تتعدد خلفيات صفقة شراء مصر 30 طائرة "رافال" جديدة من فرنسا، بقيمة 3.9 مليارات يورو بقرض تمويلي يمتد لأكثر من 10 سنوات، وتتشابك لتشمل أسباباً سياسية واقتصادية خاصة بكل من البلدين، وبالعلاقات الثنائية بينهما، والأهداف الجيوسياسية لكل منهما في محيطه الإقليمي، وبظروف سوق التسليح الدولي الذي أصبحت مصر واحدة من الدول الأكثر نشاطاً فيه منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم.
الصفقة الكبيرة التي سترفع العدد النهائي لطائرات "رافال" لدى القوات الجوية المصرية إلى 54، لتصبح ثاني أكبر دولة في العالم اعتماداً عليها بعد فرنسا، ليست وليدة فترة مفاوضات قصيرة، بل بدأت المباحثات حولها عام 2018، بعد أشهر معدودة من تسلم مصر آخر دفعة من الصفقة الأولى التي تضمنت 24 طائرة وصلت ودخلت حيز التشغيل بحلول ديسمبر/ كانون الأول 2017، ونفذت عمليات على الجبهة الغربية، وظهرت في تسجيلات مصرية رسمية لضربات وُجهت لجماعات إرهابية تسللت عبر الحدود من ليبيا. كما يُعتقد أنها تدخلت أحياناً في بعض معارك الحرب الليبية، حسبما زعمت قوى ليبية مختلفة من دون إعلان رسمي من مصر.
ستصبح مصر ثاني أكبر دولة في العالم اعتماداً على طائرات "رافال" بعد فرنسا
وبحسب مصادر حكومية ودبلوماسية مطلعة من مصر وفرنسا، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإنّ المفاوضات بين البلدين عام 2018 تعطلت لأسباب عدة، من بينها تحفظات رسمية فرنسية على استمرار التعاون العسكري مع مصر في ظلّ تدهور الأوضاع الحقوقية فيها. ولفتت المصادر إلى أن هذا التحفظ استمر لأكثر من عامين، قبل أن تتم مراجعة المواقف ليس فقط على ضوء تطور العلاقة بين البلدين، ولكن أيضاً بسبب إلحاح شركة "داسو" الفرنسية المصنعة للطائرات، والبنوك التي كان مطروحاً منذ البداية اشتراكها في عملية تمويل الصفقة، خصوصاً أنّ مبيعات "داسو" واجهت تراجعاً في الفترة بين 2018 و2020، ومن المنتظر أن تشهد انتعاشاً بداية من هذا العام، بسبب الصفقة المصرية، وقبلها صفقة شراء اليونان 18 طائرة من النوع نفسه (رافال).
كما أنّ الإقبال الفرنسي على بيع "رافال" يرتبط بالمنافسة التي تخوضها باريس مع إيطاليا على تسليح دول جنوب المتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، لا سيما في ظلّ زيادة حصة روما في مخصصات التسليح المصرية بصورة كبيرة وغير مسبوقة في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
هذه الأسباب العملية من الجانب الفرنسي أنهت حالة يمكن وصفها بـ"التوتر الدبلوماسي المكتوم" مع مصر، على خلفية ملفات عدة، أبرزها أوضاع حقوق الإنسان، وعدم استجابة السيسي للحديث الذي أدلى به نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لمصر في يناير/ كانون الثاني 2019. فحينها، دخل الاثنان خلال مؤتمر صحافي مشترك في مساجلة علنية حول أولوية حقوق الإنسان بالنسبة لفرنسا في وجهتها السياسية في السياق المصري، بينما كرر السيسي وقتها تمسكه بأنّ حقوق الإنسان في مصر تختلف عنها في أوروبا، وأن الاهتمام يجب أن يقتصر على ما يسميه السيسي "الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، قاصداً بذلك الأجور والمعاشات ومسائل الضمان الاجتماعي المختلفة والتشغيل والإسكان.
الإقبال الفرنسي على بيع "رافال" يرتبط بالمنافسة التي تخوضها باريس مع إيطاليا
وعلى الرغم من أنّ ضغوط ماكرون على السيسي في ملف حقوق الإنسان كانت محدودة ومتواضعة، ولم تخرج عن كونها "مطالبات"، من دون التلويح باتخاذ أي إجراءات، في ظلّ استمرار العلاقة العسكرية المزدهرة بين البلدين منذ تولي السيسي الحكم وإبرامه العديد من صفقات التسليح مع فرنسا، على رأسها صفقة السفينتين الحربيتين من نوع "ميسترال"، وتوافق الطرفين في الملف الليبي، لكن هذا كله لم يمنع السيسي من اتخاذ بعض الخطوات التي اعتبرتها إدارة ماكرون "استفزازية" و"تشي بعدم الاحترام"، ما تسبب في امتناع فرنسا عن بيع أسلحة بحرية طلبتها مصر. وهو ما أدى إلى توجه الأخيرة إلى إيطاليا، لتشتري منها فرقاطتين من نوع "فريم" بقيمة تتجاوز مليار يورو تقريباً، بقرض تمويلي أيضاً، كجزء أول من صفقة قياسية ربما تتخطى 10 مليارات يورو.
ومن بين الأحداث التي أدت إلى التوتر، عدم حل مشاكل الحقوقيين الذين اجتمع بهم ماكرون خلال زيارته للقاهرة، وجميعهم تقريباً متهمون في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع الأهلي، وممنوعون من السفر ومن التصرف في أموالهم. وكذلك الزج في التحريات الأمنية التي أجريت في بعض القضايا الخاصة بالمنظمات الحقوقية ونشطاء العمل الأهلي، بأسماء عدد من الدبلوماسيين الفرنسيين الحاليين والسابقين، باعتبارهم من الشخصيات صاحبة الأجندات المعادية للنظام المصري، لمجرد عقدهم اجتماعات مع هؤلاء النشطاء في إطار تواصلهم مع المجتمع المدني.
ومن الإشكاليات أيضاً في ملف آخر، تفضيل الحكومة المصرية لعروض أميركية وأوروبية أخرى على حساب العروض الفرنسية في بعض المناقصات التي أجريت العام الماضي في قطاعات خدمية ومرفقية عديدة، على الرغم من سابقة وعد القاهرة لباريس بترسيتها عليها، وذلك في إطار حرص السيسي على تنويع مصادر العلاقات التجارية وروابط المصالح مع العواصم الغربية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مصر إجمالاً استوردت نحو 40 في المائة من أسلحتها في السنوات الخمس الأخيرة من فرنسا، تليها الولايات المتحدة وروسيا، بينما من المقرر بعد الصفقة التاريخية مع إيطاليا، أن تحلّ روما في المركز الثالث على اللائحة بدلاً من روسيا، وهو ما كان يشكل مصدر قلق للفرنسيين الذين يرغبون في الاحتفاظ بالريادة في هذا المجال، علماً أنّ مصر تعتبر رابع أكبر مشتر من فرنسا في الفترة نفسها.
استوردت مصر نحو 40% من أسلحتها في السنوات الخمس الأخيرة من فرنسا
أمّا من المنظور المصري، فإنّ توسيع مصادر صفقات التسليح ما زال ضرورياً للإفلات من الضغوط الأميركية المتتالية، فضلاً عن تمسك السيسي بالاعتقاد بأنّ امتلاك ترسانة ضخمة من الأسلحة هو جزء من القوة الاستراتيجية لمصر في الملفات المأزومة، سواء في المواجهة المحتملة مع إثيوبيا حول سد النهضة، أو في ليبيا. كما يعتبر السيسي هذه الأسلحة ذخيرة استراتيجية يمكن استخدامها في أوجه التعاون المحتملة مع الدول الحليفة.
كذلك، فإنّ الصفقة شأنها شأن باقي صفقات التسليح من الدول الأوروبية، ستؤدي إلى تخفيف الضغوط في مجال الأوضاع الحقوقية والسياسية. فعلى الرغم من أوجه الخلاف الكبيرة بين العواصم الغربية الرئيسية والقاهرة في هذه المجالات، إلا أنّ المشتريات بالمليارات والفوائد الاقتصادية المترتبة لشركات التصنيع والبنوك الممولة للقروض، تمنح مصر في عواصم هذه الدول، دوائر ضغط يمكن استغلالها طوال الوقت.
أما الدافع الأخير والمهم من الجانب المصري، فهو ضمان تضخيم الأسطول الجوي، وسط غموض مصير صفقة الطائرات الروسية "سوخوي 35"، التي تعترض عليها واشنطن بشكل صريح، وحذرت مجدداً من إتمامها في يناير الماضي. وهذه الصفقة كان من المتفق أن تتم نهائياً بين عامي 2021 و2022 بقوام 20 طائرة، وصلت منها فقط - بحسب الإعلام الروسي - 5 طائرات، بينما يحيط بباقي الكمية مصير مجهول، وسط حرص مصر على توثيق علاقتها بالإدارة الأميركية الجديدة لإحداث اختراق في مفاوضات سد النهضة.
وفتحت هذه المقدمات المجال خلال زيارة السيسي الأخيرة إلى باريس في ديسمبر الماضي، ليكون الملف الرئيس في المباحثات، سواء في الإليزيه أو الخارجية ووزارة الجيوش الفرنسية، هو تطوير التعاون العسكري بين البلدين على ثلاثة أصعدة؛ الصادرات العسكرية، خلق شراكات ممتدة ومؤقتة بين الشركات الفرنسية والجيش المصري لإقامة مصانع وورش حربية في مصر، وتنويع وزيادة المناورات التدريبية بين البلدين.
وفي ما يتعلق بصفقات الأسلحة، تمّ الاتفاق بشكل مبدئي على إتمام صفقة "رافال" الجديدة، واستغرق البلدان الشهور الماضية في تحديد بنود التعاقد والجهات الممولة، والتي من بينها بنكا "باريبا" و"كريدي أغريكول". كما تضمنت المباحثات التأكيد على رغبة فرنسا في الاستمرار كمورد أول للأسلحة المصرية خلال السنوات الخمس المقبلة، مثلما كانت في الأعوام من 2015 إلى 2019، مع إبداء القلق من توجيه مصر نسبة كبيرة من إنفاقها العسكري في العامين الأخيرين إلى إيطاليا وألمانيا لجلب أسلحة مماثلة لتلك الفرنسية، خاصة القطع البحرية والعربات البرمائية.
ستؤدي الصفقة لتخفيف الضغوط على مصر في مجال الأوضاع الحقوقية والسياسية
ويبدو أنّ صفقة "رافال" ليست الوحيدة في هذا الصدد، فبحسب المصادر، شهدت زيارة السيسي أيضاً توقيع اتفاقيات مبدئية مع ثلاث شركات فرنسية كبرى للتعاون في إنشاء مصانع مستدامة لتصنيع القطع البحرية الصغيرة والكورفيت الشبحي (فرقاطات صغيرة صعبة الترصد الراداري)، والعربات المدرعة، بحيث يتم الاتفاق على تفاصيلها خلال زيارات لاحقة لمسؤولي تلك الشركات للقاهرة. ويأتي ذلك على ضوء التجربة الناجحة التي نفذتها مصر مع شركة "نافال غروب" الفرنسية لإنتاج ثلاث قطع من الكورفيت الشبحي "جوويند 2500" خلال السنوات الثلاث الماضية.
ومن أهداف هذا التعاون الذي يعتبره المصنعون العسكريون في باريس استراتيجياً، فتح آفاق لتوريد القطع التي تصنع في مصر بصورة أسرع وكلفة أرخص، إلى الأسواق المعتادة لتلك الأنواع، في الخليج العربي وشرق آسيا، وفتح أسواق جديدة في أفريقيا، إلى جانب استغلال رغبة السيسي المتصاعدة في تضخيم أسطول أسلحة الجيش المصري بالساحلين الشمالي والغربي، لتسويق صورته كنظام قادر على حماية حقول وخطوط الغاز والتجارة بالمنطقة.