تضغط التطورات الميدانية للحرب الروسية في جنوب أوكرانيا وشرقها، والأوضاع في كل من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باتجاه فتح قنوات مفاوضات لتهدئة ما، تمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، بعد أكثر من ثمانية أشهر ونصف الشهر من الحرب الروسية على أوكرانيا.
وعلى الرغم من أن المواقف المعلنة لا تبشر بقرب التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين الروسي والأوكراني، فقد برزت مؤشرات متزايدة إلى إمكانية تجميد الصراع في أوكرانيا، ومحاولة جسّ النبض لفتح مفاوضات تفضّل روسيا أن تكون مع الولايات المتحدة ضمن صفقة شاملة، لا تقتصر على أوكرانيا بل تطاول ملفات التوازن الاستراتيجي وتمديد اتفاقية "ستارت 3" (المتعلقة بالحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لدى البلدين) والعلاقة المستقبلية مع الأطلسي ورفع جزء من العقوبات الغربية على موسكو.
تنازلات أوكرانية
في المقابل، يبدو أن كييف تتجه إلى تقديم بعض التنازلات عن الشروط التي طرحتها سابقاً نتيجة فقدان الهجوم البري الأوكراني زخمه، بعد الاختراقات الكبيرة في الشهرين الماضيين في خاركيف وليمان، ومخاوف أوكرانيا من أن يطول أمد الهجوم لتحرير خيرسون، بسبب عدم وجود يقين بشأن مخططات روسيا في المدينة التي بات الجزء الغربي منها فارغاً وبحكم الساقط استراتيجياً.
وأمر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أمس بانسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى (الغربية) لنهر دنيبر في خيرسون. وقال شويغو على التلفزيون "نفّذوا انسحاب الجنود"، وذلك بعد اقتراح من قِبل قائد العمليات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين الذي أقرّ بأنه ليس قراراً "سهلاً".
وفي غضون ذلك، انتقلت روسيا إلى استهداف البنى التحتية للطاقة والمياه في مختلف المدن الأوكرانية، انتقاماً لاستهداف أوكرانيا مدينة سيفاستوبول، مركز أسطول البحر الأسود الروسي.
وواجه الطرفان الروسي والأوكراني أوضاعاً صعبة في ميدان المعارك في دونيتسك في محور باخموت والمناطق المحيطة بها. ولم يسهم الزج بمرتزقة "فاغنر" وجنود الاحتياط في تحقيق أي تقدم في الأسابيع الأخيرة، لاختراق الدفاعات الأوكرانية المتماسكة منذ بداية الغزو في 24 فبراير/ شباط الماضي في هذه المنطقة. ولم يستطع الأوكرانيون التقدم كثيراً في مقاطعة لوغانسك، استكمالاً للهجوم الذي بدأ قبل نحو شهرين في خاركيف.
تفضّل روسيا أن تكون المفاوضات مع الولايات المتحدة ضمن صفقة شاملة
وفي خيرسون، وعلى الرغم من قرار روسيا سحب قواتها وإجلاء المدنيين وتشكيل خطوط دفاع في الضفة الشرقية لنهر دنيبر، لا يتقدم الجيش الأوكراني وسط مخاوف من أن روسيا أعدت فخاً لهم في المدينة، التي كانت هدفاً للروس منذ اليوم الأول للغزو، نظراً لموقعها الاستراتيجي بالنسبة لشبه جزيرة القرم التي ضمتها بالقوة من أوكرانيا في عام 2014، ولكونها بوابة الانطلاق نحو أوديسا وميكولايف، في جنوب غرب أوكرانيا.
ومع الجمود الميداني، تراهن روسيا على استمرار الضربات بالصواريخ والمسيّرات، تحديداً محطات الطاقة ومخازن الوقود، والتي يمكن أن تؤدي إلى زيادة الضغوط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته على أبواب شتاء أوكرانيا البارد، ما يزيد من التذمر الشعبي، ويؤدي إلى تراجع الروح المعنوية للجيش.
وفي الرهان الروسي أيضاً، زيادة أعداد اللاجئين الأوكرانيين إلى أوروبا مع فقدان الحاجات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، ما يشكل عاملاً ضاغطاً على الحكومات الأوروبية، التي تعاني أصلاً من ارتفاع أسعار الطاقة وبلوغ التضخم أعلى مستويات منذ نحو 40 عاماً.
وربما تراهن روسيا على ممارسة الأوروبيين ضغوطاً إضافية لإجبار زيلينسكي على التفاوض لوقف الحرب. وعلى الرغم من أن القصف الصاروخي واستخدام المسيرات لا يمكن أن يحسم المعركة، إلا أنه يبدو أن الروس ماضون في طلب مزيد من المسيّرات والصواريخ الإيرانية، وهو الموضوع الأهم على الأرجح من زيارة رئيس مجلس الأمن الروسي، أحد صقور الحرب في الكرملين، نيكولاي باتروشيف إلى إيران، أمس الأربعاء.
مع العلم أن استمرار روسيا بقصف البنى التحتية الأوكرانية قد يدفع الغربيين للتفكير جدياً بتزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى لمنع هزيمتها في الحرب. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها زوّدوا أوكرانيا بمنظومات جديدة للدفاع الجوي، يمكن أن تساعد في صد الهجمات الروسية.
مفاوضات واشنطن ـ موسكو
وتعليقاً على تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في نهاية الأسبوع الماضي، ذكرت فيه أن هناك مفاوضات سرية بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جيك سوليفان وباتروشيف ويوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشؤون السياسة الخارجية، نفى المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف هذه الأنباء.
ولكنه أكد في المقابل، أن "الجانب الروسي يظل منفتحاً لتحقيق أهدافه من المفاوضات"، متهماً أوكرانيا بأنها تغلق باب التفاوض. وأضاف: "لفتنا انتباه الجميع أكثر من مرة إلى حقيقة أننا في الوقت الراهن لا نرى مثل هذا الاحتمال (التفاوض)، فقد أُغلق هذا الملف من قبل كييف، وتم سنّ قوانين تؤكد عدم استمرار أي مفاوضات مع الجانب الروسي". أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، فاختصرت التواصل مع الإدارة الأميركية بالقول إنه يحصل "في المناسبات".
روسيا لا تمانع في خوض مفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تجميد الصراع
ومع تعثر عمليتها العسكرية واليقين بأن الضربات الصاروخية لن تحسم الحرب واقتراب الشتاء، من الواضح أن روسيا لا تمانع في خوض مفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تجميد الصراع لفترة الشتاء على الأقل، بانتظار استكمال تدريب جنود الاحتياط وتعويض النقص في الأسلحة والعتاد.
كما تعتقد أن الشتاء يمكن أن يحمل "أنباء سارة" من أوروبا في حال كان قاسياً وعانت مدنها من انقطاع الكهرباء وتوقف جزء من المصانع نتيجة نقص الغاز، وبالتالي زيادة النقمة الشعبية على الحكومات الأوروبية ما يجبرها على وقف دعم أوكرانيا وإجبار زيلينسكي على التفاوض بالشروط الروسية.
وما يدفع روسيا إلى القبول بتهدئة أو تجميد للصراع، هو المخاوف من زيادة أعداد القتلى الروس، ما قد يتسبب في إثارة الاحتجاجات في الشوارع الروسية، على وقع تدهور الأوضاع الاقتصادية، بسبب حزم العقوبات الغربية المتتالية على الاقتصاد، ونزوح الشركات ورؤوس الأموال، والحديث عن إمكانية فرض عقوبات إضافية على قطاعي الغاز والنفط، اللذين يزودان الخزينة الروسية بأكثر من نصف وارداتها.
وكانت موسكو قد استدعت أكثر من 318 ألف شاب للخدمة ضمن التعبئة الجزئية (مصادر المعارضة تتحدث عن أكثر من 500 ألف)، غير أن مئات الآلاف فرّوا من التعبئة، ما حرم الاقتصاد الروسي من أكثر من مليون عامل (الجنود المستدعين والفارين من البلاد). كما أن النفقات ستزداد، من أجل تجهيز جنود الاحتياط بالألبسة والمعدات، ما يعني تحول الاقتصاد إلى حالة الحرب عملياً.
ومن المؤكد أن بوتين الذي ضم أربع مناطق محتلة من أوكرانيا (لوغانسك، دونيتسك، زابوريجيا، خيرسون) يرغب في توقف الحرب، وعدم تمكين أوكرانيا من مواصلة هجومها واسترداد مزيد من الأراضي، لأن ذلك يضعف شعبيته، ويمكن أن ينهي حياته السياسية بخيبة كبيرة في حال فشل في أوكرانيا.
شروط زيلينسكي
وبعد أيام من تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" ذكرت فيه أن إدارة بايدن تمارس ضغوطاً على زيلينسكي من أجل تخفيف شروطه للتفاوض مع روسيا، بدا أن الرئيس الأوكراني تجاوب مع هذا الطلب الذي لم تؤكده الإدارة ولم تنفه.
وحدد زيلينسكي خمسة شروط للتفاوض مع روسيا هي: استعادة وحدة الأراضي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن كافة الأضرار التي تسببت فيها الحرب، ومعاقبة جميع مجرمي الحرب، وضمان عدم تكرار ما يحدث.
واللافت أن الشروط لم تتضمن شرط عدم التفاوض مع بوتين وانتظار رئيس جديد لروسيا، وهو ما ورد في مرسوم وقع عليه زيلينسكي بعد ضم الروس المناطق الأوكرانية الأربع.
وربما تجد أوكرانيا نفسها مضطرة أيضاً إلى القبول بتجميد الصراع، على الرغم من المخاوف من أن ذلك يعني الإقرار بالوضع القائم وتثبيت مكاسب بوتين، وتراجع حماس الأوروبيين والأميركيين لدعمهم، لكن الفريق المتفائل يأمل في أن التجميد يمنح أوكرانيا إمكانية لزيادة قوتها حتى الربيع، وإتمام التدريبات على الأسلحة الحديثة.
الأرجح أن فريقاً من إدارة بايدن، ومن ضمنهم سوليفان، يصرّ على إبقاء خط الاتصال مع روسيا مفتوحاً
ومع أن إدارة بايدن تتفق مع تقديرات الأوكرانيين بأن بوتين ليس جاداً بشأن المفاوضات التي يريدها لتكريس الأمر الواقع، أي احتلال قرابة خمس مساحة أوكرانيا وإغلاق ملف شبه جزيرة القرم نهائياً، إلا أنها لا تريد أن يكسب الرئيس الروسي إعلامياً، عبر تصوير أوكرانيا على أنها ترفض التسوية السياسية وتحميل زيلينسكي المسؤولية عن إطالة الحرب وإلحاق خسائر إضافية بالاقتصاد العالمي.
والأرجح أن فريقاً من إدارة بايدن، ومن ضمنهم سوليفان، يصرّ على إبقاء خط الاتصال مع روسيا مفتوحاً، وذلك تفادياً لتصعيد إضافي والانزلاق إلى حرب بين الأطلسي وروسيا، أو إقدام بوتين على استخدام أسلحة نووية تكتيكية، في حال أدرك أنه مقبل على الخسارة، بسبب دعم الولايات المتحدة والبلدان الغربية أوكرانيا بالأسلحة.
ومن المؤكد أن الولايات المتحدة لا تمانع في صيغة لتجميد الصراع، فقد حققت لها الحرب الكثير من المكاسب أهمها، تمتين علاقاتها مع أوروبا، وبعث الروح في "الأطلسي" بعد تراجع العلاقات بسبب الانسحاب الأميركي العشوائي من أفغانستان، في أغسطس/آب 2021، وعدم التشاور مع الأعضاء الآخرين في الحلف، والخلافات مع فرنسا نتيجة صفقة الغواصات مع أستراليا.
كما رفع الأوروبيون موازناتهم الدفاعية من دون إملاءات الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب، ولعل الأهم هو أن "الناتو" اقترب أكثر من حدود روسيا الشمالية الغربية، مع قرار السويد وفنلندا ترك الحياد والانضمام للحلف، وبات مسيطراً على بحر البلطيق.
كما انتعشت الصناعات العسكرية الأميركية، وفتحت سوقاً واسعة في شرق أوروبا ووسطها، بعدما قدمت دولها ما لديها من أسلحة سوفييتية لأوكرانيا، وحصلت ضمن اتفاقات مع دول أوروبا الغربية، على أسلحة أميركية جديدة.
واقتصادياً، يبدو أن واشنطن من أكبر المستفيدين، فبعد القرار الأوروبي الاستراتيجي التخلي عن النفط والغاز الروسيين، زادت صادرات الغاز المسيل والنفط من الولايات المتحدة بأسعار مرتفعة، وأنهت اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، وحرمت الكرملين من أهم أسلحته وهو سلاح الطاقة.
والأرجح أن تجميد الصراع في أوكرانيا يصب في مصلحة إدارة بايدن أيضاً، التي حذرت أكثر من مرة من أن يأس بوتين واستمرار نكساته، قد يدفعانه إلى استخدام السلاح النووي للمحافظة على سمعته ومستقبله السياسي.
ومن المؤكد أن استخدام روسيا السلاح النووي في أوكرانيا يجعل إدارة بايدن أمام خيارات صعبة، أبرزها الرد والانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع روسيا.
ومن شأن نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة وتقدم الجمهوريين في مجلس النواب، أن يزيد الضغوط على البيت الأبيض، خصوصاً في ظل وجود توجه لدى كثير من الجمهوريين للتركيز على الأوضاع الداخلية وعدم تقديم دعم لامحدود لأوكرانيا.