بعد أربعة أشهر على التظاهرات الحاشدة المعارضة التي شهدتها كوبا في 11 يوليو/تموز الماضي، والتي خرجت "رفضاً للجوع" ولـ"إسقاط الديكتاتورية"، لا تزال الجزيرة أسيرة وضع غير مريح للنظام الكوبي، وغير مسبوق لجهة قياس قدرته على زعزعة "الاستقرار السياسي" للدولة الشيوعية في مرحلة ما بعد آل كاسترو. وفيما تتحضر كوبا اليوم الإثنين، لإعادة فتح حدودها أمام السياح في مرحلة ما بعد كورونا، في محاولة لتخفيف الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها، تختبر التظاهرات الجديدة التي دعت إليها المعارضة، قدرتها مجدداً على التحشيد، بعد تظاهرات يوليو، التي خلّفت قتيلاً ونحو 1200 معتقل لا يزال قرابة 600 منهم في السجون. واستبق النظام التظاهرة التي كانت مقررة في الأساس السبت المقبل، وجرى تقريبها، بحملة شيطنة للمعارضة، وربطها بالاستخبارات الأميركية، فيما استغلت المعارضة منصات التواصل الاجتماعي لـ"كسب القلوب" الكوبية التي تعيش بين جيلين، بين ثورة هرمة، وتطلعات متزايدة نحو التغيير. من جهتها، ترصد الولايات المتحدة، التي ساهمت سفارتها في كوبا بالحملة الإعلامية ضد النظام واعتقالاته خلال الأسابيع الماضية، تظاهرة اليوم، على اعتبار أنها ستكون مفصلية في رسم سياسة الرئيس جو بايدن المرتقبة تجاه الجزيرة، والتي لم يفرج عنها بعد. ويأتي ذلك فيما لا تزال رزمة سلف بايدن، دونالد ترامب، من العقوبات على كوبا، سارية، لعل أكثرها إيلاماً منع التحويلات إلى الجزيرة من الكوبيين المقيمين في الولايات المتحدة. وتبدو المرحلة الكوبية الحالية حسّاسة، إذ تترافق التحولات داخل كوبا، مع سعي واشنطن ليس إلى تغيير استراتيجيتها تجاه الجزيرة، بل تكتيكاتها، خصوصاً بعد الدور الكوبي في دعم نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، وتحسباً لأي دور روسي أكثر توسعاً في الجزيرة الكاريبية.
دعت لتظاهرة اليوم مجموعة النقاش السياسي "آرتشيبييلاغو"
وبعد أربعة أشهر على تظاهرتها التي تصفها وكالات الأنباء العالمية والإعلام الأميركي بـ"التاريخية"، دعت المعارضة الكوبية إلى تظاهرة اليوم للمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين. ودعت إلى التظاهرة مجموعة النقاش السياسي المعارضة "آرتشيبييلاغو" (تضم 30 ألف متابع على تويتر)، على أن تخرج المسيرة اليوم في العاصمة هافانا وسبع مناطق أخرى، متحدية حظر السلطات لها، والتحذير الموجه إلى المنظمين والمشاركين من مغبة التبعات الجزائية.
واتّهمت السلطات مؤسّس "آرتشيبييلاغو"، مُنظّم التظاهرة الكاتب المسرحي الشاب يونيور غارسيا أغيليرا (39 عاماً)، الذي قرّر السير وحيداً حاملاً وردة بيضاء أمس الأحد في إحدى جادات هافانا للتأكيد على سلمية التحرك، بالرغبة في خلق "مناخ من عدم الاستقرار" وبالتالي الدفع باتجاه حصول "انقلاب سَلِس" بعد تلقيه تدريبات في الخارج، خصوصاً لدى منظمات أميركية (في إسبانيا). وقال أغيليرا لوكالة "فرانس برس"، إن السلطات هدّدته إذا ما مضى في خططه، حتى إنهم قالوا له "في أي سجن سيسجن". من جهته، أكد الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل، الجمعة الماضي، أن أنصاره "مستعدون للدفاع عن الثورة" في مواجهة التظاهرة، مضيفاً في خطاب متلفز، أنه في مواجهة "استراتيجية الإمبراطورية (الولايات المتحدة) لمحاولة تدمير الثورة، نحن هادئون، واثقون من أنفسنا، ولكننا واعون ويقظون، ومستعدون أيضاً للدفاع عن الثورة لمواجهة كل أعمال التدخل" في بلدنا. وأضاف: "نحن ثورة منفتحة على الحوار والنقاش، ولكننا مجتمع منغلق على الضغط والابتزاز والتدخلات الأجنبية". وكان دياز كانيل قد حذّر أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من أن هناك "عدداً كافياً من الثوار في كوبا لمواجهة أي نوع من التظاهرات".
وتحمل التظاهرة المقررة اليوم اسم "المسيرة المدنية للتغيير"، على أن ترافقها تظاهرات داعمة لها في ولاية ميامي الأميركية وعدد من العواصم الغربية. وكانت تظاهرات يوليو قد أدت إلى مقتل متظاهر وإصابة العشرات، فضلاً عن اعتقال السلطات لـ1175، نصفهم لا يزالون في السجون، بحسب مجموعة "كوباليكس" لرصد الوضع الحقوقي في الجزيرة. وقامت السلطات، يوم الجمعة الماضي، باعتقال المعارض الكوبي والصحافي والناشط الحقوقي، غيلورمو فاريناس، بحسب ما أكدت عائلته. وفاريناس عضو في "الاتحاد الوطني لكوبا"، أشهر أحزاب المعارضة الكوبية، وحائز جائزة سخاروف الأوروبية لحرية الفكر في عام 2010، ونفذّ 23 إضراباً عن الطعام خلال السنوات الـ20 الماضية للاحتجاج على ممارسات السلطات الكوبية. وجاء الاعتقال على الرغم من تحذير مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، كليمان نيالتسوسي فول، الخميس الماضي، الحكومة الكوبية، من أي استخدام للعنف أو التعرض لتظاهرة الإثنين. كما أبدى المجمع الأسقفي في كوبا، قلقه من "تصاعد مناخ التوتر والمواجهة في البلاد". وكان المتحدث باسم البيت الأبيض نيد برايس، قد دعا الإثنين الماضي، الحكومة الكوبية، إلى أن "تسمع صوت شعبها فيما يحتج سلمياً". ومنذ أسابيع، تقوم السفارة الأميركية في هافانا بحملة على مواقع التواصل الاجتماعي، للتنديد بالاعتقالات والأحكام الصادرة بحق متظاهرين في كوبا، أو تلك التي طلبها الادعاء بعد تظاهرة يوليو.
اعتقلت السلطات المعارض غيلورمو فاريناس الجمعة الماضي
لكن وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز، اتهم الحكومة الأميركية، الأربعاء الماضي، بالسعي لـ"زعزعة استقرار" الجزيرة، مضيفاً أمام السلك الدبلوماسي المعتمد لدى كوبا، أن بلاده "لن تسمح بأي شكل للعدوان المستمر من جانب حكومة الولايات المتحدة ومحاولاتها المتواصلة لخلق ظروف زعزعة الاستقرار الداخلي وتعكير هدوء وأمن المواطنين بإفساد احتفالنا" اليوم الإثنين، والمقرر فيه أن تُفتح البلاد مجدداً بصورة رسمية أمام السياحة الدولية، والاحتفال بذلك في شوارع هافانا، حيث تصادف أيضاً الذكرى الـ502 على تأسيسها. وأشار الوزير إلى أنه "منذ 22 سبتمبر/أيلول الماضي، حصل 29 إعلاناً من حكومة الولايات المتحدة أو من شخصيات مؤثرة من الكونغرس، بوتيرة إعلان واحد يومياً تقريباً، يهدف إلى تشجيع وتوجيه والتحريض على أعمال تزعزع استقرار بلدنا". وتشمل الإعلانات، بحسب رودريغيز، "مطالب" موجهة للحكومة الكوبية، منها السماح بتنظيم التظاهرة، غير أن هذه أشياء "لم تسمح بها كوبا أبداً، ولن تسمح بها إطلاقاً". وقال وزير الخارجية الكوبي إنه "إذا كان لدى الحكومة الأميركية أدنى قلق على المستوى الإنساني، فعليها أن تبدأ برفع إجراءات الحظر" التي تم تعزيزها منذ عهد ترامب، مذّكراً بأنه مع "أكثر من 60 عقوبة فُرضت خلال جائحة كورونا، تُريد واشنطن أن تجعل شعبنا يعاني" وبالتالي إحداث "انفجار اجتماعي". وقال إن التظاهرة المقررة اليوم هي "اعتداء منظم من الخارج من خلال توظيف عملاء مدربين وممولين"، منتقداً "سياسة الحض على الكراهية والعنف"، وداعياً إلى "تضامن المجتمع الدولي".
وتتجه أنظار واشنطن إلى تظاهرة اليوم، وتعتبرها المقياس الذي ستحدد من خلاله استراتيجيتها المرتقبة حيال الجزيرة. وكانت إدارة بايدن قد وصفت تحركات المعارضة الكوبية بأنها نقطة تحول مفصلية في كوبا. ويوم الأحد الماضي، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، لشبكة "سي أن أن"، إن "الظروف تغيّرت في كوبا"، وإن بايدن قد أجلّ الإعلان عن سياسته تجاه الجزيرة لأنه يدرس "أفضل السبل للمضي قدماً"، كما أكد سوليفان وغيره من المسؤولين الأميركيين، أن رد السلطات على تظاهرة اليوم سيؤدي دوراً أساسياً في تحديد هذه السياسة. ورفض سوليفان ربط تأخر الإعلان عن السياسة الأميركية تجاه كوبا، بالسياسة الداخلية الأميركية، حيث يسعى الديمقراطيون إلى استمالة الجالية الكوبية في ولايات الجنوب الأميركي، والمعارضة بكوبا للنظام الشيوعي الكوبي. لكن مسؤولين أميركيين، نقلت عنهم صحيفة "واشنطن بوست"، تأكيدهم أن الإدارة التي تعاني لتمرير أجندة داخلية طموحة في الكونغرس، لا تملك رفاهية تأجيج غضب المحافظين، المطالبين بإبقاء وتشديد العقوبات على كوبا. وقال مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية إن "الوضع في كوبا معقد"، لافتاً إلى أن "السياسة تجاه كوبا التي طلب منا الرئيس مراجعتها، تقوم على إيجاد طريق ثالث (بين العقوبات المشددة والانفتاح الذي كان أبداه باراك أوباما تجاه الجزيرة)".
(العربي الجديد)