فرنسا في الساحل الأفريقي: انسحاب تكتيكي أم إعادة تمركز؟

04 مارس 2022
يتخلى الأفارقة عن لغة الخوف ويطالبون برحيل فرنسا (فرانس برس)
+ الخط -

ينشغل العالم بالحرب في أوكرانيا، لكن رمال منطقة الساحل الأفريقي ما زالت تتحرك أيضاً على محور مالي والنيجر، وفرنسا والجزائر. فباريس تسحب قواتها ببطء شديد من مالي، لإعادة التمركز في الدولة الجارة النيجر، بانتظار تغير معطيات سياسية في المنطقة، بما قد يساعدها على إعادة الانتشار في المستقبل. ويأتي ذلك على الرغم من استمرار تصاعد الرفض الشعبي والسياسي للتواجد العسكري الفرنسي في مالي.

خطة فرنسية بديلة لإعادة الانتشار في الساحل

قبل أيام، أعلن رئيس أركان الجيوش الفرنسية تيري بورخار، في حوار مع قناة "فرانس 24"، أن لفرنسا خطة بديلة جاهزة للتنفيذ للتمركز في منطقة الساحل، بعد خروج قواتها المشاركة في عملية "برخان" من مالي، وانسحاب بعض من قواتها المتواجدة في دول الساحل الأفريقي في إطار محاربة الإرهاب، إذ يعاد تجميعها وتمركزها في النيجر.

فترة الستة أشهر للانسحاب من مالي، لا تتعلق بمسألة لوجستية بل هي محاولة لكسب الوقت

ولم يكشف المسؤول العسكري الفرنسي عن تفاصيل هذه الخطة، لكن تصريحه يحمل إشارات واضحة إلى رغبة فرنسية في الاستمرار في التواجد والحفاظ على حضورها العسكري في دول الساحل، كالنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، ورفض التخلي عن سياستها في القارة الأفريقية، في إطار ما تعتبره محاربة الجماعات الإرهابية.

غير أن ما يطرح تفسيرات سياسية، هو تأكيد بورخار أن الخروج العسكري الفرنسي من مالي سيتم خلال ستة أشهر، على الرغم من مطالبة السلطات المالية أو القيادة العسكرية الجديدة في هذا البلد بخروج سريع للقوات الفرنسية والأوروبية العاملة ضمن عملية "تاكوبا". وتترافق هذه المطالبة مع خروج الماليين للتظاهر في الشارع ضد التواجد الفرنسي في بلادهم.

حسابات لإبطاء الانسحاب من مالي

بالنسبة لباريس، فإن فترة ستة أشهر للانسحاب، لا تتعلق بمسألة لوجستية لإخراج قواتها من مالي، خصوصاً أن مجموع قواتها ومعداتها ومناطق تمركزها، لا تحتاج كل هذه الفترة الزمنية الطويلة.

ولكنها وفق ما يقول محللون سياسيون، قد تكون محاولة لصرف الوقت وربح فترة من الزمن تعمل خلالها باريس وحلفاؤها في مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس)، على تغيير المعطيات في مالي أو افتعال حركة مناوئة للسلطة الانتقالية في باماكو، أو ترقب حركة انقلابية جديدة في مالي ودول الساحل كبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى.

وبحسب هذه القراءة، فإن هذا ما يدفع باريس إلى إبقاء القوات في مالي لبعض الوقت، والتذرع بالدواعي اللوجستية للانسحاب وتفكيك القواعد العسكرية من جهة، ونقل القوات المنسحبة من مالي ليس باتجاه فرنسا، ولكن باتجاه النيجر القريبة من مالي، من جهة أخرى.

وبغض النظر عن هذه الحسابات، فإن نجاح باريس في إقناع حكومة النيجر باستقبال القوات الفرنسية وإعلان رئيسها محمد بازوم احتضان بلاده للقوات المنسحبة من مالي، يصب أيضاً في خانة البقاء على مقربة من المصالح الفرنسية.

وتسيطر فرنسا على مناجم اليورانيوم في النيجر والتي تديرها شركة "أريفا" الفرنسية، ويتم تحويل اليورانيوم لتشغيل المفاعلات النووية الفرنسية لتوليد الطاقة والكهرباء وأغراض أخرى. وهو ما يدفع عدداً من المراقبين لتطورات الموقف السياسي في منطقة الساحل والتحركات الفرنسية، إلى التأكيد أن باريس ليس في نيّتها ولم تتخذ أي قرار بالانسحاب من منطقة الساحل، كمنطقة حيوية بالنسبة لمصالحها.

ويرى هؤلاء أنه من المبكر الحديث عن انسحاب بالمفهوم الاستراتيجي، حتى وإن كانت باريس قد بدأت فعلياً بعض الانسحاب التكتيكي من مالي وبوركينا فاسو، والتي تصب في خانة تهدئة الشارع الغاضب من باريس في هذه الدول، والاستجابة لبعض المطالب والضغوط السياسية في إقليم منطقة الساحل على باريس.

وجود فرنسي غير مرحّب به

وزاد من وقع هذه الضغوط تفجر خلافات سياسية حادة بين فرنسا والجزائر، والتي بدأت تعيد تمركزها السياسي في المنطقة وتدعم الحشد الإقليمي ضد التواجد الفرنسي، خصوصاً بسبب استحقاقات الأمن القومي للجزائر بسبب وجودها المباشر على حدود متاخمة لمنطقة الساحل.

التقديرات الجزائرية الرسمية والسياسية التي ترصد تطورات الموقف في مالي والساحل، تعتبر أن باريس ما زالت تبحث عن مقاربة جديدة تضمن لها الاستمرار في المنطقة.

وفي هذا الإطار، يرى المدير العام للمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة في الجزائر (هيئة تتبع الرئاسة)، اللواء المتقاعد عبد العزيز مجاهد، في محاضرة قدمها يوم الأربعاء الماضي في مؤتمر حول "الإرهاب منطقة الساحل" في العاصمة الجزائرية، أن "التواجد الفرنسي في القارة بات غير مرحب به، ونعتبر أن التغييرات غير الدستورية أو الانقلابات العسكرية التي يعيشها عدد من دول القارة في الفترة الأخيرة، هي بإيعاز وإسناد من شعوب المنطقة".

التقديرات الجزائرية هي أن باريس ما زالت تبحث عن مقاربة جديدة تضمن لها الاستمرار في المنطقة

ويضيف مجاهد أن "هذا يعكس تنامي ظاهرة الوعي لدى الأفارقة الذين باتوا يرفعون شعارات خالية من لغة الخوف ويطالبون برحيل فرنسا من المنطقة". وبرأيه، فإن "فرنسا لا تزال تبحث عن مبررات جديدة لتبرير تواجدها العسكري في الساحل، بينما بات واضحاً ومعلوماً للجميع أن المشاكل التي تعاني منها مالي، وكل دول الساحل، سواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، لا يمكن حلّها بالمقاربة العسكرية".

من جهته، يعتبر الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة جنوبي الجزائر، مبرك كاهي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "كل المعطيات تؤكد أنه لا يوجد انسحاب فرنسي من مالي والساحل، بخلاف ذلك يمكننا الحديث عن إعادة انتشار".

ويضيف كاهي أن "باريس تعتبر أن ترك فراغ هو خطأ استراتيجي وقاتل، خصوصاً في ظل وجود قوى بديلة خفية غير ظاهرية لكنها موجودة كالتنظيمات المسلحة أو الحركات الانفصالية". ويلفت إلى أنه لهذا السبب، فإن فرنسا "تقوم في الوقت الحالي بنقل قواتها إلى النيجر باعتبارها الدولة الأقرب إلى مالي، علماً أن تعداد القوات الفرنسية ليس بالشكل الكبير، وهي لا تتعدى عشرة آلاف جندي، وربما الرقم أقل بكثير".

ويلفت كاهي إلى أن هناك معطيات أخرى تبدو بعيدة جغرافياً على منطقة الساحل، لكنها ذات تأثير على المنطقة بسبب الحضور الفرنسي، وهي التغير الحاصل في الظروف الدولية، معتبراً أن النزاع في شرق أوروبا سوف يلقي بظلاله على غربها، خصوصاً إذا استمر طويلاً.

ويرى أن "فرنسا تفكر الآن في مئات آلاف اللاجئين الأوكرانيين الذين سيغزون حدود ألمانيا وفرنسا وكيفية التكفل بهم إن طال أمد الحرب، وهذا ما يعني أنه يتعيّن على فرنسا التفرغ له، عبر حل أزمات الساحل بشكل سريع بحيث لا خيار آخر سوى إنهاء أزمة الساحل، عبر تقديم ضمانات للسلطة الانتقالية في مالي وبوركينا فاسو وحتى غينيا".