منذ عدّة أعوامٍ؛ يشهد الفلسطينيون في أراضي 1948 تكثيفًا للحراك السياسي والفكري، الهادف إلى تعزيز ارتباطهم بالقضية الفلسطينية، وبالتالي توثيق الرابط بين تحسن مكانتهم، وأوضاعهم الحياتية، وبين حلّ هذه القضية. يعود أحد أسباب هذا التكثيف إلى حقيقة أنّ الارتباط السالف قد تعرّض إلى الاهتزاز، في أثناء ولاية الحكومة الإسرائيلية السابقة (الحكومة الـ 36 أو حكومة بينت - لبيد، من 13/6/2021 إلى 29/12/2022)، التي كان فيها فصيلٌ سياسيٌ من فلسطيني 48 (الحركة الإسلامية - الجناح الجنوبي)، شريكًا في الائتلاف الحكومي، من خلال القائمة العربية الموحدّة.
كما وتعرّض إلى الوهن أعوامًا طويلةً قبل ذلك، وتحديدًا في إثر اتّفاقية أوسلو، المبرمة عام 1993 بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية، التي تمثّلت حصيلتها الأبرز؛ بالنسبة لهم، في ترسيخ شعور الأغلبية الساحقة منهم، بما اصطلح على تسميته بـ "التهميش المزدوج"، أيّ تهميشهم على مستوى الشعب العربي الفلسطيني، ومن طرف قيادته الشرعية، على غرار التهميش الذي كانوا؛ وما زالوا، يخضعون له على مستوى المجتمع الإسرائيلي. وقد حدا هذا الأمر في حينه بهؤلاء الفلسطينيين إلى التحوّل نحو سيرورة النظر إلى أنفسهم، والبحث عن سبلٍ تتيح إمكان المشاركة الفكرية الفاعلة في تقرير مصيرهم ومستقبلهم.
بمراجعةٍ سريعةٍ؛ في الوسع القول إنّ هذه السيرورة الأخيرة قد مرّت حتّى الآن بعدّة مراحل، وبلغت مرحلةً من النضج خلال عامي 2006- 2007، بالتزامن مع صدور مبادراتٍ فكريةٍ عدّةٍ في شأن الرؤى المستقبلية المنشودة، والتي مثّلت تحوّلًا مهمًا في سياق محاولاتٍ متعددةٍ ترمي إلى النأي عن صيرورة تهميشهم فلسطينيًا، وكذلك داخل وطنهم المغتصب.
الحال التي يجد الفلسطينيون في الداخل أنفسهم في خضمها في الآونة الأخيرة، لا تختلف عن حال سائر أجزاء الشعب الفلسطيني
ترتب على هذه السيرورة استنتاجاتٍ فكريةٍ مهمةٍ عدّةٍ. لعل أهمّها هو ما أشار إليه المفكّر العربيّ عزمي بشارة، في كتابه المرجعي "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل"، وفحواه أنّ العرب في إسرائيل هم سكان البلاد الأصليون، وهم جزءٌ من الأمة العربية، التي تعيش حالة صراعٍ مع إسرائيل، ومن الشعب الفلسطيني الذي تعرّض لعملية سطوٍ مسلّحٍ على أرضه، شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيًا كجزءٍ من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة "أقلّيةٍ" عربيةٍ في الداخل.
أما الممارسات الإسرائيلية؛ التي تتضمّن مصادرة أراضي العرب في الداخل، ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويّتهم الثقافية، بما يتناسب مع احتوائهم كأقلّياتٍ متنافرةٍ متنازلةٍ عن المساواة الكاملة، وعن الشخصية العربية الكاملة في دولةٍ يهودية... فهذه كلّها ليست مجرد مركباتٍ في سياسة تمييزٍ، بل هي جزءٌ من سياسةٍ تمثّل استمرارًا تاريخيًا لقضية فلسطين، وتضع لنفسها أيضًا أهدافًا تاريخيةً. وهي ما زالت تجري، وتنفذ بعقليةٍ كولونياليةٍ استيطانيةٍ إحلاليةٍ، وتتخذ شكلاً كولونياليًا أيضًا.
يعزى إلى بشارة؛ مؤسس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" في أواسط تسعينيات القرن الفائت، أعمق التحليلات النظرية المتعلقة بكينونة الفلسطينيين في أراضي 1948، ومآلها وإحالاتها. وقد بُنيت عليها مواقف، ومثلت مرشدًا لتجربةٍ عمليةٍ انعكست في طرح مشروعٍ وطنيٍ ديمقراطيٍ في ظروف الداخل، قائمٍ على جدلية العلاقة بين الوطني والمدني، وبين الخطاب العروبي الفلسطيني والمواطنة.
ما زال "التجمع"؛ هو الحامل لهذا المشروع، من خلال العمل البرلماني، ومن خلال النشاطات الجماهيرية التي يقوم بها. وكان المنطلق الرئيسي لهذه التحليلات هو أنّه لا يمكن أن نفهم مسألة الفلسطينيين في الداخل بنيويًا فقط، أي بتجرّدٍ عن تاريخ نشوء هذه المسألة، من خلال تحليل بنية دولة إسرائيل، كأنّها دولةٌ وطنيةٌ عاديةٌ؛ هي الدولة اليهودية، تعيش فيها أقلّيةٌ عربيةٌ تتعرّض للتمييز أو الإهمال. كما أنّه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالنهج التاريخي وحده، إذ لا يكفي فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية، وكيفية تحوّل الفلسطينيين إلى أقلّيةٍ في بلدهم، لفهم واقعهم الحالي. ولذا لا بُدّ من الدمج بين التاريخي والبنيوي.
في الاستحقاقات المطلوبة
في الوقت ذاته؛ لا بُدّ من أن نشير إلى أنّه لدى تحليل ما جاء في هذه الوثائق المهمة؛ بشأن نظرة الفلسطينيين في الداخل إلى الاستحقاقات المترتبة على تعريفهم لذاتهم، يتبيّن أنّ تلك النظرة لا تعكس مستوى الوضوح الذي تميّز به التعريف نفسه، بل اتّسمت بقدرٍ من الغموض والمساومة، والتأرجح بين ما يجب أن يكون حقّهم، وبين كيفية التعبير عن ذلك، بطريقةٍ تكون مقبولةً من السلطة المهيمنة. وأدّى ذلك إلى ثغراتٍ كثيرةٍ تحتاج إلى مقارباتٍ جازمةٍ أكثر. ومن هذه الثغرات مثلاً، قبول بعض الطروحات؛ التي تقف وراءها قوىً سياسيةٌ مُحدِّدة مبدأ تجزئة الشعب الفلسطيني، وقبول التسويات المتداولة لكلّ جزءٍ من هذا الشعب.
وفي هذا السياق؛ مثلاً حُصِرَ مفهوم الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وطُولبَ بحقّ تقرير المصير سياسيًا لهذه المناطق، بموازاة المطالبة بحقّ تقرير المصير ثقافيًا للفلسطينيين في إسرائيل، بما يوحي بأنّ ذلك يتم من منطلق كونهم غير محتلين، وكونهم أقلّية وطنٍ ومجموعةٍ قوميةٍ لها حقوق مواطنةٍ أساسيةٍ، تشمل فيما تشمل إعادة أراضيها المصادرة وأملاكها. كما طُولبَ بتحقيق حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، لكن من دون تحديد "العودة إلى أين"؟ وهذا يبقي مفهوم الإقرار بالغبن التاريخي، الذي ورد في هذه الوثائق، كمطلبٍ يتعين على إسرائيل أن تقبل به، منقوصًا.
كما أنّ تعريف الوثائق للفلسطينيين في الداخل، بأنّهم جزءٌ لا يتجزأ من شعبٍ فلسطينيٍ واحدٍ، يسعى إلى الحرية والاستقلال، لم يقترن بطرحٍ يقول بضرورة العمل على الوصول إلى إطارٍ ديمقراطيٍ واحدٍ، يحقق مطالب الشعب الفلسطيني بجميع أجزائه، من دون نفي حقوق الآخرين.
أيّ تهميشهم على مستوى الشعب العربي الفلسطيني، ومن طرف قيادته الشرعية
في واقع الأمر؛ فإن الحال التي يجد الفلسطينيون في الداخل أنفسهم في خضمها في الآونة الأخيرة، لا تختلف عن حال سائر أجزاء الشعب الفلسطيني. وهي ناجمةٌ أساسًا عن افتقار هذا الشعب إلى قيادةٍ سياسيةٍ تحظى بتوافقٍ عامٍّ، ومؤسساتٍ وطنيةٍ جامعةً، وإستراتيجيةٍ عليا، تشرك كلّ مكوّناته في النضال متعدد المستويات. وتتسبب هذه الحالة بتفتيت الحقل الوطني إلى "حقولٍ محليةٍ"، الأمر الذي يفضي إلى انغلاق مكوّنات الشعب الواحد في جزرٍ معزولةٍ عن بعضها، ومكشوفةٍ لسطوة شرطها الموضوعي.
ولا شكّ في أنّ هذه الحال إذا ما استمرّت، من شأنها أن تنتج (إذا لم تكن قد أنتجت فعلًا) وضعًا من تعددية الإستراتيجيات والسلطات، ومصادر القرار. وبالتالي يمكنها أن تبدّد القدرة على أن يحتكم الكلّ الفلسطيني إلى تعريفٍ جمعيٍ للمصلحة الوطنية العليا، والقدرة على الاتّفاق على ركائز هذه المصلحة، كمرجعيةٍ وإطارٍ عامٍّ لإستراتيجيةٍ وطنيةٍ، يتم التوافق عليها من طرف مكوّنات الشعب الفلسطيني، ونظامه السياسي، ومؤسساته.