لبنان: سلطة تتسوّل الدعم الخارجي بلا نيّة للإصلاح

07 يوليو 2021
طوابير يومية أمام محطات الوقود (حسين بيضون)
+ الخط -

انهيار قيمة العملة الوطنية وأجور العاملين، طوابير وإشكالات أمام محطات الوقود، انقطاع أصناف عديدة من الأدوية، وارتفاع هائل في أسعار المواد الغذائية، هذه عينة من الأزمات التي يعانيها لبنان، والتي لم تجد السلطة حلاً لمواجهتها سوى التسوّل من الخارج طلباً للمساعدة، من دون اتخاذ أي خطوات إصلاحية مطلوبة أو حتى إبداء النيّة لذلك. وبعد مرور نحو عام على استقالة حكومة حسان دياب في 10 أغسطس/ آب الماضي بعد انفجار مرفأ بيروت الذي هزّ العاصمة ودمّر أجزاء منها ولم يُعد بناء قسم واسع منها إلى اليوم، ثم تكليف سعد الحريري في أكتوبر/ تشرين الأول بتشكيل حكومة جديدة، لا تزال الأطراف السياسية تتعنّت وترفض تقديم أي تنازلات لتخطي خلافاتها والتوافق على حكومة جديدة وإيجاد سلطة فعلية تستطيع اتخاذ القرارات المطلوبة لوقف الانهيار الذي لم يوفّر أي قطاع.

وتروي عتمة بيروت ومختلف المناطق اللبنانية كل ليلة، جراء تراجع ساعات التغذية بالكهرباء لأقل من ساعتين في اليوم وشحّ مادة المازوت، الواقع المرّ الذي يعيشه اللبنانيون يومياً، من دون وجود أي مؤشرات على حل قريب، وفي ظل مماطلة بتشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على التفاوض مع المجتمع الدولي وطلب مساعدة خارجية. وتنعكس الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية على مختلف اللبنانيين، فانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار أسهم في تراجع قيمة الرواتب بشكل كبير وارتفاع أسعار مختلف السلع المستوردة والتي تبدأ من المواد الغذائية اليومية، يضاف إلى ذلك انقطاع الدواء من الصيدليات لعدم توفير دعم كافٍ من مصرف لبنان المركزي لاستيراد الأدوية وفق السعر الرسمي المعتمد (الدولار يساوي 1500 ليرة).

الأمر نفسه ينطبق على المحروقات مع شحّ كبير في وجود البنزين والمازوت خصوصاً، ما تُرجم بطوابير طويلة من السيارات أمام محطات الوقود، يتخللها وقوع إشكالات يومية، بالتوازي مع تقنين كبير بساعات التغذية الكهربائية من المؤسسة الكهرباء التابعة للدولة، ويترافق ذلك مع عدم قدرة أصحاب المولدات الخاصة على تلبية الحاجة نظراً لشبه الانقطاع في مادة المازوت. كذلك، فإن ثمة أزمة أخرى لا تقلّ خطورة، وهي انقطاع الكثير من مواد الطبابة من المستشفيات.

أمام هذا الواقع الذي لا تلوح في الأفق القريب حلول له، تتوسّل السلطة المساعدات من الخارج، مع ربط ذلك بخطاب تحذيري من مغبة سقوط لبنان وتداعيات ذلك على الخارج، باستغلال وجود أكثر من مليون لاجئ، للتلويح بخطر الانهيار، وهو الحديث الذي جدد تكراره رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب أمس الثلاثاء، وطلبه المساعدة "لإنقاذ لبنان من الزوال"، في ظل عدم تقديم أيّ خطوةٍ إصلاحية، وهو ما أقفل المجتمع الدولي الباب عليه نهائياً، بتكرار أكثر من مسؤول غربي في مناسبات عدة أن "لا شيك على بياض للسلطة اللبنانية".

في موازاة ذلك، يصر أركان هذه السلطة، بمختلف مستوياتها، على التهرب من المسؤولية والتمسك بخطاب المؤامرة كسبب في الانهيار الحاصل. وحذر دياب في كلمة له أمس الثلاثاء، أمام السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية، من أن "المعاناة بلغت حدود المأساة، فالأزمات الحادة التي يعيشها اللبنانيون، على مختلف المستويات الحياتية والمعيشية والاجتماعية والصحية والخدماتية، تدفع الوضع في لبنان نحو الكارثة الكبرى التي تتجاوز تداعياتها أي قدرة على الاحتواء، وبالتالي نصبح أمام واقع لبناني مخيف". وإذ اعتبر أن "لبنان واللبنانيين على شفير الكارثة"، حذر من أن "الخطر الذي يهدد اللبنانيين لن يقتصر عليهم، وعندما يحصل الارتطام الكبير، سيتردد صدى تداعياته خارج جغرافيا لبنان إلى المدى القريب والبعيد، في البر والبحر. لن يستطيع أحد عزل نفسه عن خطر انهيار لبنان". ولم يتوانَ دياب عن استغلال ورقة اللاجئين قائلاً "مع وجود نحو مليون ونصف المليون نازح سوري ومئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، سيكون من الصعب التكهن بنتائج انهيار الاستقرار في لبنان".

دياب: عندما يحصل الارتطام الكبير، سيتردد صدى تداعياته خارج جغرافيا لبنان إلى المدى القريب والبعيد

ومنذ أواخر عام 2019، بات تسوّل المساعدات بمثابة الخطاب الوحيد للمسؤولين في لبنان، مع استغلالهم في كلّ مرة ورقة اللاجئين السوريين والفلسطينيين لمحاولة الضغط على الخارج. وجاءت تصريحات دياب بعد ساعات من خطاب للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله الذي تبنّى فيه خطاب المؤامرة مرة جديدة، إذ أرجع الأزمات التي يعاني منها لبنان "إلى القرار الأميركي الذي يمنع أي دعم خارجي للبنان"، مضيفاً "أليست أميركا التي تمنع الدول من مساعدة لبنان بهدف تحقيق مصالح أميركا وإسرائيل، سواء من مشروع التوطين أو سرقة الغاز والنفط؟"، مضيفاً "أليست الإدارة الأميركية التي تهدد بالعقوبات على اللبنانيين وتمنعهم من الاستعانة بأي صديق من الشرق، سواء الصين أو غيرها؟"، معتبراً أنه "لدينا فرص حقيقية لإنقاذ لبنان وهذا لا يحتاج إلى كثير من النظريات لأن البعض يخاف من أميركا وأن تضعهم على لائحة العقوبات".

هذه المواقف جاءت قبيل وصول وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى بيروت عصر أمس، في زيارة هي الثالثة له منذ ما بعد انفجار بيروت في أغسطس/ آب 2020، حيث التقى الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري وقائد الجيش العماد جوزيف عون. وفي زيارته الأخيرة في فبراير/ شباط الماضي، أكد الوزير القطري دعم بلاده للشعب اللبناني، مشدداً على أن أي برنامج اقتصادي متكامل لدعم لبنان يتطلب وجود حكومة حتى تستطيع الدولة القطرية العمل بالشراكة معها على برامج اقتصادية ووفق معايير معينة.

وتعليقاً على الأوضاع التي وصل إليها لبنان، يقول المستشار والباحث في التنمية المستدامة كميل حماتي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "نظرية المؤامرة مستخدمة دائماً في لبنان، وكذلك الظهور وكأننا في مركز القرار في بلد لم يعد قادراً على تقديم أي شيء لا على الصعيد الإنتاجي ولا الصناعي، وهو محاصر بشتى أنواع الأزمات، صحياً، غذائياً، استشفائياً، معيشياً، نقدياً، اقتصادياً واجتماعياً وما إلى ذلك". ويأسف حماتي لأن السلطات اللبنانية دائماً ما تعتمد على الآخرين لحلّ مشاكل البلاد، "واليوم يمتد هذا الأمر إلى أعلى مستويات السلطة، مثل رئيس حكومة تصريف الأعمال، الذي لم يُقدم على أي خطوة إصلاحية في ظلّ عدم توافر النيّة الحقيقية لحلّ الأزمة، علماً أنّ الاقتصاد اللبناني أصلاً "اتكالي"، فهو يرتكز بشكل أساسي على الاستيراد، ومن هنا أساس غالبية مشاكلنا الراهنة، خصوصاً على مستوى الأمن الغذائي".

ويرى حماتي أن ورقة اللاجئين باتت باهتة، في بلدٍ يلعب أيضاً على وتر الاسم، فيصنفهم بـ"نازحين سوريين" بدل اللاجئين للتهرب من التزاماته، في حين أنه كان بإمكانه أن ينظم وجودهم، ويتعامل معهم كقيمة اجتماعية واقتصادية، كما أن القرارات السياسية المستخدمة تحت شعار إخراج البلد من الأزمة اعتباطية وغير مبنية على علم أو تجارب أو نماذج شبيهة، أو دراسة خبراء ومتخصصين يمكن اللجوء إليهم أيضاً قبل طلب الدعم من الخارج. ويوضح أن البلدان التي عرفت كيفية تنظيم وجود اللاجئين فيها، وأدخلتهم في النظام الاقتصادي، استفادت من ذلك، فهي سهّلت وجودهم في البلد تحت صفة لاجئين وليس مواطنين، ولكنّها أمّنت لهم بعض الحقوق والليونة في سوق العمل. ويرى "أن من أوصل البلد إلى الأزمة من الطبيعي أنه لا يمكن أن يحلّها، والمشكلة في النظام المعمول به، والذي لا يمكننا الخروج منه".

من جهته، يقول الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ الدولة التي تعثّرت عن دفع سندات الديون الخارجية "يوروبوند" لا يمكن أن تندب وضعها اليوم وتشكو من الانهيار، وكان من واجبها التفكير جيداً قبل الإقدام على خطوةٍ من هذا النوع تزيد من انعدام ثقة الخارج بلبنان. ويلفت شيخاني إلى أنه "على الرغم من مرور 18 شهراً على الأزمة، تستمرّ السلطات في لبنان بالبكاء على الأطلال وطلب الدعم الخارجي من دون أن تُقدِم على أي خطوة إصلاحية في أي من القطاعات ولا نيّة لها أصلاً بذلك، خصوصاً على صعيد إقرار قانون "الكابيتال كونترول"، واليوم يتسارع مسار الانهيار وقد بدأ مصرف لبنان المركزي يصرف من الاحتياطي الإلزامي، هو الذي بدوره لم يضع خطة نقدية واكتفى بإصدار تعاميم تكتيكية تضخمية".

خبير اقتصادي: تستمرّ السلطات بطلب الدعم الخارجي من دون أن تُقدِم على أي خطوة إصلاحية في أي من القطاعات

ويشدد الخبير الاقتصادي على أنّ أي مساعدة خارجية تتطلّب حكومة وتستوجب تواقيع الوزارات المختصة، وهي غير موجودة اليوم، فهل مثلاً على صندوق النقد الدولي أن "يوزّع أمواله" من دون أن يضمن الحفاظ عليها وعدم ذهابها هدراً وسلكها المسار القانوني مع الوزارة المعنية؟ ويشير إلى أن "لبنان يدخل اليوم دوامة خطيرة، في ظل التضخّم المفرط الذي سيكون عنوان المرحلة الراهنة، التي بدأنا نلتمسها وتزيد حدّتها عند رفع الدعم الكليّ، عندها الجحيم وليس فقط جهنّم".

من جهته، يقول الناشط الحقوقي محمد حسن، لـ"العربي الجديد"، إن الدعم الذي تم تقديمه للحكومة اللبنانية طوال السنوات الماضية من خلال الجهات المانحة الدولية كان يكفي لسدّ الأعباء المباشرة وغير المباشرة المترتّبة على لبنان جراء استقبال اللاجئين في البلاد، لولا الفساد المتجذّر في حكومته. ويضيف "إن ملف اللاجئين السوريين هو آخر ما تبقى للحكومة اللبنانية كحجّة مقنعة لاستجرار الدعم الدولي والتدخل من أجل انتشال لبنان من المأزق الحالي"، معرباً عن أسفه لما وصل إليه لبنان بسبب الفساد، ومعتبراً أن "على الحكومة أن ترضخ لقرارات المواطنين اللبنانيين الذين انتفضوا على الفساد".

المساهمون