استخدم رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، المدعوم عسكرياً من روسيا وسياسياً من الصين، تكتيكاً سوفييتياً لوقف أي احتجاجات في بلاده، معلناً أنه أصدر أوامر بالقتل من دون سابق إنذار. كما أنه استفاد من الاحتجاجات للإطاحة بأكثر شخص قد يمثل خطراً عليه، الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف.
وصعّد توكاييف، في خطاب متلفز اليوم الجمعة، بوجه المحتجين، إذ رفض أي إمكانية للتفاوض معهم، وسمح لقوات الأمن بـ"إطلاق النار بهدف القتل من دون إنذار مسبق"، معتبراً أنه "كان علينا التعامل مع مجرمين مسلحين ومدربين يجب تدميرهم، وسوف يتم ذلك قريباً". وحرص توكاييف على توجيه شكر خاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلاً: "أشكر بشكل خاص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لقد استجاب بسرعة كبيرة وقبل كل شيء بطريقة ودية لندائي". كما وجه توكاييف الشكر لقادة الصين وأوزبكستان وتركيا على مساعدتهم.
عمل توكاييف في وزارة الخارجية السوفييتية بعد تخرجه من معهد موسكو للعلاقات الدولية
وتصعيد توكاييف، الذي تواصل عدة مرات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحسب الكرملين اليوم الجمعة، يأتي على خلفية وصول 2500 جندي روسي إلى البلاد. كما أنه تلقى دعماً قوياً من الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أشاد، اليوم الجمعة، بالحملة الأمنية الدامية للحكومة الكازاخية ضد المتظاهرين، معتبراً أنها تنم عن الحس "العالي بالمسؤولية" الذي يتمتّع به توكاييف.
إنهاء حقبة "رئيس الظل"
ويأتي تصعيد توكاييف بعد نحو ثلاثة أعوام على توليه الرئاسة في كازاخستان، وأيام من تجريده "أبي الأمة" والرئيس الأول للبلاد نور سلطان نزارباييف من آخر منصب رسمي في رئاسة مجلس الأمن، ما قد يفتح الطريق إلى صفحة جديدة في تاريخ ثاني كبرى الجمهوريات السوفييتية السابقة، والحليف الأقوى لروسيا في آسيا الوسطى، عنوانها انتهاء حقبة "الرئيس ورئيس الرئيس" أو "رئيس الظل".
وربما يكون يوم الخامس من يناير/كانون الثاني الحالي فارقاً في حياة توكاييف وبلده كازاخستان بالخروج من عباءة نزارباييف، الذي لم يسمع صوته أثناء الاحتجاجات والتظاهرات العارمة التي عمت مناطق واسعة من البلاد منذ يوم الأحد الماضي، ولا يعرف مكان وجوده حتى الآن. لكن تماثيله بدأت بالتساقط في ساحات بلاد حكمها بالحديد والنار نحو ثلاثة عقود، ولم يسمح لنسائم "الربيع" بالمرور إليها بعد الثورات التي هزت معظم بلدان الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي المقابل، يحسب لنزارباييف أنه جنب البلاد من الوقوع في حروب أهلية، أو مشكلات قومية، كما جرى في قرغيزستان وطاجكستان، رغم عدم اتقانه لغته الأم وتفضيله دائماً الحديث بالروسية.
وهو حافظ على سياسة متوازنة مع القوى الأساسية في العالم، رغم ارتباطه الوثيق بموسكو، التي كان لها الفضل في صعوده إلى رأس هرم السلطة في الجمهورية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي. وللحقيقة، فقد ردّ نزارباييف الدين أكثر من مرة للكرملين، وكان من أفضل الحلفاء له، والداعمين لسياساته.
فضل موسكو على قاسم جومارت توكاييف
ولموسكو فضل كبير على توكاييف، الذي ولد في 1953 في جمهورية كازاخستان الاشتراكية السوفييتية، لأب خاض الحرب العالمية الأولى مع الجيش الأحمر. وتحول توكاييف لاحقاً إلى الصحافة والكتابة، ليصبح كاتباً معروفاً على صعيد الاتحاد السوفييتي بكتبه المعروفة، مثل "الجندي ذهب إلى الحرب"، وكتب أخرى في مجال التحري والتشويق.
عمل والده وشهرته كانا البطاقة التي فتحت له الأبواب للدراسة في معهد موسكو للعلاقات الدولية، التابع لوزارة الخارجية، في العام 1970، وتخرجه لاحقاً، والتدرج في المناصب الدبلوماسية في الحقبة السوفييتية.
وعلى عكس الدبلوماسيين السوفييت، لم يبرع توكاييف في الموسيقى والشعر حسب ما يعرف من سيرته الذاتية، ولكنه كان مولعاً بلعب طاولة التنس التي ربما شغف بها من التقاليد الصينية، نظراً لأنه اختار اللغة الصينية لغةً ثانية في الدراسة.
وفي أثناء انتدابه أثناء الدراسة إلى الصين في السنة الرابعة، تذكر مصادر عدة، منها صحيفة "فيدومستي"، أن توكاييف تعرف على جورج بوش الأب الذي كان يرأس مكتب الاتصال الأميركي في بكين (بمثابة سفارة نظراً لعدم وجود سفارة أميركية حينها بسبب اعتراف واشنطن بتايوان). وتردد، برفقة ابنه أكثر من مرة، على السفارة السوفييتية حيث كان يلعب طاولة التنس مع الدبلوماسي الشاب.
وبعد تخرجه، عمل توكاييف في وزارة الخارجية السوفييتية. ثم قضى نحو تسع سنوات في العمل في السفارة في بكين، متدرجاً من منصب سكرتير ثانٍ إلى سكرتير أول فمستشار.
سعى نزارباييف جاهداً عام 2019 من أجل ترشيح توكاييف لمنصب الرئاسة
ولم يجلب انفراط عقد الإمبراطورية السوفييتية أي مأساة على حياة الدبلوماسي الذي عين نائباً لوزير الخارجية في الجمهورية الفتية في 1992، ولاحقاً نائباً أول للوزير، ليتولى الوزارة لمدة 10 سنوات متقطعة، ما بين 1994 -1999، و2002- 2007، لعب فيها دوراً مهماً في مفاوضات تخلي بلاده عن الأسلحة النووية، بعدما كانت رابع أكبر بلد نووي في العالم.
وفي 2005، تم التوصل إلى اتفاق لترسيم أكثر من 7600 كيلومتر من الحدود مع روسيا، لينهي جدالات ومفاوضات شاقة بدأت منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. وهو تولى في العام 2007 منصب رئيس مجلس الشيوخ في كازاخستان حتى 2011.
أعمال توكاييف محط تقدير نزارباييف
أعمال توكاييف كانت محط تقدير نزارباييف، الذي امتدح عمله في ملفي المفاوضات النووية وترسيم الحدود. ورغم انتقال الدبلوماسي إلى العمل في الأمم المتحدة، إلا أنه حافظ على علاقات طيبة مع "زعيم الأمة". وفي 2011، عين الأمين العام للأمم المتحدة حينها بان كي مون توكاييف في منصب نائب الأمين العام، والمسؤول عن مكتب الأمم المتحدة في جنيف، والممثل الخاص للأمين العام في موضوع نزع الأسلحة.
وعاد توكاييف إلى بلاده في أكتوبر/تشرين الأول 2013 متخلياً عن المنصب الأممي. وقال، في مقابلة صحافية وقتها، إنه اتصل ببان كي مون، وأبلغه أنه سيتم انتخابه بعد 45 دقيقة لرئاسة مجلس الشيوخ في كازاخستان.
ويبدو أن نزارباييف كان في أمسّ الحاجة لصديق موثوق من أجل قيادة المجلس، بعد توسيع صلاحيات أعضائه في سن القوانين، بدلاً من المصادقة عليها كما كان الحال سابقاً، في إطار خطة "100 خطوة محددة" التي تضمنت إصلاح المؤسسات.
وفي العام 2019، أعلن نزارباييف تخليه عن السلطة، وعمل جاهداً من أجل ترشيح توكاييف لمنصب الرئاسة، وتجاوز عقبة دستورية تحتم على المرشح الإقامة بشكل دائم في البلاد في آخر 15 سنة. وحينها رأى "المجلس الدستوري" (المحكمة الدستورية) أن توكاييف كان بمهمة خارجية لبلاده، ولا مانع من ترشحه.
وفي أثناء توليه منصب الرئيس مؤقتاً بعد تنحي نزارباييف في مارس/ آذار 2019، كان أول مرسوم وقعه هو تغيير اسم العاصمة أستانة إلى نور سلطان تكريماً لسلفه. وفي يونيو/ حزيران 2019، انتخب توكاييف رسمياً رئيساً للبلاد، بعدما رشحه نزارباييف خليفة له في الحكم، من دون أن يسلمه جميع مقاليد السلطة عبر احتفاظه بمنصب سكرتير مجلس الأمن.
وفي الأيام الأخيرة، ظهر توكاييف وحيداً في المشهد، ما يطرح أسئلة حول مصير نزارباييف، "عرابه" إلى السلطة، وفيما إذا كان الدبلوماسي والسياسي المتمرس استغل الاحتجاجات للتغطية على انقلاب دبره ضد واحد من " ثعالب" السياسة في الفضاء السوفييتي السابق.
ويبقى السؤال حول كيفية إدارة توكاييف السياسة الخارجية والداخلية في بلاده بعد انقشاع غيمة الاحتجاجات، ومدى استفادته من كتابه في رسالة الدكتوراه في الأكاديمية الدبلوماسية الروسية في 2011، والذي أصدره تحت عنوان "السياسة الخارجية لجمهورية كازاخستان في حقبة النظام العالمي الجديد"، وإسقاطه على الوضع الحالي.