، "قررت الحكومة (الفرنسية) احتلال الجزائر بأكملها وتوطين (فائض السكان الفرنسيين) فيها".
وبحسب قيطوني، فإنه بين 1830 و1930، استولت الإدارة الاستعمارية على 14 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، تم التنازل عن جزء منها مجانا للمهاجرين الأوروبيين، الذين ارتفع عددهم من سبعة آلاف في 1836 إلى 881 ألفًا في 1931.
وأشار غرانميزون إلى أن ما سُمي "إحلال السلام في الجزائر بدأ فعلياً بتعيين الجنرال بيجو في منصب الحاكم العام في عام 1840".
وأضاف أنها كانت فترة "حرب ماحقة"، زال فيها "التمييز بين المدنيين والعسكريين وبين ساحات القتال وأماكن العبادة"، التي انتُهكت حرمتها حتى عندما لجأ إليها مدنيون للاحتماء.
اخترعت القوات الاستعمارية "الخنق بالدخان". ووثق المؤرخون على وجه الخصوص حالتين: الأولى في منطقة الصبيح (11 حزيران/يونيو 1844) والثانية في منطقة الظهرة (18 حزيران/ يونيو 1845)، أبيدت خلالهما قبائل بأكملها لجأت إلى كهوف سُدت واختنق من كان بداخلها بدخان نيران أشعلت بأوامر من الجنرالات الفرنسيين، حسب ما وثق منصور قديدير، الباحث في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في وهران.
صنف غرانميزون هذه الأحداث أنها "إرهاب دولة: كان الهدف منها ارتكاب مجازر لتكون عبرة ولإخضاع (السكان الأصليين) بسهولة الأكبر"، من خلال ما وصفه بأنه "جريمة ضد الإنسانية".
وبالإضافة إلى "الخنق بالدخان"، أشار المؤرخ إلى "تدمير عشرات القرى وترحيل آلاف المدنيين" من دون مواشيهم إلى أراضٍ أقل خصوبة، ما أدى إلى مجاعات وأوبئة قضت على أعداد كبيرة منهم.
"سلب الهوية"
رأى قديدير أن المرحلة الأولى من الغزو تضمنت "إرادة متعمدة للقضاء، أو على الأقل لإنقاص عدد السكان، حتى لا يشكلوا خطرا على جيش الاحتلال".
ففي 1880، قدّر الديموغرافي الفرنسي رينيه ريكو أن "عدد السكان الأصليين انخفض بنحو 875 ألفًا بين عامي 1830 و1872".
وعلى الرغم من ذلك، بدأ عدد الجزائريين بعدها يزداد، حتى إنه تضاعف بين عامي 1906 و1948، ليصل إلى تسعة ملايين نسمة.
ذكر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أن "5 ملايين و630 ألف جزائري قتلوا بين 1830 و1962"، أي أن غالبية الضحايا سقطوا خلال السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي، إذ إن حرب الاستقلال أسفرت عن مقتل ما بين 300 إلى 400 ألف جزائري بحسب المؤرخين الفرنسيين، و 1,5 مليون حسب الجزائريين.
واعتبر ستورا أنه بمعزل عن الأرقام التي لا يوجد توافق حولها، كان "الأمر الأهم خلال الغزو الاستعماري هو سلب الهوية. فعندما يُجرد شخص من أرضه، يفقد اسمه المرتبط بهذه الأرض".
(فرانس برس)