غرور الديكتاتور المخلوع

غرور الديكتاتور المخلوع

27 ديسمبر 2022
البشير في جلسة لمحاكمته، يناير الماضي (محمود حجاج/الأناضول)
+ الخط -

الثلاثاء الماضي، حوّل الرئيس المعزول عمر البشير جلسة استجوابه في محكمة مدبري انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989، إلى منبر خطابي لا ينقصه سوى موسيقى الختام التي كان يرقص معها حماسة في مسلسل العبث الممتد لثلاثين عاماً.

لم يكن أمام البشير فرصة للهروب من الاعتراف بقيادته ذلك الانقلاب العسكري، لأن كل السودانيين شاهدوا الضابط المغمور، يومئذ، يخرج عليهم ببيانه الأول يعلن فيه سيطرته على السلطة تحت جنح ظلام الثلاثين من يونيو.

لذا لا يمكن تصنيف اعتراف البشير أمام القاضي في أي ضرب من ضروب الشجاعة والإقدام، خصوصاً أن الرجل أردف اعترافه بكذبة صريحة قصد بها تضليل العدالة، حينما برأ رفقاءه العسكريين والمدنيين المتهمين من المشاركة في الانقلاب، ذلك لأن البشير وفي أحاديث موثقة كشف الكثير من أسرار التخطيط والتنفيذ وبيّن دور المدنيين من قيادات حزب الجبهة الإسلامية، وأشهرها حديثه عن أنه نفذ الانقلاب بأوامر من الجبهة الإسلامية بقيادة الترابي التي اخترقت الجيش.

وبعيداً عن تلك المغالطات والعنتريات، ذهب البشير أثناء الجلسة إلى إحصاء إنجازاته "الضخمة" مثل بناء الطرق والجسور والجامعات، واستخراج البترول...الخ، والأمانة تقتضي القول إن بعضها ثابت وغير منكر.

لكن ظننت، كما ظن آخرون، أن الرئيس المعزول بأمر ثورة شعبية، وبعد مكوثه لأكثر من 3 سنوات خلف القضبان، بات قادراً على مراجعة تجربته كلها بعيداً عن العواطف وجوقة المطبلين حتى يقر بحجم الكوارث التي لم تحدث إلا في عهده المشؤوم، ومنها انفصال جنوب السودان وفتح الطريق أمام تفتت البلاد لدويلات، وضعف الدولة في عهده ما سمح باحتلال حلايب من قبل مصر، واحتلال الفشقة من قبل إثيوبيا، ووصول المتمردين إلى مدن ومناطق لم يصلوا لها طوال تاريخ السودان مثل أم درمان وكسلا وجوبا ودارفور.

عن أي شجاعة يتحدث أنصار البشير الذين احتفوا بها، والرجل والغ في إضعاف الجيش السوداني وتدجينه وتصفيته لصالح الموالين، كما أنه أنشأ ودعم المليشيات المسلحة، ومنها قوات الدعم السريع التي تحولت إلى قوات موازية ومستقلة بعقيدتها العسكرية وعلاقاتها الخارجية واستثماراتها الضخمة، حتى أصبحت دولة داخل دولة.

الصراحة كانت تلزم البشير بالاعتراف بالمسؤولية عن مقتل مئات الآلاف في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، عدا أولئك الذين قُتلوا في التظاهرات السلمية، أو تحت التعذيب في المعتقلات وبيوت الأشباح سيئة الذكر.

اقتصادياً، لو تمتلكه الشجاعة الحقة لأقر بتدمير مشروع الجزيرة، أكبر المشاريع الزراعية في العالم، وتدمير سكة الحديد والخطوط الجوية والخطوط البحرية، والخدمة المدنية بفصله أكثر من 50 ألف موظف لأنهم غير موالين لنظامه الجديد فحسب، والحديث يطول ويطول عن مخازي نظام البشير.

مشكلة البشير هي مشكلة الحركة الإسلامية جمعاء التي يمنعها الكبرياء والغرور عن مراجعة تجربتها الظلامية في الحكم، ويدفعها بإصرار شديد إلى تكرارها ولو على فقر السودانيين وقهرهم وجثثهم.