يعوّل قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، في قمتهم اليوم الاثنين، على استعادة الأعضاء الثلاثين لبريق تحالفهم، الذي عكّره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ويسعى الرئيس الديمقراطي جو بايدن وقادة الدول الأعضاء في الحلف للتخلص من فترة التعكير التي سادت ولاية ترامب، وعكستها برودة قمة ضاحية واتفورد في لندن قبل عام ونصف العام.
وألقت السياسات التي انتهجها البيت الأبيض بين 2017 و2020 بظلال شكوك أوروبية، وخصوصاً بين الدول التي شعرت بشبه تخلٍّ أميركي عن المادة الخامسة من النظام الداخلي للحلف، والتي تختصر بجملة "الاعتداء على عضو (في ناتو) هو اعتداء على الكل".
وتبدي أوروبا تفاؤلاً مع شعار جو بايدن عن العودة الأميركية إلى الساحة الدولية، على عكس سلفه الذي ظل يكرّر تحميل الأوروبيين مسؤولية عدم الإنفاق الكافي على جيوشهم.
ودفعت حالة الحلف، مع تحركات نشطة روسية في فترة ترامب وبروز ما يشبه التشقق في ثقة الجانبين الأطلسيين منذ 2018، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التصريح بضرورة اعتماد القارة على نفسها للدفاع عن ذاتها، فيما وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حدّ وصف "الناتو" بأنه "ميت دماغياً"، قبل أن يدخل في وصلة تبادل تصريحات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي شعر بأن ماكرون يريد للحلف أن يقف ضد أنقرة خلال توتر العلاقة بين البلدين.
دول صغيرة عديدة، بما فيها دول اسكندينافية ودول البلطيق، شعرت بغياب الحليف الأميركي، وسادت خشية من تزايد تحركات موسكو العسكرية، حتى زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مايو/أيار الماضي، كوبنهاغن وأيسلندا وجزيرة غرينلاند، معيداً تأكيد أهمية التحالف، وخصوصاً إبداء رغبة قوية بنشاط أطلسي شمالي في المنطقة القطبية الشمالية.
ويبني الأوروبيون على اجتماع قمة "ناتو" اليوم آمالاً في تغير الخطاب السياسي الأميركي. فالرئيس الأميركي جو بايدن أعطى انطباعاً للأوروبيين بأنّ بلده يعوّل على الشراكة معهم باعتبارها "حجر زاوية لكل ما نأمل تحقيقه في القرن الحادي والعشرين، مثل ما فعلنا في القرن العشرين"، هذا إلى جانب عودة التأكيد على المادة الخامسة بين الأعضاء.
ورغم ما يظهر من خلافات بين أنقرة وحلفائها في "ناتو"، لا يبدو أن الحلف يسير إلى مزيد من التأزيم معها، وخصوصاً في سياق اهتمامه باحتواء مزدوج لما يراه "تهديداً صينياً وروسياً متزايداً".
وإلى جانب التحدي الروسي والصيني، فإن قادة الحلف سيناقشون عدداً من الموضوعات، ومن بينها التداعيات الأمنية لتغير المناخ وكيفية حماية نفسه من هجمات فضائية.
ويتوقع مدير مركز الدراسات العسكرية في جامعة كوبنهاغن هنريك أوبريتينباوخ، بحسب التلفزيون الدنماركي "دي آر"، أن تشكل قمة اليوم "تخلصاً من إرث وصدمة ترامب، فالعلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أمراً حاسماً لأمن أوروبا، ومثل ما أثرت تصريحات ترامب على تلك العلاقة، فقد كان صادما تصريح ماكرون عن الموت الدماغي للحلف".
ورغم نظرة التفاؤل لدى بعض المحللين الأوروبيين، فإن حذراً أوروبياً تشكّل خلال السنوات الماضية، بحسب قراءة الباحثة في المعهد الدنماركي للدراسات الدولية (دييس) كريستن نيسن، التي ترى أن "إرث ترامب (في علاقة الجانبين) لن يختفي".
وترى هذه الباحثة أن "الحلف عاش أزمة وجودية في عهد ترامب، وهو ما لم يشهده سابقاً (منذ تأسس في 1949، وبشكل أساسي لمواجهة الحلف السوفييتي في شرق أوروبا)، وهو ما خلق حالة شكوك في أسس وجود "ناتو"، وتضاؤل الإيمان بأن الضمانات الأمنية التي اعتبرتها أوروبا مسلّما بها لم تعد كذلك، ومن الواضح أنها ضعفت".
ورأت نيسن أنه رغم اتفاق الجانبين على جعل الأمور أكثر سلاسة، "ورغم تأكيدي أنها ستكون قمة إيجابية، إلا أن الخوف لا يزال ذهنياً، وعليه، برز توجه أوروبي أكثر نحو التركيز على تطوير الدفاع الذاتي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، ولا أعتقد أن الجميع سيضعون بيضهم في سلة حلف شمال الأطلسي، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بتأمين أوروبا".
المراقبون والمحللون الأوروبيون، ورغم نظرة التفاؤل في عودة حليفي ضفة الأطلسي، على الأقل سياسياً، للانسجام أكثر، إلا أنهم يرون أن الانشغال الأميركي الأكثر، حتى مع بايدن، على التحدي الصيني لواشنطن وتركيزها على شرق آسيا، يجعل الأوروبيين أكثر قلقاً مما يحضّره الأميركيون. فالصين بالنسبة لجو بايدن محور اهتمام لجذب الأوروبيين، وهو يكرّر أنها تشكل تحدياً مشتركاً لبلاده وبقية العالم الغربي، من دون إغفال المخاوف من تحركات موسكو في مناطق مختلفة في القارة.
وتعتقد الباحثة نيسن أن "واشنطن وبروكسل (الاتحاد الأوروبي ومن خارجه من الحلفاء في الناتو) باتتا تقتربان بعضهما من بعض أكثر وبالتدريج في ما خصّ خروج أوروبا من حياديتها تجاه بكين".
وفي كل الأحول، لبكين أيضاً أذرعها الاقتصادية والاستثمارية التي بنتها في أوروبا في سنوات حكم ترامب، ولديها تحالفات ليس من السهل تفكيكها، وخصوصاً مع دول كالمجر وساسة معسكر يمين شرق ووسط القارة.
ورغم ذلك، يراهن الحليفان على إمكانية تخطي العقبات التي تقف في طريق استعادة ثقة أضرت بها سياسات واشنطن السابقة، وإن كانت القمة اليوم، وبسبب كورونا، ستكون أقصر في وقتها من القمم السابقة. على الأقل، يمكن أن يخرج الجانبان بمواقف متقاربة بشأن التهديدات الروسية في البلطيق والقطب الشمالي، مع ملاحظة تزايد أنشطة الكرملين العسكرية، وآخرها خرق الأجواء الدنماركية مرتين يوم السبت الماضي، واضطرار الدنماركيين إلى إرسال طائراتهم لمطاردة الطائرات الروسية خارج الأجواء، ما يعيد حالة توتر متواصلة في المنطقة منذ 2015.
وفي غضون ذلك، طالب الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، اليوم الاثنين، دول التحالف الثلاثين بتنحية الخلافات والانقسامات التي اندلعت في عهد الرئيس الأميركي السابق، والتركيز على التحديات الأمنية التي تفرضها روسيا والصين.
وقال ستولتنبرغ، في مؤتمر صحافي قبيل ترؤسه أول قمة لـ"ناتو" يحضرها بايدن، إن القادة يريدون أيضاً إعادة التأكيد على "نهج المسار المزدوج" للحلف تجاه روسيا، والذي يتضمن الردع العسكري، مثل نشر قوات التحالف في دول البلطيق وبولندا.
وقلل ستولتنبرغ من مستوى التوترات مع الصين، لكنه قال إن حلف شمال الأطلسي يجب أن يتخذ نهجاً أكثر حزماً تجاه بكين. وأضاف: "لا ندخل حرباً باردة جديدة، والصين ليست عدواً لنا، لكننا بحاجة إلى أن نتصدى معاً، كتحالف، للتحديات التي يشكلها صعود الصين على أمننا".
وعلى صعيد آخر، أعلن ستولتنبرغ أن الحلف "سيستمر بتقديم الدعم للقوات الأفغانية حتى بعد الانسحاب من أفغانستان".