قراءة في نتائج الانتخابات الفرنسية المفاجئة: خيارات الحكم الصعبة

08 يوليو 2024
فرنسيون داعمون لليسار يحتفلون في باريس، 7 يوليو 2024 (أولمبيا دي ميسمون/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **نتائج الانتخابات الفرنسية**: تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" تصدر النتائج بـ182 مقعداً، تلاه تحالف الوسط الماكروني بـ163 مقعداً، واليمين المتطرف بـ143 مقعداً، واليمين الجمهوري بـ68 مقعداً، مما خلق وضعاً برلمانياً معقداً.

- **تحديات تشكيل الحكومة**: يواجه ماكرون صعوبة في تشكيل حكومة جديدة بسبب رفض التحالفات بين الكتل المختلفة، مما يزيد من احتمالية تشكيل حكومة أقلية ضعيفة سياسياً.

- **مستقبل فرنسا السياسي**: 18 يوليو/تموز سيكون موعداً حاسماً لتحديد مستقبل فرنسا السياسي وانتخاب رئيس الجمعية الوطنية، مما سيكشف عن تماسك الجبهة اليسارية وقدرة ماكرون على استمالة جزء من اليسار للتحالف.

انقلبت الصورة تماماً في فرنسا ليلة الأحد: من تخوف وتوتر وقلق إزاء الفوز الذي كان مرجحاً لليمين المتطرف، ممثلاً بـ"التجمع الوطني" وحلفائه في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة، إلى ترقب وتساؤل عن كيفية حكم هذا البلد بموجب ما أظهرته النتائج المفاجئة التي حلّ تحالف اليسار فيها أولاً بغالبية ضعيفة (182 من أصل 577 مقعداً)، والوسط الماكروني (التابع للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) ثانياً (163)، واليمين المتطرف ثالثاً (143) واليمين الجمهوري رابعاً (68). هكذا وجدت فرنسا نفسها أمام أربع كتل برلمانية كبيرة لا تمتلك أي منها غالبية تسمح لها بالحكم إلى جوار رئيس الجمهورية، صاحب الصلاحيات الكبيرة التي يمنحه إياها دستور الجمهورية الخامسة (1958)، والذي جعل فرنسا منذ ذلك التاريخ محكومة بنظام شبه رئاسي. انطلاقاً من ذلك، أمكن فهم الكلام الكثير الذي صار يتردد عن "نهاية الجمهورية الخامسة" والعودة إلى الجمهوريتين الرابعة والثالثة، لناحية إضعاف رئيس الجمهورية وعودة الصلاحيات الواسعة إلى الجمعية الوطنية، الغرفة الأهم للبرلمان.

نتائج انتخابات فرنسا تقلب المعطيات

أسفرت نتائج هذه الانتخابات عن مفاجأة قلبت المعطيات رأساً على عقب، تمثّلت بحلول "الجبهة الشعبية الجديدة"، أي تحالف القوى اليسارية، في طليعة القوى السياسية الفرنسية، وتراجع حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف إلى المرتبة الثالثة، بعدما وجد نفسه عقب الدورة الانتخابية الأولى التي جرت في 30 يونيو/حزيران الماضي، قاب قوسين من الفوز بغالبية برلمانية تخوله تأليف الحكومة الفرنسية للمرة الأولى منذ حكومة فيشي (1940 – 1944).

حصل مرشحو اليمين المتطرف على العدد الأكبر من الأصوات في الدورة الثانية مع أكثر من 10 ملايين

وبدا واضحاً أن القوى اليسارية نجحت في غضون فترة زمنية قياسية لا تتعدى الأسبوع الذي فصل بين الدورتين الانتخابيتين، من تعبئة ناخبيها وحثّهم على التوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع، بما أتاح لها انتزاع العدد الأكبر من المقاعد البرلمانية بعد تسجيل نسبة تصويت غير مسبوقة منذ عام 1981 تجاوزت الـ67%. جاء ذلك بعد انسحاب مرشحين حلّوا ثالثاً في الدورة الأولى، لصالح آخرين، لصدّ تقدم اليمين المتطرف. وقطعت هذه القوى الطريق أمام اليمين المتطرف، مبدّدة بذلك المخاوف من هيمنته على الحكومة بعدما حصل في الدورة الأولى من الانتخابات على النسبة الأعلى من الأصوات.

حتى أن مرشحي اليمين المتطرف حصلوا على العدد الأكبر من الأصوات في الدورة الثانية مع أكثر من 10 ملايين، من دون أن يُترجم ذلك فوزاً بعدد متناسب من المقاعد نتيجة النظام الانتخابي الفرنسي الأكثري القائم على جولتين في دوائر فردية. لكن الجبهة اليسارية لم تتمكن من الفوز بغالبية مطلقة في البرلمان، مثلها مثل التجمع الوطني ولائحة "معاً" الموالية للرئيس إيمانويل ماكرون، وهي التي أبدت قدراً واضحاً من الثبات بعدما كان مرجحاً أن تتقهقر.

Image
انتخابات فرنسا.. "الجبهة الشعبية الجديدة " تتغلب على اليمين المتطرف

"فرنسا غير قابلة للحكم"

السؤال الكبير المطروح الآن في فرنسا هو من سيتولى رئاسة الحكومة المقبلة وكيف سيكون ممكناً تأليفها ونيلها ثقة البرلمان في ظل توتر على كلّ الجبهات: الجبهة اليسارية ترفض التحالف مع الماكرونيين وبطبيعة الحال مع اليمين الجمهوري ومع اليمين المتطرف. كذلك حال معظم رموز تيار ماكرون، الذين يرفضون التحالف مع أكبر أحزاب تحالف اليسار، "فرنسا الأبية" (أو فرنسا غير الخاضعة بقيادة جان لوك ميلانشون). في المقابل، يرفض الجمهوريون (68 مقعداً) التحالف مع الماكرونيين ومع اليمين المتطرف. هكذا، تحقق سيناريو كثر الحديث عنه وهو "فرنسا غير قابلة للحكم" أو بالأحرى يصعب حكمها، إلا بحكومة أقلية ضعيفة سياسياً أمام برلمان لا يوفر لها غالبية مريحة لتمرير مشاريعها وقوانينها وسياساتها.

فور صدور النتائج، بادر جان لوك ميلانشون إلى الإجابة عن هذا السؤال كما لو أن الأمر متروك له بمفرده، وصرّح بأن هذه النتائج "هزيمة لماكرون ولكتلته"، معتبراً أن على الرئيس الفرنسي "الانحناء والإقرار بهزيمته من دون السعي إلى التلاعب بها". كما جزم، هو وبقية رموز التحالف اليساري، بأن على ماكرون تسمية شخص من "الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة" رئيساً للحكومة بدل غابريال أتال الذي قدّم استقالته للرئيس صباح أمس الاثنين، فرفضها الأخير، علماً أن أتال أبدى علامات كثيرة على نيته الانفصال عن خطّ الرئيس وربما شق طريقه السياسي بمعزل عن ماكرون وحزبه "النهضة" وتحالف "معاً من أجل الجمهورية". وقال مكتب ماكرون في بيان إن الرئيس "طلب من غابريال أتال البقاء في منصبه في الوقت الراهن من أجل ضمان استقرار البلاد".

ميلانشون، في خطاب النصر الذي ألقاه فور صدور النتائج مساء الأحد من باريس، أعرب عن رفضه إبرام أي تحالفات، وأصرّ على تطبيق برنامج الجبهة بحذافيره وبدون أي تعديل، مستنداً في ذلك على حلول حزبه في طليعة القوى التي تشكل الجبهة بحصوله على ما يتراوح بين 68 و74 مقعداً (من أصل 182)، يليه الحزب الاشتراكي (65) والبيئيون (33) والحزب الشيوعي (9). لكن ميلانشون أغفل عناصر عدة بالغة الأهمية، في طليعتها أن الجبهة بحاجة إلى حوالي 100 مقعد نيابي إضافي لتشكيل حكومة غالبية مطلقة، ويتوجب عليها بالتالي الدخول في مفاوضات للحصول عليها، مع ما يعنيه ذلك من تنازلات وتسويات على صعيد برنامج هذه الجبهة. في المقابل، ورغم أن زعيم الحزب الاشتراكي أوليفيه فور شدّد أيضاً على ضرورة تنفيذ كل برنامج اليسار، إلا أنه أبدى انفتاحه على إمكانية التفاوض، ودعا إلى "إعادة تأسيس كاملة حول المحاور الرئيسية" التي تعلق غالبية الفرنسيين أهمية عليها، بحيث "يكون هناك ما قبل انتخابات السابع من يوليو/تموز وما بعدها". كما أكد أن على الجبهة إعادة صياغة برنامج مثمر يعيد توحيد الفرنسيين، ما يعكس إدراكه لصعوبة الموقف، وهو ما قد يطرح مبكراً سؤال قدرة "الجبهة الشعبية الجديدة" على التماسك وتجنب الانقسام مثل ما حصل مع التحالف اليساري السابق (Nupes).

لولا التقارب النسبي في عدد مقاعد الكتل المختلفة، لكان من المتوجب على ماكرون تعيين أحد قادة "الجبهة الشعبية اليسارية" فوراً في رئاسة الحكومة

من جهتها، اكتفت زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبان، مساء الأحد، بتصريح قالت فيه إن "فوز حزب التجمع الوطني مؤجل فقط"، فيما أكد رئيس الحزب جوردان بارديلا أن "التجمع الوطني" ماض في تعزيز مواقعه وتمكن عبر هذه الانتخابات من مضاعفة عدد مقاعده النيابية، وأثبت مجدداً أنه "البديل الوحيد لمجمل الطبقة السياسية". واعتبر بارديلا أن الطبقة السياسية خطفت من حزبه فوزه الذي كان متوقعاً، بتفعيلها للجبهة الجمهورية التي تقضي بتجيير الأصوات لصالح أحد المرشحين الجمهوريين لمنع فوز مرشح اليمين المتطرف، وهو ما حصل عملياً في حوالي 210 دوائر انتخابية وساهم في تحسين مواقع كل من الجبهة اليسارية وتيار الوسط الماكروني.

ولولا التقارب النسبي في عدد مقاعد الكتل المختلفة، لكان من المتوجب على ماكرون تعيين أحد قادة "الجبهة الشعبية اليسارية" في رئاسة الحكومة فوراً، وذلك بموجب تقليد متّبع وفي غياب أي قاعدة دستورية ملزمة، لكن ما حصل يتيح له التريّث قبل تحديد خياره، خصوصاً أن النتائج الانتخابية أظهرت وجود خاسر أكبر هو اليمين المتطرف من دون أن تُظهر فائزاً واضحاً.

سيكون 18 يوليو/تموز الحالي موعداً مهماً في سياق تصور مستقبل فرنسا السياسي، ذلك أن الجمعية الوطنية تلتئم في ذلك اليوم وترتسم صورة الكتل رسمياً، ويُنتخبُ رئيس/ة لها. على ضوء ذلك، يتضح ما إذا كان اليسار سيبقى موحداً أم لا، وإن كان النواب اليساريون المستقلون الـ11 سينضوون في صفوف الجبهة لزيادة عدد مقاعدها أم لا، وبناءً عليه، وإلى حين ذلك التاريخ، يظهر ما إذا كان ماكرون سيتمكن من استمالة جزء من اليسار ليتحالف معه ويسمّي منه رئيساً للحكومة.