رغم كل الضغوط المحلية والدولية، تتمسك حركة "طالبان" الحاكمة في أفغانستان بموقفها الرافض تعلّم المرأة وعملها، لكن هذا القرار لا يبدو أنه يحظى بإجماع داخل الحركة، وهو ما جرى التعبير عنه في تصريحات عدة صدرت من مسؤولين في "طالبان". ويتيح هذا الأمر الحديث عن وجود تيارين داخل الحركة، متباينين في نظرتهما إلى هذه القضية: الأول، والذي بات يعرف بـ"التيار المتشدد"، يرفض منح المرأة الأفغانية حقوقها، وذلك مقابل قياديين آخرين في "طالبان" يرون أن تعليم المرأة وعملها، كما هو حاجة ضرورية لمستقبل البلاد، فهو أيضاً خطوة مهمة لتطبيع العلاقات مع العالم. ويرى التيار الثاني، كذلك، أنه من الحكمة أن ترفع الحركة بعض تلك القيود بحق النساء، كي تستمر في الحكم ويقف الشعب وراءها.
تياران داخل الحركة
وقال وزير التعليم العالي في حكومة "طالبان" الشيخ ندا محمد نديم، المعروف بالتشدد، والمقرب من زعيم "طالبان" الملا هيبة الله أخوند زاده، في كلمة له أمام اجتماع للقياديين في الحركة عُقد في كابول في 3 يناير/كانون الثاني الحالي، إن "الطريق الذي سلكته الحكومات السابقة (العميلة التي كانت تساندها دول كافرة، على حدّ تعبيره) لجهة مسألة النساء، كان طريقاً منحرفاً وفضيحة، حيث كانت المرأة تذهب إلى العمل والسوق والحدائق والأماكن الرياضية، ولا يمكن للحكومة الإسلامية أن تسمح بمواصلة ذلك".
يرى التيار المعتدل أن تعليم المرأة خطوة للتطبيع مع الغرب
وخاطب الرجل عناصر "طالبان" وقياداتها بقوله: "أيها المجاهدون، إننا بين خيارين: أن نقبل ما يريده العالم ونرضخ له، وأن نرضي ربّنا، أرى على منصات التواصل الاجتماعي بعض المجاهدين يقولون إن من الحكمة أن نتعامل بشيء من المرونة مع النساء، أقول تلك الحكمة ضلالة، هل تقبلون بها، أم تعملون لرضا ربكم؟". وأضاف: "نحن لم نصل إلى الحكومة عملاً بما تسمونه بالحكمة، بل وصلنا عملاً بدين ربّنا وتضحيات شبابنا، من هنا لن نخضع لما يقوله العالم".
هذه التصريحات تبيّن بوضوح ما يريده التيار المتشدد داخل الحركة، على رأسهم زعيم الحركة الملا هيبة الله أخوند زاده، ورئيس الوزراء الملا حسن أخوند ووزير الحج والأوقاف المولوي نور محمد ثاقب، ورئيس المحكمة العليا مولوي عبد الحكيم، ووزير التعليم العالي الشيخ ندا.
في مقابل ذلك، طمأن وزير المعادن في حكومة "طالبان" المولوي شهاب الدين دلاور، وهو عضو سابق في المكتب السياسي للحركة، خلال مؤتمر صحافي عقده في كابول في الرابع من الشهر الحالي، "الشعب الأفغاني بأن الإسلام دين علم ومعرفة، وأن حكومة طالبان تعي جيداً مدى أهمية التعليم لمستقبل الشعب والبلاد، وأنه قريباً سنعلن خطة لتعليم البنات وعملهن، تكون وفق الشريعة الإسلامية". وشدّد على أنه "من هنا، لا داعي للقلق"، موضحاً أن قرار منع الفتيات من ارتياد الجامعات "يأتي مع بداية فترة الإجازة الشتوية في البلاد، ومع بدء السنة الدراسية الجديدة، سنرى خطة جديدة ترضي الجميع".
بدوره، قال نائب رئيس الوزراء ورئيس المكتب السياسي السابق الملا عبد الغني برادر، في كلمة له أمام اجتماع في كابول الأسبوع الماضي: "إننا بحاجة أن نمنح النساء كل حقوقهن"، من دون تفصيل أكثر. ويُعد الملا برادر رائد التيار المتساهل والوسطي في "طالبان"، والذي يضمّ أيضاً وزير الدفاع الملا يعقوب، وهو نجل الملا عمر (المؤسس الراحل لحركة "طالبان")، ووزير الداخلية وزعيم شبكة حقاني الملا سراج الدين حقاني.
وذهب الأخيران إلى قندهار، بعد إعلان منع البنات من الذهاب إلى الجامعات، في 21 من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، للحديث مع زعيم الحركة، لكنهما لم يتمكنا من إقناع الملا هيبة الله، كما قال مصدر مقرب من الملا يعقوب لـ"العربي الجديد"، شريطة عدم الإفصاح عن اسمه. كذلك يضمّ التيار نفسه معظم أعضاء المكتب السياسي للحركة في الدوحة: شير محمد عباسي ستانكزاي، الملا عبد السلام حنفي، وغيرهما.
لكن المشكلة الأساسية، إلى جانب التيار المتشدد، هي المسلحون والقادة الميدانيون في "طالبان"، الذين يرون أن استمرار دراسة البنات وعمل النساء مخالف للشريعة الإسلامية، وليس إلا مواصلةً لما كانت تقوم به الحكومات السابقة التي كانوا يقاتلونها.
في ظلّ هذه الأجواء، فشلت كل جهود ثني الحركة عن قرارها، بل إن "طالبان" لا تريد حتى الحديث حول الموضوع ولا تريد التنازل، وهو ما يردّده قياديون فيها علانية. فقد جاء في بيان لوزارة التعليم العالي، في السابع من الشهر الحالي، أن الوزير ندا محمد نديم أكد بكل صراحة، خلال لقائه نائب رئيس البعثة الأممية في أفغانستان ماركس بوتزل، أن حكومة "طالبان" لن تقبل أي ضغوط من أي جهة كانت، وأنها لن تتنازل عن قراراتها، وأن قرار منع البنات من التعليم جاء لأسباب خارجية، من دون تفسير ما يعني بالأسباب الخارجية.
في المقابل، قال المسؤول الأممي، كما ذكرت البعثة الأممية لأفغانستان (يوناما) في بيان، إن منظمة الأمم المتحدة "تدعو طالبان إلى فتح المدارس والجامعات أمام البنات ورفع جميع القيود عن النساء"، محذرة من أن قرار المنع "ستكون له تبعات كبيرة، والمواطن العادي قد يدفع الثمن".
في هذه الأثناء، رفض زعيم حركة "طالبان" أخيراً الاجتماع بوفد من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وقال الأمين العام للاتحاد علي القره داغي، الأسبوع الماضي، إن الوفد كان يعتزم زيارة قندهار للقاء أخوند زاده للتشاور حول جملة من القضايا المهمة، وكان يأمل فتح الأبواب الإسلامية والعالمية أو بعضها أمام "طالبان"، بالإضافة إلى الاهتمام بإغاثة الشعب الأفغاني، والسعي إلى توفير الأموال اللازمة للتعليم.
وأشار القره داغي إلى أن العالم كلّه ينظر إلى هذه التجربة الإسلامية الجديدة في أفغانستان، حيث تعلق عليها آمال المسلمين في تحقيق حكم قوي عادل حضاري شوري، قائم على الرحمة وكرامة الإنسان وحقوقه، ذكراً كان أم أنثى. ولفت إلى أنه "إذا فشلت هذه التجربة في إعطاء الصورة الحقيقية عن الإسلام بجلاله وجماله، وعدله ورحمته، ونظام حكمه العادل، فإن أعداء الإسلام سيثيرون الشبهات حول صلاحية الإسلام لهذا العصر، ولا سيما بعد ممارسات تنظيم القاعدة والدواعش التي شوهت صورة الإسلام". وقال أيضاً إن "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يقبل اعتذار طالبان بصدر رحب"، وإن "أبواب الاتحاد مفتوحة على مصراعيها لجميع المسلمين".
ومن جملة المحاولات أيضاً، اجتماعات عقدتها الزعامات القبلية في البلاد، آخرها في ولاية هلمند (جنوبي أفغانستان) في السادس من الشهر الحالي، طلبت فيها من "طالبان" فتح أبواب المدارس والجامعات للإناث، ولكن بدا أن كل هذه الدعوات لا قيمة لها عند الحركة.
ورأى قيادي في الحركة، فضّل عدم الكشف عن اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المشكلة الأساسية تكمن في ما تراه بعض قيادات الحركة، وعلى رأسهم الزعيم الملا هيبة الله أخوند زاده ورئيس الوزراء الملا حسن أخوند وقياديون آخرون. وأشار إلى أنه "بعد سيطرة طالبان على كابول (أغسطس/آب 2021)، لم يكن التيار المتشدد داخل الحركة يرضى بفتح جامعات البنات، لكن وزير التعليم العالي السابق الملا عبد الباقي حقاني كان مصراً على فتح الجامعات، حتى رئيس الوزراء الملا حسن نفسه قال له خلال اجتماع وزاري إن أي وزر لهذا القرار سيكون على عاتقك، وهو قبل ذلك".
تخشى الحركة أن يتجه المسلحون المتشددون إلى "داعش"
وأوضح المصدر أن قرار إقالة الملا عبد الباقي حقاني من منصبه، في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتعيين ندا محمد نديم مكانه، جاء بسبب إصرار الأول على إبقاء أبواب الجامعات مفتوحة أمام الفتيات والنساء، وهو أمر بالنسبة إليه لا يعارض الدين. وذكر القيادي نفسه أنه قبل إقالته، ظلّ الملا عبد الباقي حقاني ينتظر في قندهار أكثر من أسبوعين للقاء زعيم الحركة، لكن الأخير لم يستقبله، ليُقال من المنصب، ويُعيّن رئيساً لإدارة الامتحانات.
وشدّد القيادي على أن المشكلة الأولى تكمن "في هذا التيار المتشدد الذي يستند إلى أحاديث غير صحيحة وإلى أقوال علماء شاذة من أجل منع البنات والنساء من العمل والتعليم"، بحسب تعبيره. أما المشكلة الثانية، برأيه، فهي التيار المتشدد الموجود في صفوف المسلحين والقادة الميدانيين، وهناك خشية أيضاً من انضمامهم إلى تنظيم "داعش" أو "القاعدة"، لأنهم يؤمنون بأن خروج المرأة أصلاً من المنزل غير صحيح، ومخالف للدين.
تبعات لا تقتصر على "طالبان"
لا شك في أن لقرار "طالبان" منع الفتيات والنساء من العمل والتعلّم آثاراً سلبية كبيرة، بالإضافة إلى كونه سيدفع حكومة "طالبان"، التي لم تعترف بها أي دولة حتى الآن، إلى مزيد من العزلة والتهميش. لكن الحركة تبدو غير مهتمة بكل الأضرار بحجة التمسك بالدين. ومن أهم تلك الأضرار اقتصادياً، بحسب ما أوردت وسائل إعلام أفغانية عدة استناداً إلى مصادر في المصرف المركزي في كابول، توقف دخول نحو 40 مليون دولار كانت تتدفق أسبوعياً من حسابات الأمم المتحدة وتخصص للأعمال الإنسانية.
وبحسب التسريبات، فإن توقف دخول هذا المبلغ حصل منذ أن أعلنت "طالبان" عن قرارها منع البنات من ارتياد الجامعات ومنع النساء من العمل في المؤسسات غير الحكومية. لكن المصرف المركزي نفى، في بيان، صحة هذا الخبر، مشيداً "بكل الخطوات التي تؤدي إلى مساعدة الشعب الأفغاني، وبجميع الأعمال الإنسانية". وأوقف الكثير من المؤسسات الدولية أنشطتها في أفغانستان، وعلّقت أعمال الرجال في تلك المؤسسات بعدما منعت "طالبان" عمل النساء فيها، ما جعل آلاف الأشخاص يفقدون عملهم.
وقبل أيام قال منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة المقيم في أفغانستان، رامز الأكبروف، لـ"العربي الجديد" من نيويورك، إن الأمم المتحدة مستمرة في التزامها بتقديم المساعدات الإنسانية لجميع الأفغان من دون استثناء على الرغم من التحديات الكبيرة التي يفرضها منع حركة طالبان، النساء العاملات في المجال الإنساني مع المنظمات غير الحكومية من ممارسة عملهن. وشدد المسؤول الأممي على أن التبعات السلبية لذلك المنع بدأت تظهر على الأرض وتعيق قدرة الأمم المتحدة والمنظمات العاملة معها على تقديم المساعدات في بلد يعد من الأفقر في العالم.
وفي تعليق له على هذه القضية، اعتبر الأكاديمي والناشط الاجتماعي نصير أحمد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "حركة طالبان تعرف جيداً أضرار هذه القرارات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن مع الأسف، فإنها تصر على موقفها بحجة أن الأمر يخالف الشريعة، وهو ليس كذلك". وأعرب عن أمله أن يجرى احتواء القضية في القريب العاجل، وإلا "فإن مستقبل أفغانستان يتجه نحو الانهيار، ولا شيء غير الانهيار"، مذكّراً بأن "تبعات قرارات طالبان لا تقتصر على حكومتها، بل على كل الشعب الأفغاني".
من جهته، رأى المحلل السياسي الأفغاني أحمد سعيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قرار منع الفتيات من الدراسة الجامعية، الصادر عن "طالبان"، وقبله قرار منعهن من ارتياد المدارس، هو جزء من سياسة الحركة، وبقدر ما يمكن أن يكون المجتمع بعيداً عن التعليم، يمكن له أن يتقبل هذه السياسة، لأن المرأة إذا ما تعلمت وتثقفت، فحينها يمكن لها أن تطالب بحقوقها، وهو ما لا تريده "طالبان"، من وجهة نظره.
وأكد سعيدي وجود تيار داخل الحركة يرغب في فتح المدارس والجامعات أمام الفتيات والنساء، لكن القرارات المصيرية ليست في يده، على حدّ تعبيره، إنما صنّاع القرار في الحركة هم زعيم الحركة، ووزير التعليم العالي، ووزير الحج والأوقاف الملا نور محمد ثاقب، ووزير التربية والتعليم (حبيب الله آغا)، ووزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (محمد خالد حنفي). واعتبر سعيدي أن طالبان، بقراراتها هذه، تشوه سمعة الإسلام، وتظهر الإسلام وكأنه زمن الجاهلية.