أقفل باب الترشح للانتخابات الرئاسية في ليبيا، المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، على 98 مرشحاً من مختلف التيارات السياسية في البلاد، مع بروز أسماء جدلية لا سيما المنتمية إلى نظام معمر القذافي، مقابل عشرات الشخصيات غير المعروفة بممارسة أي دور سياسي أو في المجال العام. لكن كثرة المرشحين لا تعني أن مسار هذا الاستحقاق سيكون سهلاً ومعبّداً، في ظل ترقّب نتائج التدقيق من الجهات المختصة بملفات المرشحين، وكيفية تعاطي بعض الشخصيات المرجح استبعادها مع قرارات المفوضية عند الإعلان عن القوائم النهائية للمرشحين.
كما تبرز معضلة أكبر وأكثر خطورة قد تجعل العملية الانتخابية مفتوحة على كل الاحتمالات، وهي غياب قاعدة دستورية لإجراء هذا الاستحقاق، واستمرار الغموض الذي يلف التعديلات على القوانين الانتخابية التي لم تعلنها مفوضية الانتخابات أو مجلس النواب، كما أنهما لم ينفياها، وهو ما قد يدفع شخصيات غير راضية على العملية أو يُرفض ترشحها، للطعن فيها وبنتائجها، أو حتى معارضة إجرائها من أساسها، وتجييش قواعدها لعرقلة هذا الاستحقاق.
وتمكنت المفوضية العليا للانتخابات الليبية من تمرير العملية الانتخابية في المحطة الأولى المتمثلة بقبول طلبات الترشح، بعد أن قبلت ملفات كل المرشحين، لتتمكن من خفض حدة التوتر والتصعيد حيال القوانين الانتخابية، وتترك حسم الأسماء النهائية إلى مكتب النائب العام وجهازي المباحث العامة والجوازات والجنسية، التي عليها التثبت من صحة الوثائق المقدمة عند الترشح. وأعلن رئيس المفوضية عماد السايح، في مؤتمر صحافي أمس الثلاثاء، أن العدد النهائي للمرشحين وصل إلى 98 بعد إغلاق باب الترشح أمس الأول الإثنين، وإحالة وثائق المرشحين إلى الجهات المختصة للتثبت من صحتها. واعتبر أن الإقبال الكبير على الترشح لم يكن متوقعاً وهذا أمر إيجابي. وأوضح أن المفوضية أحالت ملفات المرشحين إلى مكتب النائب العام وجهاز المباحث الجنائية وجهاز الجوازات والجنسية للتدقيق فيها، وقال: "حالما تصل الردود سننشر القائمة الأولية"، مضيفاً: "بعد نشر القائمة الأولية سنمر بمرحلة الطعون التي ستدوم لمدة 12 يوماً مقسمة على أربع مراحل يتم خلالها قبول الطعون والفصل وفيها ثم قبول استئناف المطعون فيهم قبل النظر النهائي في القائمة النهائية"، مرجحاً أن تنتهي هذه المرحلة في 7 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
العدد النهائي للمرشحين وصل إلى 98 بعد إغلاق باب الترشح أمس الأول الإثنين
ويتصدّر سيف الإسلام القذافي، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وقائد مليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر، ورئيس الحكومة الحالية عبد الحميد الدبيبة، مشهد المرشحين، بالإضافة إلى شخصيات أخرى تبدو حظوظها قائمة، مثل وزير الداخلية في حكومة الوفاق السابقة فتحي باشاغا، الذي خسر جولات الانتخابات النهائية للسلطة التنفيذية في فبراير/شباط الماضي، وعُرفت عنه مواقف مناوئة لقادة هذه السلطة، لا سيما الدبيبة. كما أن رئيس الحكومة السابق علي زيدان لا يزال قريباً من مشهد الصراعات الذي أطاح به عن رأس حكومته عام 2014، ولم يتخلَ عن طموحه في العودة للحكم، وهو الذي خاض غمار انتخابات ملتقى الحوار السياسي لتولي رئاسة السلطة التنفيذية في فبراير الماضي.
لكن الباحث والمحلل السياسي الليبي، صابر العجمي، يرى في حديث مع "العربي الجديد"، أنه على الرغم من نجاح المفوضية في إنهاء المرحلة الأولى من العملية الانتخابية، إلا أن تمرير كل المرشحين قد يجعل من مشهد الانتخابات "معقداً للغاية بالنظر إلى فسيفسائه التي لا توحي بأن العملية الانتخابية ستواجه حالة تنافس بقدر ما ستكون أشبه بحالة صراع بسبب الاستقطابات السياسية الحادة التي كانت مسيطرة على مشهد البلاد إلى وقت قريب جداً". ويعتبر العجمي أن المفوضية تعمّدت عدم الإعلان عن تعديل القوانين الانتخابية لتبقي لنفسها هامشاً من حرية الحركة لاستيعاب مواقف الرافضين، وذلك للحفاظ على استمرار العملية الانتخابية، مرجحاً أن تمر أغلب الأسماء البارزة إلى مرحلة السباق والاقتراع، فيما ستقع أسماء أخرى غير معروفة ضحية عمليات التدقيق والفحص. ولم يكن ترشح صالح وحفتر والدبيبة مفاجئاً، عكس القذافي، ويشير العجمي إلى معطيات أخرى يتوقع أن تغيّر الكثير من حسابات أبرز شخصيتين، وهما الدبيبة وحفتر، لافتاً إلى أن "اختيار القذافي للجنوب كان محسوباً بدقة للحصول على مؤيدين قبليين لنظام والده عن مناطق التجاذب والصراع بين الشرق حيث يوجد حفتر والغرب حيث الدبيبة". ويضيف أن "حفتر عوّل بشكل كبير على أنصار النظام السابق في حروبه الطويلة، وبسبب ولائهم السابق له فتحوا له مناطقهم ومدنهم في الجنوب ووسط البلاد، وحتى أجهزته الأمنية بناها على ضباط النظام السابق"، معتبراً أن حفتر الأكثر تضرراً من ترشح سيف الإسلام الذي ستذهب إليه حصة كبيرة من مؤيدي نظام والده بعد أن شعروا أن حفتر لم يعد يلبّي أملهم، خصوصاً بعد خسارته الحرب على طرابلس التي دعموها وشاركوا فيها.
ويتزامن كل هذا مع تآكل شعبية حفتر في شرق البلاد بسبب الخسائر البشرية الكبيرة لأبناء القبائل، والرفض الواسع لترشحه في غرب البلاد. بالنسبة لعقيلة صالح، وإن كان القذافي لا يمثل عقبة كبيرة أمامه، إلا أن "حالة التماس التي ربطت صالح بالدبيبة طيلة الأشهر الماضية تقلل من فرص منافسته في الانتخابات"، وفق العجمي، الذي يوضح أنه "ارتسم في أذهان الناس موقف رفض مسبق لصالح بسبب معارضته وعرقلته الكثير من المشاريع التنموية الحكومية التي استثمرها الدبيبة كورقة انتخابية ناجحة".
ويوافق أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الليبية خليفة الحداد، في حديث مع "العربي الجديد"، على وجود صعوبات تواجه حفتر جراء ظهور القذافي، مشيراً في المقابل إلى أن "الدبيبة لم يعوّل على أنصار النظام السابق عندما تمكّن من ترسيخ نفسه في الساحة السياسية، وفي غضون عدة أشهر أصبح رقماً في ساحة المتنافسين مقابل شخصيات أقدم وأكثر قدرة منه كحفتر مثلاً". ونجح الدبيبة في استثمار الكثير من المواقف والعقبات لصالحه عندما لم يتجنّب المجاهرة بالعداء لحفتر بعدما منعه وفريقه الوزاري من دخول بنغازي. كما أنه نجح في اختراق الموقف المتصلب لمجلس النواب عدة مرات، آخرها عند إعلان البرلمان حجب الثقة عن حكومته والذي أفشله الدبيبة بخروجه ضمن تظاهرات شعبية شكلت رافداً قوياً له. وعلى الرغم من الصعود الذي حققه الدبيبة خلال الأشهر القليلة من عمر حكومته، لكن الحداد يرجح أيضاً أن يلاقي الدبيبة منافسة شديدة في مدينة مصراتة، قاعدته الأصلية، من قِبل باشاغا، موضحاً أن كثرة المرشحين من المدينة قد تضعف حظوظ الدبيبة، مضيفاً "لطالما شكّلت صلابة ووحدة الموقف مصدر قوة لمصراتة عسكرياً وسياسياً في الفترات السابقة ومكّنتها من ربط أحلاف قوية مع مناطق الغرب الليبي، لكن كثرة المرشحين من المدينة قد تشتت هذه القاعدة".
كثرة المرشحين من مدينة مصراتة قد تضعف حظوظ الدبيبة
وبالإضافة للدبيية، يبرز من مصراتة نائب رئيس المجلس الرئاسي السابق أحمد معيتيق، ورئيس حكومة الإنقاذ السابق خليفة الغويل، والمرشح السابق لرئاسة السلطة التنفيذية في انتخابات فبراير الماضي خالد المنتصر. لكن حظوظ باشاغا تبدو أكبر من معيتيق والغويل والمنتصر، وفقاً للحداد، كونه ضابطاً سابقاً وعلى صلات واسعة بمجموعات مسلحة في مصراتة لها نفوذها وسمعتها في الغرب الليبي، كان الدبيبة قد حاول جذب ولائها له عندما شارك مرات عدة في مناسباتها العسكرية وزار مقارها، مثل اللواء محمد الحداد الذي ثبته الدبيبة في موقعه كرئيس لأركان الجيش، وهو من أبرز قادة المجموعات المسلحة.
وتلفت في قائمة المرشحين، كثافة المنتمين للنظام السابق، فإضافة إلى سيف الإسلام القذافي، ترشح أيضاً بشير صالح، أحد أبرز أركان نظام معمر القذافي، وعبد المنعم الهوني أحد أعضاء انقلاب القذافي عام 1969 وأبرز رموز نظامه، ونائب وزير خارجية في النظام السابق خالد قعيم (برز بشكل خاص بعدما تصدر المؤتمرات الصحافية عقب انشقاق وزير الخارجية موسى كوسا في 31 مارس/آذار 2011)، ووزير التعليم في النظام السابق محمد الشريف، إضافة إلى المتحدث الرسمي باسم الحركة الوطنية الشعبية الموالية للنظام السابق أسعد ازهيو.
لكن الناشط السياسي الليبي من سبها، رمزي المقرحي، يرى أن أنصار النظام السابق لا يشكّلون وحدة سياسية يمكنها أن تؤثر في مسار الانتخابات لصالح عودة النظام السابق أو على الأقل تمركزهم في مفاصل مهمة في المرحلة السياسية الجديدة، معتبراً في حديث مع "العربي الجديد" أن ترشح أغلب الموالين للنظام السابق شكل من أشكال تجليات التأثير الخارجي في المسار الانتخابي وتوجيهه لمصالح أقطاب دولية متنافسة في الملف الليبي. ويوضح المقرحي أن "الموقف الروسي المطالب بضرورة مشاركة أنصار النظام السابق في الانتخابات لا يمكن فصله عن ظهور سيف الإسلام القذافي المفاجئ"، مقابل بيان واشنطن التي سارعت للتحفظ على ترشح القذافي ووصفته بـ"المتورط في جرائم ضد الإنسانية". ويضيف أن "وصول بشير صالح بشكل مفاجئ أيضاً إلى البلاد وترشحه، قد يكون وراءه طرف دولي نقيض لمن دفع بالقذافي"، لافتاً إلى أن "القذافي ليس لديه قبول واسع في أوساط رموز النظام السابق البارزين، خصوصاً الحرس القديم لنظام والده، وبالإضافة إلى كون بشير صالح من الشخصيات المعارضة لسياسات سيف الإسلام الإصلاحية في نهاية عهد النظام السابق، ومن الراجح بشكل كبير أن أطرافاً دولية ليست في مصلحتها عودة القذافي إلى المشهد السياسي هي من دفعت بغيره للترشح لتفتيت قاعدته الشعبية".
ناشط ليبي: أنصار النظام السابق لا يشكّلون وحدة سياسية يمكنها أن تؤثر في مسار الانتخابات لصالح عودة النظام السابق
ويتساءل المقرحي: "ما هي مقومات أغلب هذه الشخصيات على الأرض وكيف يمكنها فرض نفسها في ظل استمرار وجود المجموعات المسلحة الرافضة لها، كسيف الإسلام القذافي مثلاً الذي يدرك الجميع أنه جاء كعامل إرباك للعملية الانتخابية فقط"، مشيراً إلى أن المواقف الخارجية عامل أساسي في التأثير على العملية الانتخابية ونتائجها. ولفت إلى أن "من السهل جداً على سبيل المثال إحياء ملف الرشاوى التي اتُهم الدبيبة بدفعها لأعضاء ملتقى الحوار السياسي، أو التذكير بأنه وقّع تعهداً قبيل انتخابه رئيساً للحكومة بعدم توليه أي منصب في المرحلة السياسية المقبلة، وبالتالي فمسألة حظوظ المرشح في القواعد الشعبية نسبية بالنسبة لكلمة المتدخلين الخارجيين".
وقبل كل هذا، يذكّر المقرحي أن كل الشخصيات التي قفزت للترشح إلى الانتخابات قبل انتهاء الموعد المحدد لتقديم الطلبات، لا تزال تواجه مصيراً غامضاً، فـ"علاوة على مراحل تصفية القوائم التي ستمر على مكتب النائب العام وجهازي المباحث العامة والجوازات والجنسية قبل فتحها للطعن فيها، لا تزال العملية الانتخابية هشة ومفتوحة على كل الاحتمالات، وأولها إمكانية أن تفرض التساؤلات بشأن غياب القاعدة الدستورية نفسها في الواقع". وأشار إلى أن صدور نتائج التدقيق في قوائم المرشحين إن لم يكن في صالح بعض الشخصيات البارزة قد يدفعها إلى تبني الطعن في العملية الانتخابية ومعارضة إجرائها من دون قاعدة دستورية، ومن غير المستبعد أن يتحالف أكثر من خاسر في عملية تدقيق القوائم لقيادة حملة مقاطعة للانتخابات.
لكن قائمة المرشحين لا تقف عند هؤلاء، بل تزدحم بعشرات الشخصيات الأخرى، بعضها لا يُعرف لها أي خلفيات سياسية ولا ممارسة للوظائف الحكومية. وعن ذلك، تقول الأكاديمية الليبية والناشطة السياسية أمال السليني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن كثرة الإقبال على الترشح للانتخابات الرئاسية ترجع في المقام الأول إلى القوانين الانتخابية بموادها الفضفاضة من دون أي ضوابط ولا اشتراطات، مثل الخبرة الوظيفية أو السياسية. وتضيف السليني أسباباً أخرى، منها ما يتعلق برغبة بعض الأطراف في تشتيت الأصوات داخل المجمّعات الانتخابية "كما في مصراتة التي ترشح منها عدد كبير مقارنة بالمدن الأخرى، ما يشي بوجود أطراف دفعت ببعض الشخصيات في مصراتة للترشح بهدف إضعاف قاعدة أبرز المرشحين عن المدينة"، مضيفة أن "هناك أيضاً شخصيات تسعى للحصول على مراكز كالوزارات أو السفارات مقابل تنازلها لصالح أحد المرشحين الأقوياء". كما ترجح السليني أن بعض الشخصيات المرشحة، مثل علي زيدان، ورئيس المؤتمر الوطني السابق نوري ابوسهمين، اللذين خسرا مواقعهما بسبب ضعف قواعد مؤيديهما، "لا يحركهما سوى العناد السياسي فقط، وتريد شخصيات هذه الشريحة القول إنها ما زالت موجودة"، مشيرة إلى أن الكثير من الشخصيات اندفعت للترشح من دون أن يكون لها رصيد سياسي أو مشاركة حكومية "لمجرد الطموح فقط أو لتضيف في سيرتها الذاتية شيئاً يزيد من وزنها".