كيف تلاشت الحركة الوطنية الفلسطينية؟

26 ابريل 2015
منى حاطوم، "فعل مضارع"
+ الخط -

شكّل نهوض المقاومة الفلسطينية لحظة مميزة بعد هزيمة حزيران سنة 1967، وباتت نموذجاً يجتذب ثوريي العالم، ويحرّك الأمل في البلدان العربية بعد هزيمة قاسية. لكننا الآن في لحظة معاكسة، حيث إننا نشهد تجسُّد تلك الهزيمة بكل نتائجها، وخصوصاً في فرض السيطرة "المادية" على "الضفة الغربية" التي جرى احتلالها حينها، وتهميش قطاع غزة وعزله.

لقد أنعشت الهزيمة التوجه الفلسطيني لخوض النضال بعدما راهن على الأنظمة العربية خلال عقدين من الزمن، وربما كانت المراهنة قسرية لأسباب عديدة أهمها حالة الاقتلاع والتشرّد اللذين عانى منهما الشعب الفلسطيني، الأمر الذي فرض عليه المراهنة على الدول العربية التي كانت تحمل الشعارات القومية في ذلك الوقت، بل وتعتبر أن وصولها إلى السلطة هو من أجل تحرير فلسطين. لهذا نجحت الأفكار التي قررت فلسطنة القضية، وعزلها عن "الدور العربي"، ومن ثم تحويل الصراع إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي.

هذه الانتقالة كانت تضع المشروع الفلسطيني في مأزق عويص منذ البداية، حيث انطلقت المقاومة الفلسطينية ("حركة فتح"، و"الجبهة الشعبية") من مخيمات اللجوء، أي من البلدان العربية التي تحيط بفلسطين، وبالتالي كانت المقاومة على احتكاك بالأنظمة الحاكمة التي كانت قد هُزمت أصلاً، والتي كانت تُعدّ لـ"معركة التحرير"، لهذا لم تكن تريد "التورط في حرب جديدة قبل الاستعداد والتجهيز لها"، بمعنى أن هذه الأنظمة كانت معنية بضبط حركة المقاومة، وسدّ الحدود والمنافذ في وجهها.

وهو الأمر الذي أدخل المقاومة في معركة مع النظام في المملكة الأردنية الهاشمية، والتي أدت بالنتيجة إلى خروجها من أطول جبهة صراع مع الدولة الصهيونية، كما سُدَّت جبهة الجولان ومُنع نشاط المقاومة من الأراضي السورية، ولم يبق سوى لبنان، البلد الضعيف، الذي استطاعت المقاومة فرض وجودها فيه، في جبهة ضيّقة وصعبة مع الدولة الصهيونية.

لقد منع الوضع الجيوسياسي الذي تشكّل بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، ومن ثم التحولات "اليمينية" في البلدان التي حكمتها أنظمة قومية، تجربة فلسطينية تستند إلى قاعدة شعبية، بل جعلا المقاومة في صدام مع تلك الأنظمة، وعانت طويلاً من حصارها.

وبالتالي أدت الفلسطنة إلى "فك ارتباط" الأنظمة السابقة الذكر بالقضية الفلسطينية، بالرغم من أن الوجود الصهيوني كان لمواجهة التطور والوحدة في مجمل الوطن العربي. وبهذا كانت الفلسطنة مبرر التفاهم مع الدولة الصهيونية، كما جعلت المقاومة قوة عاجزة أمام "جبروت" الدولة الصهيونية، وفي مواجهة الأنظمة العربية في الوقت نفسه.

هذا المأزق كان يعني الفشل منذ البداية، ويشير إلى إستراتيجية خاطئة من الأساس. وهو السبب الرئيسي بحصر المقاومة على الأراضي اللبنانية لتتحوّل إلى عنصر سيطرة فيها، وليتحوّل أيضاً كثير من المناضلين إلى بيروقراطيين، وينمو الفساد والإفساد، وتصبح المقاومة قوة تشويه داخل الصراع الاجتماعي اللبناني، ولتبدو أنها تتخذ من لبنان "رهينة" في إطار مفاوضات إقليمية ودولية من أجل هدف الحصول على "سلطة فلسطينية".

ولقد أوضحت السياسات المتبعة منذ سنة 1974 والمتعلقة ببرنامج "النقاط العشر"، الذي بات يسمى البرنامج المرحلي، والذي يقبل بـ"دولة" على جزء من الأراضي الفلسطينية، أن الأمر انتقل من المقاومة من أجل "تحرير فلسطين" إلى تحقيق تسوية مع الدولة الصهيونية، تتخلى بموجبها عن الأرض التي احتلتها سنة 67 لإقامة ما كان يفترض أن يكون "دولة مستقلة".

ربما كانت الإستراتيجية التي اتبعتها "حركة فتح" في ذلك الوقت، ومن ثم تبعتها التنظيمات الأخرى، مصادفة، أو كانت مقصودة (كما كان يشير بعض قادة "فتح" إلى أن الهدف هو سحب القضية الفلسطينية من الأحزاب والأنظمة القومية، ومن أجل توريطها في حرب مع الدولة الصهيونية)، لكنها كانت بالضرورة لتضع المقاومة في مأزق، هذا المأزق الذي أصبح مبرراً للانتقال إلى "سياسة التسوية"، والقبول بالدولة الصهيونية مقابل الحصول على "دولة مستقلة" في الضفة الغربية وقطاع غزة و"عاصمتها القدس".

لكن الانتقال السابق، كان سيفضي بالضرورة إلى مأزق جديد. لقد فتحت هذه السياسة على انتقال الأنظمة العربية إلى إنهاء الصراع مع الدولة الصهيونية، وخصوصاً بعد توقيع اتفاق أوسلو، فحققت الدولة الصهيونية بعدها انفراجاً كبيراً في علاقاتها مع كثير من دول العالم. لكن كانت هذه السياسة تتجاهل طبيعة الدولة الصهيونية، وبالتالي تطرح مساراً مسدوداً منذ البداية.

فإذا كانت الفلسطنة تتجاهل طبيعة دور وأساس وجود الدولة الصهيونية، فإن "سياسة التسوية" كانت تنطلق من الأساس ذاته. لكن يبدو أن الوعي الذي حكم قيادات المقاومة تمثّل في قبول الخطاب الإمبريالي الذي ينطلق من أن الأمر يتعلق بتحقيق حل لمشكلة اليهود عبر توطينهم في فلسطين، أي تحقيق "حل إنساني" لليهود في فلسطين، اعتماداً على الأسطورة الصهيونية التي تعتبر فلسطين هي "أرض إسرائيل" استناداً إلى التوراة. لهذا طرحت "سياسة التسوية" في منظور أن الأمر بات يتعلق بالخلاف حول الحدود، وباسترجاع الأرض التي جرى احتلالها سنة 1967 في ضوء القرار 242.

هذا التحوّل كان يطوّع فصائل المقاومة كي "تستعدّ" لتصبح سلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة. الأمر الذي جعل "بناء المؤسسات"، و"ترتيب" الكادر الذي سيحكم في المراحل اللاحقة، وأيضاً الدخول في حالة انتظار طويلة على أمل الوصول إلى الحل، ممارسة فعلية.

كل ذلك كان ينهي فعل المقاومة في الخارج (من لبنان تحديداً) ويضعف الفعل في الداخل الفلسطيني، ويحوّل المقاومة إلى "النشاط السياسي"، والبحث عن علاقات تدعم الوجود السياسي، وصولاً إلى اتفاق أوسلو الذي عبّر عن قبول أسوأ الحلول من أجل السلطة، التي كانت "سلطة إدارة ذاتية"، دون أفق الوصول إلى دولة مستقلة رغم وهم موقّعيها في ذلك الوقت. الاتفاق الذي جلب "قوى تسلطية" ومشوهة من الخارج لكي تحكم شعباً كان قد بدأ انتفاضة امتدت لسنوات، ولكي تطوّعه للتكيف ضمن حدود اتفاق أوسلو الذي لا يوصل إلى دولة.

لقد أنتجت المقاومة الفلسطينية، التي كانت تُعتبر منذ بداية سبعينيات القرن العشرين مثالاً للثورة العالمية ضد القوى الإمبريالية، سلطةً هشّة اعتمدت على التدريب الأميركي لرجال شرطة وأجهزة أمنية تقوم عقيدتها على معاداة المقاومة والتعامل معها بوصفها إرهاباً. وتسيطر فقط على جزء ضئيل من "الضفة الغربية" (جنوب فلسطين) بعد أن أكل الاستيطان النسبة الكبرى من أراضيها.

لم نلمس هنا طبيعة الوعي الذي حكم التنظيمات الفلسطينية، ولا بنيتها الداخلية وسياساتها وتكوينها الداخلي، وكيف تحوّل التفرّغ إلى توظيف، بل ركزت على "الخط العام" الذي حكم المنظور الذي سارت على أساسه قيادة "حركة فتح"، وتبعها بخطوات متسارعة أو بطيئة مجمل التنظيمات الأخرى، والذي أوصل إلى تحويل "المناضل" و"المقاتل" من أجل تحرير فلسطين إلى موظف أو بيروقراطي، أو حتى، مع الأسف، إلى مرتزق، أو فاسد، أو غير ذلك من السمات التي باتت تحكم قطاعاً لا بأس به ممن انخرط في الثورة الفلسطينية، وأوصل القضية من قضية تحرير إلى سلطة عاجزة، تتواجد فقط على جزء ضئيل من فلسطين، بأجهزة درّبها أشد الداعمين لوجود الدولة الصهيونية: الإمبريالية الأميركية.

في هذه الوضعية نقول: انتهت المقاومة الفلسطينية التي انطلقت سنة 1965، لكن النضال الفلسطيني مستمر.


(كاتب فلسطيني/ عمّان)