عودة قطاع الأعمال في إسرائيل إلى تأدية دور سياسي لتغيير موازين القوى

27 يونيو 2024
تظاهرة ضد التعديلات القضائية، تل أبيب 24 يناير 2023 (جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- كبار رجال الأعمال وأصحاب الشركات في إسرائيل، خاصة من قطاع التقنيات الحديثة، يخططون لدخول المعترك السياسي بسبب الإحباط من الحكومة الحالية واستكشاف خيارات للتأثير على السياسة، بما في ذلك إمكانية إنشاء حزب جديد أو دعم أحزاب قائمة.
- قطاع الأعمال في إسرائيل لعب دوراً بارزاً في التأثير على السياسة خلال التسعينيات، خاصة خلال فترة مفاوضات السلام واتفاقية أوسلو، لكن دوره تراجع بعد ذلك مع التركيز على السياسات الاقتصادية الليبرالية.
- في السنوات الأخيرة، بدأ قطاع الأعمال يعود للعب دور أكبر في المشهد السياسي الإسرائيلي، خاصة بعد الخطة الحكومية لتقييد القضاء والأزمات الاقتصادية المتزايدة، مشاركين في حملات الاحتجاج وإعلان الإضراب العام.

نشرت صحيفة ذي ماركر الاقتصادية يوم 23 يونيو/حزيران الحالي، استناداً إلى وكالة بلومبيرغ الأميركية الإخبارية، أن مجموعة كبيرة من كبار رجال قطاع الأعمال في إسرائيل وأصحاب الشركات العملاقة، خصوصاً من قطاع التقنيات الحديثة، يخططون لخوض المعترك السياسي في إسرائيل، بسبب شعورهم بالإحباط من الحكومة الحالية. ويُجري هؤلاء استشارات ومناقشات سرية، وإن كانت أولية، لفحص خيارات مختلفة، بما في ذلك إنشاء حزب جديد، أو دعم أحد الأحزاب في المنظومة الحزبية في إسرائيل. جاءت هذه المداولات في الوقت الذي دعا فيه منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يشارك فيه أعضاء من أكبر 200 شركة إسرائيلية، إلى إجراء انتخابات مبكرة "لإنقاذ إسرائيل من أزمة اقتصادية عميقة". يمكن القول إن هذا المشهد ومحاولة أباطرة المال ورجال قطاع الأعمال في إسرائيل التنظم للتأثير على المشهد السياسي، جديد في الحالة الإسرائيلية في العقدين الأخيرين، بعد أن تراجع حضور ومكانة قطاع الأعمال سياسياً إلى حد كبير، مقارنة بدورهم في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

 


برز تدخّل كبار رجال الأعمال في السياسة الإسرائيلية بشكل خاص بداية تسعينيات القرن الماضي مع مفاوضات السلام واتفاق أوسلو

تجربة دعم اتفاقية أوسلو

برز تدخّل قطاع الأعمال في إسرائيل وكبار رجال الأعمال في السياسة الإسرائيلية بشكل خاص بداية تسعينيات القرن الماضي، فترة مفاوضات السلام واتفاق أوسلو. فقد ترافقت مفاوضات السلام برغبة إسرائيل الاندماج بالاقتصاد العالمي-العولمة وتغيير النظام والسياسات الاقتصادية. وشكّل السلام واندماج إسرائيل في الاقتصاد العالمي فرصة لإنتاج أرباح اقتصادية واجتماعية وسياسية، مستقبلية لبعض المجموعات في إسرائيل. قطاع الأعمال في إسرائيل والنخب الاقتصادية رأيا أنّ في وسع عملية السلام والاندماج بالعولمة، أن يوفرا لإسرائيل شرعية إقليمية وعالمية، ويسهّلان انضمام إسرائيل للاقتصاد العالمي، وفتح أسواق جديدة، وتحقيق أرباح اقتصادية. قسم من قطاع الأعمال في إسرائيل كان على قناعة أنه بدون استقرار سياسي أمني، وبدون حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لن يتمكّن الاقتصاد الإسرائيلي من اللحاق بالعولمة الاقتصادية والنمو. هنا كانت حاجة لتدخّل القطاع الخاص والفعاليات الاقتصادية لدى أصحاب القرار بهدف تغيير السياسة والتعامل الإسرائيلي في موضوع الصراع مع الفلسطينيين.

حينها كان لرجال الأعمال وقطاع الأعمال في إسرائيل دور جدي في التحوّل السياسي الذي حصل، ودعم حزب العمل ومرشحه إسحاق رابين في انتخابات 1992، وفوزه على حزب الليكود. برز من رجال الأعمال الذين قاموا بدور فعال حينها، بني غاؤون مدير عام شركة كور التي كانت من كبريات الشركات في إسرائيل حينها، ودوف لاوطمن رئيس اتحاد أرباب الصناعة، وإيلي هوروفيتس مدير شركة طيفع للأدوية، وهي أيضاً من أكبر الشركات الإسرائيلية. مجتمع الأعمال تبنّى بمعظمه عملية السلام وأبدى استعداده للتدخّل والتأثير على متخذ القرار وعلى المجتمع في سبيل تحقيق ذلك. وفعلاً تحوّلت هذه المجموعة إلى مجموعة ضغط تعمل بشكل جماعي، بهدف تغيير السياسة العامة بما يضمن مصالح الاقتصاد الإسرائيلي الكلي ويضمن النمو والتطور، والمصالح الخاصة، أي تحقيق أهداف قطاع الأعمال في إسرائيل والمجتمع ككل.

الاكتفاء بالمصالح الاقتصادية

نجاح تجربة التسعينيات وعمل الشركات الكبيرة في دعم عملية التفاوض والسلام لإنقاذ الاقتصاد في تلك الفترة، لم يتحوّل إلى حالة ثابتة في المشهد السياسي الإسرائيلي، بل اقتصر على محاولة دفع الحكومة للدخول في مفاوضات ودعم العملية التفاوضية. مع العلم أن عملية السلام تعثّرت بعد ذلك بسبب اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي إسحاق رابين. لكن انضمام إسرائيل للاقتصاد العالمي استمر وتوسع بدون الحاجة إلى التوصل لاتفاق سلام مع الفلسطينيين. واتضح لقطاع الأعمال أن عملية المفاوضات وحدها تكفي لتحقيق الاندماج في الاقتصاد العالمي بدون إنهاء الاحتلال، بشرط تغيير السياسات الاقتصادية ومبنى الاقتصاد الإسرائيلي وتبني اقتصاد السوق الحر، كما حصل فعلاً منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. مفاوضات السلام كانت شرطاً كافياً لضمان اندماج إسرائيل في الأسواق العالمية وبناء علاقات اقتصادية جديدة ورسمية مع دول كبرى مثل الصين والهند، والعديد من دول أميركا الجنوبية، بل وحتى عدد لا بأس به من الدول العربية.


اتضح لقطاع الأعمال أن عملية المفاوضات وحدها تكفي لتحقيق الاندماج في الاقتصاد العالمي بدون إنهاء الاحتلال

منذ بداية الألفية الثالثة، واستناداً إلى تصرف وتصريحات رجال قطاع الأعمال في إسرائيل والمؤتمرات الاقتصادية، اتضح أن أهداف رجال الصناعة والأعمال من التأثير على السياسة باتت تصبّ، بالأساس، في الحفاظ على السياسات الاقتصادية الليبرالية وتعميقها، وفي تحقيق مصالح اقتصادية عينية لرجال الأعمال وأباطرة المال الإسرائيليين، بدون التدخّل في الشأن السياسي الأوسع. هذا لا يلغي طبعاً إصدار مواقف تدعم وتشجع العودة إلى العملية التفاوضية، لكن هذا الجانب لم يعد الأهم أو الأبرز في محاولة التأثير السياسي لقطاع الأعمال والمال أو "مجتمع الأعمال". يمكن تفسير هذا التحوّل، بنجاح إسرائيل في دخول النادي الاقتصادي العالمي، والتغيرات في بنى الاقتصاد الإسرائيلي الذي بات يعتمد على فروع التقنيات الحديثة التي تُصدّر للدول الغربية بالأساس ومتعلقة بالأسواق العالمية وبالاستثمارات الخارجية، خصوصاً الأميركية، وفك الارتباط بين الاندماج في الأسواق العالمية وعملية السلام، والتحوّل في القناعات السياسية والمواقف في المجتمع الإسرائيلي ومتخذي القرار بعد الانتفاضة الثانية (2000-2005)، وتبنّي مقولة إيهود باراك (رئيس الحكومة بين 1999 و2001) بأنه لا يوجد شريك فلسطيني لعملية السلام. نتيجة كل ذلك حصل تراجع في اهتمام وتدخّل النخب الاقتصادية وقطاع الأعمال في التأثير على السياسات الخارجية والأمنية منذ بداية الألفية الحالية، وبشكل أوضح منذ عودة بنيامين نتنياهو للحكم عام 2009، وبات جلّ اهتمامهم ينحصر في القضايا الاقتصادية.

 


برزت بدايات عودة النخب الاقتصادية للعب دور في المشهد السياسي في إسرائيل، بعد طرح الخطة الحكومية لتقييد القضاء

بوادر عودة قطاع الأعمال في إسرائيل لحقل السياسة

هذا الحال تغيّر في العامين الأخيرين، بداية بعد طرح الخطة الحكومية لتقييد القضاء، وبشكل أشد بعد حرب الإبادة على غزة وتراجع مكانة إسرائيل الدولية، وبداية أزمات اقتصادية وبوادر مقاطعة اقتصادية قد تشكّل ضربة كبيرة لقطاع الأعمال. في العام الماضي برزت بدايات عودة قطاع الأعمال في إسرائيل والنخب الاقتصادية للعب دور في المشهد السياسي في إسرائيل، بعد طرح الخطة الحكومية لتقييد القضاء، والتي ترمي، في ما ترمي، إلى استكمال مشروع اليمين الديني الاستيطاني، وسيطرة معسكر اليمين على مراكز صنع القرار والسياسات في إسرائيل، وترويض السلطة القضائية ومنع الرقابة، وضمان سلطة قضائية محافظة لا تتدخّل في عملية التشريع ولا تنتقد سياسات الحكومة. أدت الخطة الحكومية إلى حملة احتجاجات واسعة في المجتمع الإسرائيلي من قِبل المعارضين، وبالأساس لدى النخب التقليدية الأشكنازية، والطبقات الاقتصادية التي ترى أن الخطة ستغيّر طبيعة النظام القائم وهوية إسرائيل، وستلحق ضرراً اقتصادياً بمكانة إسرائيل دولياً.

على أثر هذه المخاطر انتظمت عدة مجموعات اقتصادية، من عدة قطاعات، وشاركت في حملة الاحتجاجات. وبرز في هذه الاحتجاج الدور الرائد لقطاع التقنيات الحديثة الذي بدأ بحملة احتجاج خاصة به عنوانها "الخطة القضائية تضر بالهايتك" وأنه "بدون ديمقراطية لا يوجد هايتك"، وعمل على تجنيد موارد مالية لتمويل الاحتجاجات وسمح للموظفين بالمشاركة في التظاهرات الاحتجاجية ضمن أيام العمل، ونشر معطيات مقلقة حول تأثير الخطة على هذا القطاع، وأبدت العديد من الشركات نياتها لنقل الشركات إلى خارج إسرائيل. كذلك قامت مجموعة كبيرة من رجال الأعمال الأعضاء في ما يعرف باسم "إطار رؤساء الشركات وقيادات الاقتصاد"، بالتنظم لمعارضة الخطة القضائية، وأعلنت الإضراب العام مع نقابة العمال العامة ضد سنّ قانون إلغاء حجة المعقولية في يوليو/تموز 2023، وكانت هذه أول مرة يشارك فيها القطاع الخاص بإضراب عام أعلنت عنه نقابة العمال العامة (الهستدروت) شمل كافة المرافق الاقتصادية والخدماتية. كانت هذه الخطوات بدايات عودة قطاع الأعمال والنخب الاقتصادية للعب دور في القضايا السياسية العامة والمشتعلة في إسرائيل، بعد أن تراجع عن هذا الدور في العقدين الأخيرين، واكتفى بمحاولات التأثير في الجوانب الاقتصادية. المنطلقات الأساسية لقطاع الأعمال كانت منطلقات الربح والخسارة الاقتصادية، ولكن لا يمكن تجاهل اهتمامه بالحفاظ على النظام المعرف كدولة "يهودية وديمقراطية". فالنخب الاقتصادية وعلى الرغم من أنها تحمل مشروعاً اقتصادياً ليبرالياً ومندمجة بالاقتصاد العالمي، إلا أنها ما زالت تحمل المشروع القومي الصهيوني، وهي داعمة لثقافة النواة والقيم الأساسية التي تعرّف دولة إسرائيل، ويهودية الدولة، ومركزية الأمن والشعور بالتهديد الأمني الدائم. بسبب ذلك بدأت تحركات قطاع الأعمال بهدف التأثير على صناعة القرار والسياسات العامة، وليس فقط في المجال الاقتصادي.

تقديم الانتخابات وإسقاط نتنياهو ... أهداف قطاع الأعمال

بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب على غزة، تجنّد قطاع الأعمال وكبريات الشركات لدعم المجهود الحربي، ودعم النازحين من بلدات الجنوب والشمال. أخيراً، وبعد تعثّر الحرب على غزة وفشل كل المحاولات للتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى ومخطوفين بين إسرائيل وحركة حماس، وتزايد الثمن الاقتصادي، من ضمنه زيادة العجز المالي للحكومة وارتفاع التضخم المالي، وتراجع مكانة إسرائيل الاقتصادية عالمياً، يحاول قطاع الأعمال في إسرائيل العودة للعب دور سياسي أكبر وأوضح في الساحة السياسية. هذا تصرف شبيه بالدور الذي قام به قطاع الأعمال بداية تسعينيات القرن الماضي، بحيث يعلن الآن أن هدفه هو تقديم الانتخابات وإسقاط نتنياهو.


قطاع الأعمال يرى أن نتنياهو بات عائقاً أمام تحقيق أهداف إسرائيل، ويضر مصالح الدولة الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية

قطاع الأعمال يرى أن نتنياهو بات عائقاً أمام تحقيق أهداف إسرائيل، ويضر مصالح الدولة الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية، ويؤثر سلباً على قطاع الأعمال. يضاف إلى ذلك أن عدداً من أباطرة الأعمال والمال الإسرائيلي، فقدوا أقارب لهم في هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر وفي الحرب على غزة، أبرزهم ايال فالدمن مؤسس شركة "مالينوكس" للتقنيات الحديثة الذي فقد ابنته في 7 أكتوبر، والوزير السابق يزهار شاي الذي فقد ابنه في الحرب على غزة. كما أن هناك شخصيات إضافية بارزة في مشهد الأعمال الإسرائيلي، مثل حامي بيريز ابن الرئيس الأسبق شمعون بيريز، الذي يملك واحدة من أكبر شركات الاستثمار في الشركات الناشئة، وغيرهم. يمكن القول إن دخول هؤلاء إلى مشهد العمل السياسي والحزبي، عن طريق إقامة حزب جديد أو دعم حزب قائم، لن يؤدي بالضرورة إلى حسم الصراع السياسي في إسرائيل، لكن لا يمكن إلغاء احتمال أن يساهم في زيادة الضغط على الحكومة الحالية وتعزيز حركات الاحتجاج، والضغط على الحكومة الإسرائيلية في الساحة الدولية، وقد يساهم في تغيير موازين القوى السياسية في إسرائيل.