عام 1943، احتلت فرنسا منطقة فزّان وأدارتها على نموذج الجزائر
اتحد التبو والطوارق للدفاع عن مصالحهما المشتركة في مواجهة حفتر
غياب أقليات الجنوب يجعل الخروج الدائم من الأزمة أمراً مستبعداً
تعد فزّان منطقة استراتيجية للغاية في ليبيا بسبب مواردها النفطية. توحد التُبو والطوارق الذين يعيشون هناك، المنقسمون بشدة والذين تخلت عنهم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ضدّ هجمات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في المنطقة. لكن بالنسبة إليهم تبقى الآفاق السياسية مسدودة.
عندما يتم الحديث عن الحرب في ليبيا، يتجه الاهتمام إلى إقليم برقة شرقاً، الخاضع لحكومة طبرق، وإلى إقليم طرابلس غرباً الذي تسيطر عليه حكومة الوفاق الوطني. وتبقى منطقة فزان في جنوب البلاد منسية، مع أنها منطقة استراتيجية للغاية قد يكون انضمامها لأحد المتحاربين عاملاً حاسماً في انتصار أحد المعسكرين.
تمثّل المكونات العرقية الرئيسية الثلاثة لمنطقة فزّان (العرب، التُبو والطوارق)، ما يقارب 10 في المائة من سكان البلاد، أي حوالي 500 ألف نسمة. وهم يتمركزون بشكل أساسي حول مدن العاصمة الإدارية سبها (140 ألف نسمة)، وهي مركز قبيلة القذاذفة العربية التي يتحدر منها العقيد الراحل معمر القذافي، ومدينة مرزوق (50 ألف نسمة)، معقل التبو، وأوباري معقل الطوارق الأصغر مرتين من مرزوق.
التنافس من أجل غزو فزّان ليس بجديد
التنافس من أجل غزو هذه المنطقة ليس بجديد. بعدما ركزت جهودها على الساحل، عملت القوى الاستعمارية بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين (حتى عام 1951 تاريخ حصول ليبيا على استقلالها)، على بسط سيطرتها على هذه المنطقة نصف الصحراوية. فقد أولتها الإمبراطورية العثمانية وبعدها إيطاليا ثمّ المملكة المتحدة وفرنسا اهتماماً خاصاً، إذ كانت مدركةً بأنّ بقية البلاد تعتمد جزئياً على مواردها الجيوستراتيجية وعلى انفتاحها على الصحراء من أجل ازدهارها الاقتصادي.
عندما كانت ليبيا مقسمة إلى ثلاث محافظات (على غرار التقسيم الإقليمي الحالي: طرابلس وبرقة وفزّان)، لم تكن لفزّان سوى القليل من الروابط السياسية والإدارية مع الكيانين الإقليميين الآخرين. وعلى الرغم من كون إدارة طرابلس وبرقة تعودان إلى سلطات مختلفة، لها طموحات سياسية مختلفة، حافظ الإقليمان على روابط سياسية واقتصادية وثيقة.
أعربت طرابلس في وقت مبكر عن رغبتها في أن تصبح جمهورية ذات وجهة ديمقراطية، في حين كانت لبرقة، تحت قيادة الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي الذي زكاه البريطانيون، رؤية محافظة أكثر للسلطة. تم إعلان محمد إدريس ملكاً عند استقلال ليبيا عام 1951، ثمّ أطاح به القذافي عام 1969.
بعد إعلانه استقلال إمارة برقة عام 1949، شجع الملك إدريس المحافظتين الأخريين على أن تحذوا حذوه. غير أنّ الخلافات بين المحافظات ذات التركيبة البشرية غير المتجانسة والتي لها أسواق اقتصادية متميزة، والخاضعة لتأثيرات أجنبية مختلفة، دفعتها إلى اختيار نظام فيدرالي تدير فيه كل واحدة منها شؤونها بشكل مستقل تحت سلطة الملك. حصل هذه النظام على موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو مضمون في دستور 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951 الذي كرس استقلال البلاد.
إدارة فرنسية في عام 1943
قبل ذلك، ابتداءً من عام 1943، احتلت فرنسا منطقة فزّان وأدارتها على نموذج الجزائر المجاورة. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى قبل إعلان استقلال المملكة، تم إبرام معاهدات عسكرية ومالية مؤقتة قابلة للتجديد كل ستة أشهر بين فرنسا وليبيا. في هذا السياق، نشرت باريس مستشارين في الهيئات الفيدرالية في البلاد لضمان إعادة توزيع المساعدات المدفوعة للميزانية الليبية بالكامل في فزّان. يتعلق الأمر بشكل ملموس بالحفاظ على سيطرة عسكرية في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تسمح لفرنسا بربط الجزائر بالمستعمرات الفرنسية الأربع بأفريقيا الاستوائية: غابون وجمهورية الكونغو الحالية وتشاد وبانغي شاري السابقة التي أصبحت جمهورية أفريقيا الوسطى. كما حصلت فرنسا على حق استغلال طرق ومطارات فزّان، مثل مطار سبها، مقر الإدارة الفرنسية، وكذلك مطاري غات وغدامس.
غير أنّ الدولة الفيدرالية عملت شيئاً فشيئاً على العودة عن هذه الاتفاقيات واستعادت السيطرة على هذه المنطقة، حيث كان الوجود الفرنسي موضوع نزاع. في النهاية، اضطرت فرنسا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 إلى الانسحاب وتأجير القواعد الجوية التي كانت تستخدمها حتى ذلك الحين.
اضطرت فرنسا للتوقيع في 10 أغسطس/ آب 1955 على معاهدة تكرس انسحابها النهائي من منطقة فزّان
فعندما اندلعت حرب تحرير الجزائر في نوفمبر 1954، رفضت الحكومة الليبية تجديد الاتفاقات المؤقتة مع فرنسا وأمرتها بمغادرة فزّان قبل 31 ديسمبر. مع احتدام الصراع في الجزائر، كانت هذه المنطقة التي تشكل مجال عبور محتملاً لتهريب الأسلحة أو انسحاب المتمردين في شرق الجزائر، تبدو استراتيجية بالنسبة للسلطات الفرنسية. ولكن على الرغم من مفاوضات دبلوماسية مكثفة، اضطرت فرنسا المعزولة على المستوى الدولي والتي تخلى عنها البريطانيون والأميركيون الذين كانوا لا يزالون موجودين في ليبيا، للتوقيع في 10 أغسطس/ آب 1955 على معاهدة تكرس انسحابها النهائي من المنطقة. ولكنها حصلت مع ذلك على فترة انتقالية والعديد من الضمانات، بما في ذلك الوصول إلى المطارات واستخدام طرق معينة بالتشاور مع الحكومة الفيدرالية، وضمان إمكانية الدفاع عن فزّان إذا تعرضت هذه المنطقة لهجوم، أو بصفة أكثر تأكيداً، إذا تحولت إلى ملجأ للمقاتلين الجزائريين.
منطقة عبور النفط الجزائري
بالإضافة إلى ذلك، تم منح فرنسا امتيازات لحساب شركات النفط الموجودة في ليبيا منذ عام 1954 وهي تستغل حقلي الجرف ومبروك في حوض سرت، وسط البلاد، وكذلك حقول الشرارة في حوض مرزوق. كما فازت في قضية احترام مسار الحدود الجزائرية الليبية الذي يضمن لها الاحتفاظ بالحقول الجزائرية في العجيلة.
وكان اكتشاف حقول نفطية كبيرة بالقرب من العجيلة في عام 1956 هو السبب الذي دفع الفرنسيين إلى إعادة تقدير مصالحهم الاستراتيجية في فزّان والموافقة على الانسحاب منها. حتى ذلك الحين، كانت السلطات الفرنسية تتشبث في المفاوضات بمسألة استمرار وجودها في المنطقة لأسباب سياسية - عسكرية. مع اكتشاف هذه الحقول، خفف الفرنسيون من موقفهم وتفاوضوا على انسحابهم، مقابل تنازلات تسمح لهم بالاستفادة من الطرق وبعض البنى التحتية.
كانت منطقة فزّان تعتبر مجال عبور أساسياً للنفط الجزائري نحو فرنسا، في وقت صار تأميم قناة السويس يهدد إمداداتها. وكانت السلطات الفرنسية تأمل بأن تحصل، مقابل انسحابها، على إمكانية الوصول إلى المطارات الليبية وميناء زوارة على الساحل الشمالي لإرسال النفط الجزائري إلى فرنسا. وقد كان هذا الطريق العملي الأقصر في ذلك الوقت.
يشكل النفط في ليبيا محفزاً وموحداً في الوقت نفسه، ولكن الذي كان بالأمس محفزاً لوحدة البلاد، صار اليوم يميل إلى أن يكون عاملاً لتقسيمها. أدى اكتشافه في برقة، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، بالحكومة المركزية إلى العمل بنشاط أكبر من أجل التوحيد الاقتصادي والسياسي للبلاد، في حين كان الشعب الليبي يعبّر آنذاك عن شعوره بالانتماء إلى العالم العربي.
وبالتالي أصبح التوحيد السياسي للبلاد مرتبطاً بقضية توزيع الثروة، وصار من الضروري إعادة التفاوض على العقد الاجتماعي الذي يربط بين الكيانات الثلاثة. في عام 1963، وبالمصادقة على اعتماد دستور جديد، أعلن الملك إدريس إلغاء النظام الفيدرالي وتوحيد الكيانات الثلاثة التي تتشكل منها البلاد.
رهان الأمن البترولي
تمتلك ليبيا أكبر الاحتياطيات الهيدروكربونية في القارة الأفريقية. في عام 2011، عشية الثورة الليبية، كان يتم تصدير 80 في المائة من إنتاج البلاد إلى أوروبا (نصفه موجه إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا). وحتى لو كانت حقول النفط تقع في جزء كبير منها في برقة، فهي تشكل رهاناً رئيسياً في الصراعات على النفوذ التي تجري في فزّان حيث يقع أكبر حقل نفط في البلاد، إلى الغرب من مدينة الشرارة في صحراء مرزوق. هذا الموقع، الموجود في حوض يحتضن أيضاً حقل الفيل، يمثل لوحده ما يقارب ثلث الإنتاج الليبي.
ألهبت مسألة النفط خلال الحرب الأهلية الليبية، بين عامي 2014 و2015، العلاقات بين الأعراق في الجنوب، وخاصة بين التُبو والطوارق
ألهبت مسألة النفط خلال الحرب الأهلية الليبية الثانية، بين عامي 2014 و2015، العلاقات بين الأعراق في الجنوب، وخاصة بين التُبو والطوارق. في فزّان، يوجد الطوارق بصفة أكثر رسوخاً في الغرب، إلى جانب الحدود الجزائرية. أما التُبو فهم موجودون في الجزء الأوسط والشرقي، ويقومون بمراقبة المحاور على الحدود التشادية الليبية. تتعايش المجموعتان في شريط يمتد من حدود النيجر إلى حدود إقليم طرابلس. ويشكل النفط أيضاً العنصر الذي ستتّحد حوله هاتان المجموعتان العرقيتان للدفاع عن مصالحهما المشتركة في مواجهة تقدّم جيش خليفة حفتر.
ولّدت الفوضى الليبية صراعاً على المداخيل الاقتصادية - الناجمة عن النفط أو التهريب - وكذلك من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية. وفضلاً عن الأرباح الآتية من التجارة بالذهب الأسود، يشكل تأمين البنية التحتية النفطية مورداً مهماً للجماعات التي تضطلع بهذه المهمة. يتم تأمين هذه المواقع في فزّان من قبل التُبو والطوارق. يتم استخدام هذه الوظيفة الاستراتيجية في المفاوضات بين السلطة المركزية والأقليات العرقية. وقامت هذه الأخيرة في مناسبات عدة، بأخذ البنى التحتية النفطية كرهينة للتأكيد على مطالبها الاجتماعية والسياسية ولكي يتم الاعتراف بحقوقها التي تم تجاهلها لفترة طويلة في عهد القذافي.
حصل خلال الحرب الأهلية الليبية الثانية قتال عنيف بين التُبو والطوارق في مدينة أوباري، معقل مجموعة الطوارق في ليبيا، على بعد 200 كيلومتر غرب سبها. يعود سبب نشوب هذا الصراع إلى سيطرة التُبو على المدينة والموارد النفطية الموجودة في محيطها. وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام بين المجموعتين في نوفمبر 2015، اندلعت الاشتباكات مرة أخرى بعد بضعة أشهر، متسببةً في دمار أوباري ومقتل عدة مئات من الأشخاص من الجانبين. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، شكل الطوارق والتُبو جبهة موحدة للتأكيد على مطالبهم بخصوص وضعهم كأقلية، وحقوقهم التي يجب إدراجها في الدستور الليبي الجديد. ولكن بصرف النظر عن هذا التوافق الظرفي، فالمجموعتان تواصلان التصادم من أجل السيطرة على موقعي النفط الرئيسيين في المنطقة (الشرارة والفيل). وقد سيطرا عليهما حتى الهجوم الكبير الذي شنه جيش حفتر في أوائل عام 2019.
أدى تقدّم جيش حفتر في فزّان الليبية حول مرزوق، سبها وأوباري، في نهاية المطاف، بالطوارق والتُبو إلى تشكيل مليشيات مشتركة للدفاع عن موقعي حقل الفيل الذي كان تحت سيطرة التُبو، والشرارة الذي كان بأيدي الطوارق. وهكذا سرى حديث في مايو/ أيار 2019 عن إنشاء جيش وطني جنوبي. وتعكس هذه المبادرة، التي حملها القائد العسكري علي كنه سليمان، الإحساس بالتخلي الذي تشعر به المجموعات العرقية الجنوبية تجاه حكومة الوحدة الوطنية بزعامة فائز السراج. على الرغم من الاشتباكات التي مزقتها خلال السنوات الأربع الماضية، سعت المجموعتان العرقيتان إلى الاتحاد تحت قيادة الجنرال علي كنه. ومع ذلك، كان يجب الانتظار حتى أوائل عام 2019 واندلاع هجوم حفتر على فزّان لكي تتحد المجموعتان العرقيتان للدفاع عن أراضيهما، ولكي يتم تعيين اللواء علي كنه قائداً عسكرياً للمنطقة من قبل طرابلس.
جبهة مشتركة ضد حفتر
على الرغم من مقاومتهما الشرسة لتقدم قوات حفتر، لا يمكن لمجموعتي الطوارق والتُبو أن تصدا بشكل دائم تقدم هذا الجيش المدعوم من روسيا والمرتزقة الأجانب. ستعود معارضتهما لاستغلال الموارد أو التموقع تجاه الكيانين السياسيين المتنافسين في الشمال للواجهة وهذا يضعفهما. وستجبرهما شراسة القتال وقوة خصمهما، فضلاً عن الدعم غير الكافي من الحكومة في طرابلس، على التراجع في الميدان أمام جيش حفتر وتقبّل وجوده في مواقع استراتيجية مختلفة، بما في ذلك المواقع النفطية.
تم استبعاد الطوارق والتُبو من منتدى الحوار السياسي الليبي
يعود انقسامهما بشكل خاص إلى كون ميزان القوى بين السلطتين المتنافستين في البلاد ما انفك يتطور. وتعتبر إعادة توزيع الأوراق الناجمة عن ذلك الفرصة التي كثيراً ما كانت أمل المجموعتين العرقيتين لإيجاد مكان لهما في هذا المجتمع الليبي الذي لطالما استغلهما وهمَّشهما، والاستفادة من تقسيم أكثر إنصافاً للموارد النفطية. لذا من المهم بالنسبة لهما ألا تجدا نفسيهما في الطرف الخاسر عندما ينتهي الصراع.
غير أن الأحداث تشير إلى أن التُبو والطوارق لن تستفيدا بالاعتراف الذي قاتلتا من أجله. فإذا كانت الفوضى الاقتصادية التي تعيشها البلاد بسبب الأزمة غير المسبوقة التي نجمت عن انخفاض عائدات النفط الليبي، وإذا كانت الضغوط الممارسة من قبل القوى الأجنبية مثل تركيا (تدعم حكومة الوفاق الوطني)، وروسيا (تدعم حفتر)، قد حملت السلطات المتنافسة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإنّ غياب الأقليات العرقية لجنوب البلاد يجعل الخروج الدائم من الأزمة في ليبيا أمراً مستبعداً. وبهدف الوصول إلى حل تفاوضي لنزاع طال أمده، عُقد منتدى الحوار السياسي الليبي في تونس من 9 إلى 15 نوفمبر الماضي، وانتهى بالإعلان عن تنظيم انتخابات في 24 ديسمبر 2021. وقد تم استبعاد الطوارق والتُبو من هذا اللقاء.
يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"