من أمام منزله الذي هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي جزءًا منه عام 2019، وكان يقطن فيه ابنه الشهيد صالح، مرت جنازة المناضل الفلسطيني القيادي بحركة "حماس" والأسير المحرر عمر البرغوثي، المعروف بـ"أبو عاصف"، الذي توفي أمس الخميس، متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا، بمشاركة الآلاف الذين لم يستطع معظمهم الوصول إلى المقبرة في مسقط رأسه ببلدة كوبر، شمال غرب رام الله وسط الضفة الغربية.
ووقفت نساء عائلته يتابعن المشهد المهيب أمام المنزل، وسط هتافات من المشاركين دعت أخته لإطلاق الزغاريد، فاستجابت لهم، لكن سرعان ما تحولت إلى دموع على فراق شقيقها، لتكشف عن آخر أمنياته خلال حديثها مع "العربي الجديد".
وقالت شقيقة المناصل الفلسطيني، حنان البرغوثي: "خلال مرض (أبو عاصف)، الذي اشتد عليه، كتب لي على ورقة أنه كان يتمنى الموت في المعركة"، مستذكرة أنه قدم للقضية الفلسطينية الكثير منذ شبابه، حيث سار على درب ابن عمه الذي استشهد، لينضم إلى الثورة الفلسطينية في لبنان، ويشارك في معارك تل الزعتر، ويعتقل شابًا في سبعينيات القرن الماضي.
حنان البرغوثي "أم عناد"، تقول في فراق شقيقها: "لم أحب في حياتي المنحنيات إلا في جهاز المستشفى، ولم أكره يوما الخط المستقيم إلا في جهاز المستشفى، هو خسارة لنا، لكن عزاءنا أنه زرع، وأن زرعه أنتج، فهو شقيق نائل البرغوثي، أقدم أسير في العالم، وابنه صاحب الرد السريع على استشهاد شقيقه"، في إشارة إلى ابنيه الأسير عاصم والشهيد صالح، اللذين نفذا عمليتين فدائيتين شرق رام الله في نهاية عام 2018.
أما زوجته سهير البرغوثي فحكت، لـ"العربي الجديد"، كيف قضى فترة مرضه: "كان في جهاد طيلة حياته، وحتى في مرضه كان كثير الحمد لله، ودائم ترديد الشهادتين يرفع إصبعه فيظن الممرضون أنه يطلب شيئاً".
تقول "أم عاصف": "إنه كان يفكر بالثورة حتى خلال مرضه وأثناء نومه"، مشيرة إلى أنه مؤخرًا نام لدقائق فقالت له: "إنها أحست بأنه يقاتل في نومه الذي لم يستغرق 15 دقيقة، فقال إنه خلال هذه الدقائق بنى ثورة، حتى في نومه كان يفكر بالجهاد والنضال ويفكر بغيره".
وشهدت جنازة الشهيد، التي شارك فيها الآلاف من مناطق متفرقة من الضفة الغربية، مشاركة من عدد من الملثمين المتقمصين لشخصيات أعضاء "كتائب القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، في مشهد غير مألوف في الضفة الغربية، وتلا أحدهم بيانًا صدر أمس عن "كتائب الشهيد عز الدين القسام"، كشف أن البرغوثي هو أحد مؤسسي الكتائب في الضفة، والمشرف المباشر على العديد من خلاياها.
وأورد البيان أن "له مسؤولية مباشرة على خلية الشهيدين عماد وعادل عوض الله التي تشكلت من مجاهدي القسام في قرى كوبر وسلواد والمزرعة الغربية، والتي اعتبرها الاحتلال إحدى أخطر خلايا المقاومة الفلسطينية في تاريخه، ونفذت عملياتٍ موجعةً قُتل فيها عددٌ كبيرٌ من جنود الاحتلال".
وأشارت القسام إلى أن عمر البرغوثي قام بتدريب قائد الخلية وإمدادها بأول قطعة سلاحٍ استخدمت في عملياتها، وكان له إسهامٌ في العمليتين اللتين نفذهما نجلاه الشهيد صالح والأسير عاصم، وداسا خلالهما على رقاب جنود الاحتلال في مستوطنتي (عوفرا) و(جفعات آساف) المقامتين على أراضي رام الله، وأنه "كان قد زود إحدى مجموعات "كتائب شهداء الأقصى" الذراع العسكرية لحركة (فتح)، بالسلاح الذي نفذت به عدداً من العمليات".
وكان لقيادات فلسطينية رأي في المشاركة اللافتة في الجنازة من مناطق عدة في الضفة، ومن عدة فصائل فلسطينية، إذ قال القيادي في حركة "حماس" جمال الطويل، لـ"العربي الجديد": "إن تلك المشاركة هي تعبير للوفاء للشيخ (أبو عاصف) ونهجه المقاوم".
وتابع الطويل: "أبو عاصف بالنسبة لنا أيقونة ورمز للمقاومة والصمود، سليل عائلة مجاهدة قدمت الكثير من أجل فلسطين ودون أن يخطط حاز كل الألقاب؛ الأسير المحرر والمجاهد ووالد الشهيد والأسير وزوج الأسيرة المحررة، فضلًا عن السر الذي كشف بعد 31 عامًا بأنه أحد مؤسسي "كتائب القسام" في الضفة، ووصفه إعلام الاحتلال بأنه رئيس أركان المقاومة".
وكشف القيادي بـ"حماس"، خلال كلمة له في التشييع، أن الحركة كانت قد قررت قبل وفاة البرغوثي ترشيحه على رأس قائمتها للمجلس التشريعي الفلسطيني شهر مايو/ أيار المقبل، لكن الآن سيتم ترشيح شقيقه عميد الأسرى نائل البرغوثي.
فيما قال الرئيس السابق لهيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع، لـ"العربي الجديد": "إن وفاة البرغوثي خسارة لكل الشعب الفلسطيني، لكنه مدرسة في المقاومة والنضال والصبر والصمود، مدرسة تعلمتها أجيال كثيرة، وهو الخلود".
وكانت قوات الاحتلال قد استدعت الراحل عمر البرغوثي في يناير/ كانون الثاني الماضي، وحذرته من الترشح للانتخابات.
وخلال مقابلة سابقة مع "العربي الجديد"، كان البرغوثي قد كشف عن أن ضابط مخابرات الاحتلال قال له: "صحيح أنك كبير في السن ومريض، لكنك أخطر علينا ممن يحمل السلاح ويطلق النار ويقتل جندياً. أنت لست ناشطاً بحركة "حماس"، لكن أنت "حماس" بنفسها، وترشحك يعني عودتك للسجن".
ونعى رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية القياديين في الحركة عمر البرغوثي وعدنان أبو تبانة، وقال هنية في بيانه، "إن القائد أبو عاصف سليل عائلة من أعرق عائلات فلسطين التي قدمت وما زالت من أجل التحرير والعودة".
وتابع هنية: "إن مجموع ما أمضاه أبو عاصف في سجون الاحتلال يصل إلى ربع قرن، لكنه ظل شامخًا عزيزًا أبيًا يمتطي صهوة الجواد من آن إلى آخر، ويحافظ على الثوابت، ويورث الأجيال معاني العزة والكرامة".
وعزّى رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل، في فيديو مسجل، عائلة البرغوثي والشعب الفلسطيني بوفاته، وقال: "أسأل الله له أجر الشهادة، فهو عاش مجاهداً داخل السجن وخارجه، صامدًا محتسبًا، وأضاف لعطائه الكبير أسرة عظيمة".
كذلك نعاه قائد حماس في قطاع غزة يحيى السنوار قائلًا: "إنه لم يكن مجرد قائد حمساوي كأي قائد، بل كان قائدًا قساميًا كبيرًا، وهو أحد أكبر قادة القسام في الضفة الغربية، وأحد المؤسسين"، كما نعى نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس القيادي صالح العاروري البرغوثي وعدنان أبو تبانة.
وأمضى عمر البرغوثي (68 عامًا)، وهو من بلدة كوبر، حياته مناضلاً، إلى جانب شقيقه الأسير نائل البرغوثي الذي يقضي عامه الـ41 في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وإلى جانب رفيقه الأسير المحرر فخري البرغوثي "أبو شادي" الذي يرقد في المشفى بسبب إصابته بفيروس كورونا.
وانخرط عمر البرغوثي في العمل النضالي في سن مبكرة، وواجه الاعتقال والملاحقة من قبل قوات الاحتلال منذ عام 1978، وحكم عليه الاحتلال بالسّجن المؤبد مدى الحياة، وأُفرج عنه عام 1985 ضمن صفقة تبادل.
وفي عام 2018، اغتال الاحتلال صالح البرغوثي، نجل عمر البرغوثي، ثم اعتقل الاحتلال مجددًا كافة أفراد عائلته، وهو كذلك، وزوجته سهير البرغوثي، ثم أصدر بحق نجله عاصم حُكمًا بالسّجن المؤبد أربع مرات، ولاحقًا هدم الاحتلال منزلي نجليه صالح وعاصم، وكان آخر اعتقال تعرض له عمر البرغوثي على يد قوات الاحتلال في شهر مارس/ آذار العام الماضي.
وفي السياق، شيّعت جماهير فلسطينية جثمان القيادي في حركة "حماس"، عدنان أبو تبانة، في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية المحتلة.
وفي وداع أبو تبانة، قال القيادي في حركة "حماس" عبد الكريم فراح: "إن الفقيد تنقل بين العلم والعمل في المؤسسات الخيرية، كما كانت له سنوات طويلة في أروقة التحقيق والزنازين عند الاحتلال".
وكشف فراح أن أبو تبانة كان يعمل بصمت، إذ عكف مؤخرًا على تشكيل القائمة الانتخابية الأولى من محافظة الخليل، لكنه رحل بصمت أيضًا.