استمع إلى الملخص
- **فشل ماكرون في تحقيق الإجماع السياسي**: أجرى ماكرون مشاورات طويلة لتعيين رئيس وزراء، لكنه رفض مرشحي "الجبهة الشعبية الجديدة"، مفضلاً تشكيل أغلبية حول حزبه "النهضة"، مما أثار انتقادات واسعة.
- **خيارات ماكرون المستقبلية**: يواجه ماكرون ضغوطًا متزايدة مع استمرار الانقسامات السياسية، وهناك دعوات لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو استقالته كحل للأزمة السياسية.
قال الجنرال شارل ديغول ذات يوم: "كيف يمكنك أن تحكم بلداً لديه 246 نوعاً من الجبن؟". وكان زعيم المقاومة ضد الاحتلال الألماني يتحدث عن تجربته مع صعوبة حكم فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وقراره الاستقالة بسبب الانقسامات بين القوى السياسية، التي تشكلت معها الحكومة حينذاك. وعاشت فرنسا حالة مشابهة لحوالي شهرين من الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أجريت جولتها الثانية في يوليو/تموز الماضي، قبل تعيين رئيس حكومة جديداً، هو ميشال بارنييه الذي سبق له أن شغل مناصب وزارية عدة خلال رئاسة الرئيس الأسبق الراحل جاك شيراك، منها وزير خارجية في بداية ولاية شيراك الثانية (2002 -2007).
ميشال بارنييه لتجاوز الاستعصاء
بتكليف الرئيس إيمانويل ماكرون، ميشال بارنييه لرئاسة الحكومة، تمّ تجاوز حالة استعصاء صعب، تولدت عن تعذر إيجاد رئيس حكومة يحقّق الإجماع، بين رئيس الدولة والقوى السياسية الثلاث الرئيسية التي تمتلك أكبر الكتل البرلمانية، وهي: الأولى، ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي يتشكل من أحزاب فرنسا الأبية، الاشتراكي، الخضر، والشيوعي، والقوة الثانية هي حزب النهضة الرئاسي، والثالثة حزب التجمع الوطني برئاسة مارين لوبان.
هناك إجماع على أن ماكرون فشل في أداء مهمته رئيساً للدولة
أجرى ماكرون مشاورات سياسية دامت شهرين للبحث عن رئيس وزراء، هي الأطول في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أسّسها الجنرال ديغول بعدما عاد إلى الحكم عام 1958. وظهر أن هناك أكثر من عقدة يتوجب على رئيس الدولة حلّها كي يصل إلى الشخص المثالي. وما إن يفك عقدة حتى تبرز أخرى جديدة أكثر صعوبة وتشعباً، فيرجع إلى نقطة الصفر، وهو بذلك طرح مجموعة من أسماء المرشحين، الذين احترقوا الواحد تلو الآخر. واللافت أنه قبل أن يستقر على ميشال بارنييه أول من أمس الخميس، فإن قرابة سبعة مرشحين فشلوا في نيل الحد الأدنى من الإجماع، الذي يؤهل أحدهم لتولي المهمة الصعبة، بالإضافة إلى أسماء أخرى لم يجرَ تداولها، استشارها الرئيس في الخفاء، لكن الجميع اعتذر عن قيادة السفينة وسط بحر هائج.
تقضي الأعراف السياسية في فرنسا بأن يكلّف رئيس الدولة الكتلة البرلمانية التي حصلت على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية بترشيح رئيس للوزراء، يتولى تشكيل الحكومة وتقديمها إلى البرلمان من أجل نيل الثقة. وفي حال حصول حزب أو ائتلاف على الأغلبية المطلقة، وهي 289 من أصل 577 نائباً يشكلون البرلمان، فإن العملية تمر بسلاسة. وإذا تعذر توفر الأغلبية المطلقة، يُنتقَل إلى سقف أدنى وهو ما يعرف بأغلبية نسبية، أي الكتلة التي حلت في الصدارة، والتي يتحتم عليها تشكيل حكومة بالاتفاق مع كتل أخرى، بحيث تجتاز امتحان منح الثقة.
لم تحصل كتلة واحدة في الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت (دورتها الثانية) في يوليو الماضي على الأغلبية المطلقة، ولذلك كان يتوجب على ماكرون اعتماد خيار الأغلبية النسبية، وتكليف "الجبهة الشعبية الجديدة" (حصلت على 182 مقعداً) بتشكيل الحكومة، ولكنه رفض مرشحة الجبهة لوسي كاستيه (تداولت الجبهة أسماء أخرى قبل كاستيه، ومن بينها هوغيت بيلو ولورانس توبيانا).
مبرّرات الرفض هي أنه لا يريد تكليف حكومة يشارك فيها حزب فرنسا الأبية بقيادة مرشح الرئاسة السابق جان لوك ميلانشون، رغم أنه تنازل عن حقّ حزبه برئاسة الحكومة باعتباره يحوز أكبر نسبة من النواب في كتلة الجبهة الشعبية الجديدة، وفتح الباب أمام احتمال تكليف حزب آخر من أحزاب الجبهة، والهدف هو تسهيل المهمة.
تبيّن من مجريات المداولات أن مبررات ماكرون واهية من الناحية السياسية، وأن هناك سببين لعدم تكليف مرشح الجبهة الشعبية الجديدة. الأول هو أنه لا يريد أن يتعايش مع رئيس وزراء من اليسار يحمل برنامجاً للحكم يختلف كلياً عن برنامجه الاقتصادي الأقرب إلى اليمين ورجال المال والأعمال. والسبب الثاني أنه يعمل على تشكيل أغلبية من حول حزبه النهضة، واتّبع بذلك نفس التكتيك التي استخدمه في الولاية الأولى باستمالة شخصيات مستقلة وحزبية من اليمين واليسار لتشكيل تياره الخاص، وهو بذلك يحقق هدفين، تفكيك حزبي اليمين واليسار التقليديين، وبناء تياره الخاص، وبذلك يجعل الحياة السياسية تدور حوله شخصياً.
أجّل ماكرون تشكيل الحكومة إلى ما بعد نهاية الألعاب الأولمبية التي استضافتها فرنسا وبدأت في 26 يوليو، ولكنه طيلة هذا الوقت كان يجسّ نبض القوى السياسية، ويدرس مسألة بناء تيار جديد من حوله، وعندما انتهى الشطر الأول من الحدث الرياضي في 12 أغسطس/آب الماضي، سافر ماكرون في إجازة شخصية، ولم يفتح باب قصر الإليزيه للمشاورات بالطريقة التقليدية المعتادة إلا قبل أسبوع من نهاية أغسطس، حيث باشر استقبال ممثلي الكتل البرلمانية بالتدريج، من أجل الاستماع إلى تصوراتهم حول المستقبل، ومرشح كل كتلة لرئاسة الحكومة، ودامت هذه العملية قرابة أسبوع ولكنها لم تؤد إلى نتيجة.
واللافت هو الإجماع على عدم جدّية الرئيس في البحث عن مخرج من حال الاستعصاء، بسبب وجود كتل برلمانية متنافرة عدة لا تلتقي عند حد أدنى من التفاهم. ولم ينفرد بهذا الانطباع طرف دون آخر، بل تشاركته الكتل المعارضة في اليمين المتطرف واليسار واليمين التقليدي. ومن المفارقات التي كشفت عنها الكتل النيابية أن الرئيس، بموازاة المشاورات الرسمية، كان يمارس اتصالات جانبية لاستمالة أعضاء منها لضمّهم إلى فريقه الخاص من أجل تعزيز كتلته البرلمانية.
يلعب ماكرون على تقسيم الكتل السياسية الكبرى. أجرى اتصالات بالاشتراكيين والخضر من الجبهة الشعبية الجديدة من أجل استبعاد حزب فرنسا الأبية بزعم أن ميلانشون "معادٍ للسامية"، وبرنامجه غير قابل للتطبيق، وهدفه من ذلك ضمّ النواب الشيوعيين والخضر إلى معسكره النيابي، الذي لا يمتلك أكثرية نيابية، وهو بذلك يتقرب أكثر من اليمين المتطرف، الذي يطمح إلى نيل ثقته من دون التورط بالتعامل معه صراحة، كونه قوة سياسية موصوفة بالعنصرية ومعاداة الأجانب.
لا يريد ماكرون التعايش مع رئيس وزراء من اليسار يحمل برنامجاً للحكم يختلف كلياً عن برنامجه الاقتصادي الأقرب إلى اليمين
وحاول ماكرون أن يستميل كتلة حزب الجمهوريين من دون أن يدخل معها في التزام شراكة سياسية، كي يستخدمها من أجل سدّ النقص النيابي فقط، وهو ما رفضه زعيم الكتلة لوران فوكيه، الذي يطمح لرئاسة الحكومة رغم أن كتلته النيابية تعد الرابعة من حيث العدد.
خيار الانتخابات الرئاسية المبكرة
ورغم أن ماكرون بقي بعيداً عن فتح قناة علنية مع اليمين المتطرف، فإن حالة الصد التي واجهها من اليسار واليمين التقليديين جعلته يمد بعض الخيوط باتجاه حزب مارين لوبان، الذي يراقب المشهد وعينه على الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027، بعد التقدم الذي حقّقه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية والتشريعية (المبكرة) الفرنسية هذا العام، وهو يراهن على أن الأزمة السياسية الراهنة سوف تعمّق الانقسام بين القوى السياسية كافة، وستضعفها، وهذا يصب في صالح اليمين المتطرف، الذي يتقدم بسرعة من استحقاق انتخابي إلى آخر، وحان الوقت برأيه كي تصل لوبان إلى الإليزيه.
هناك إجماع على أن ماكرون فشل في أداء مهمته رئيساً للدولة، وأخطر ما في الأمر أنه فَقَد ثقة مختلف الأطراف السياسية في اليسار واليمين والوسط. وتبيّن من خلال الاستشارات السياسية التي أجراها في الأسبوعين الماضيين أن لا أحد من الكتل السياسية الكبرى يمنحه ثقة كافية، ويعتبرونه غير جاد في مشاوراته لاختيار رئيس حكومة للخروج من الأزمة، بل إنه يريد رئيس حكومة وفق مواصفاته هو، ولذلك ماطل من أجل تقسيم وحدة الأحزاب وكسب بعض الكتل إلى طرفه، ولذلك استشار شخصيات ذات ماضٍ اشتراكي مثل الوزير السابق برنار كازنوف، أو من اليمين التقليدي مثل الوزير السابق كزافييه برتران، وكلاهما لا يحظى بتأييد كتلة حزبية، لكن يمكن له أن يستميل بعض النواب المحسوبين على التيار العام الذي ينتمي إليه. وأقلع ماكرون عن هذين الاسمين بعد ردود الفعل غير المرحبة بهما التي تلقاها من الاتجاهات السياسية كافة. ثم طرح اسم ميشال بارنييه الذي لقي ردود فعل سلبية حوله من كتلتي الجبهة الشعبية الجديدة وحزب التجمع الوطني.
ينتمي ميشال بارنييه لليمين التقليدي، ولكنه بعيد عن العمل الحكومي منذ زمن طويل، حيث كان وزير خارجية في فترة شيراك ثم مفوضاً أوروبياً، برز على نحو كبير خلال مفاوضات بريكست لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وترشح للرئاسة عام 2022، لكن لم يفز بتزكية حزب الجمهوريين. ويبقى الامتحان أمام ميشال بارنييه نيل حكومته الثقة في البرلمان.
حيال كل هذه التعقيدات، هل يهرب ماكرون إلى الأمام ويلجأ إلى الاستقالة، ويفتح الباب أمام انتخابات رئاسية مبكرة، في حال لم تنل حكومة بارنييه الثقة؟ صار هذا السؤال يتردد على ألسنة إعلاميين وسياسيين. ويرى البعض فيه مخرجاً عملياً من حال الانسداد السياسي الذي يواجهه البلد، ليس فقط بسبب وجوده على رأس الهرم، وعدم محاولته لعب دور التوفيق بين الأطراف السياسية، بل لكونه المتسبب بالأزمة، والذي يدفع بها نحو طريق مسدود. ويرى بعض آخر أن ماكرون جرّب طريق حلّ البرلمان، وأجرى انتخابات تشريعية مبكرة، من أجل معالجة حال الشلل الذي كانت تعيشه ولايته الثانية التي بدأت في مايو/أيار 2022، ولكنه لم ينجح في مسعاه، وكانت النتيجة أن الانقسام البرلماني تعمّق أكثر، وتضخمت الأزمة أكثر مما كانت عليه. وعليه الآن أن يجرب الورقة الأخيرة وهي خيار الاستقالة، والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، فربما يأتي رئيس دولة آخر يتمكن من فتح صفحة جديدة مع القوى السياسية المختلفة تتيح له قيادة السفينة التي تتخبط في بحر مضطرب.