عودة إسرائيلية علنية إلى مشاريع تهجير غزة

30 يناير 2024
يوجد الاحتلال وقائع تمنع عودة الغزيين لمناطقهم (عبد زقوت/الأناضول)
+ الخط -

بعد 3 أيام من قرار محكمة العدل الدولية قبول طلب جنوب أفريقيا محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، عُقد في مدينة القدس المحتلة، مساء أمس الأول الأحد، مؤتمر بعنوان "عائدون إلى غزة" يدعو إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزة بمشاركة 12 وزيراً و15 نائباً في الكنيست الإسرائيلي على الأقل. صحيفة "هآرتس" أوضحت في عنوان مركزي أن الاستيطان في غزة هو مجرد شعار، وما كان في لبّ المؤتمر هو الدعوة إلى تهجير غزة.

في كلمته أمام المؤتمر قال وزير الأمن القومي، اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير: "الآن نفهم أن الهرب يؤدي إلى حرب، وإذا أردنا عدم تكرار 7 أكتوبر يجب العودة إلى الديار والسيطرة على الأرض (أي احتلال غزة والضفة)، وتشجيع الهجرة (للفلسطينيين)". وردد الجمهور خلال كلمة بن غفير: "فقط الترانسفير يحقق السلام"، ليردّ بن غفير: "أنتم على حق، يجب تشجيع الهجرة الطوعية. تشجيعهم على مغادرة المكان طوعاً".

بن غفير: يجب تشجيع الهجرة الطوعية، تشجيعهم على مغادرة المكان طوعاً

العودة علناً إلى خطاب التهجير-الترانسفير ونقل سكان غزة إلى خارج القطاع، كانت من أبرز جوانب التحريض التي بدأت بها المؤسسة الإسرائيلية مباشرة بعد عملية "طوفان الأقصى". الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما أثاره من خوف وهلع في نفوس المجتمع والقيادات السياسية في إسرائيل، والرغبة في الانتقام، عوامل وفّرت فرصة وشرعية للعديد من القيادات السياسية والعسكرية وشخصيات دينية وفنية وثقافية، بل وعامة المجتمع، لإبداء مواقف وتصريحات عنصرية تدعو بصراحة إلى تهجير أو إبادة سكان غزة، بذريعة أن كل شيء مباح بعد عملية "طوفان الأقصى".

مشاريع التهجير ليست غريبة عن مفاهيم وطروحات المشروع الصهيوني. فهو كمشروع استعمار استيطاني يحمل بشكل بنيوي مشاريع التهجير والاستبدال لأصحاب الأرض. هذه المشاريع لم تغب عن الطروحات السياسية في المشهد الإسرائيلي منذ بداياته، إلا أن وتيرة وقوة طرحها، وشرعيتها، كانت تتبدل حسب الظروف السياسية والدولية.

تهجير غزة... خطاب قديم بحلة جديدة

مراجعة خطاب تهجير غزة منذ السابع من أكتوبر يوضح، بخلاف خطاب الترانسفير التقليدي، أن الدعوات الحالية واسعة جداً وعابرة للمعسكرات السياسية، ولا تقتصر على اليمين المتطرف، وباتت تغلف بادعاءات أخلاقية، وتسعى للحصول على شرعية أمام الدول الغربية؛ كما تحظى بترويج وتأطير من قبل مراكز أبحاث عديدة، خصوصاً اليمينية ذات الامتداد مع مراكز أبحاث في الولايات المتحدة؛ وتُطرح كاقتراح قانون في الكنيست بدون أي خجل.

الدعوات الحالية لتهجير غزة واسعة جداً وعابرة للمعسكرات السياسية، ولا تقتصر على اليمين المتطرف

دعوات التهجير وطرد سكان غزة، بصيغ مختلفة، بدأت بعد عملية "طوفان الأقصى" بعدة أيام. بعد عشرة أيام من هجوم "حماس"، نشر رافائيل بن ليفي، رئيس برنامج تشرشل في منظمة "كيرين تكفا" اليمينية (مركزها في مدينة مانهاتن الأميركية) وزميل باحث في معهد "مسغاف للاستراتيجية الصهيونية"، ورقة موقف ترمي إلى إعادة صياغة وتأطير مفهوم الطرد والتهجير (ترانسفير). وكتب أن "الطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق الاستقرار على الحدود الجنوبية هي العمل على نقل السكان (قطاع غزة) إلى سيناء، وإقامة مبادرة دولية لاستيعاب مهجري غزة إلى دول أجنبية. وعلى الرغم من المعارضة المتوقعة، يجب على إسرائيل أن تتحرك بحزم لخلق وضع لا يطاق في غزة، وهو الوضع الذي سيجبر الدول الأخرى على مساعدة السكان على المغادرة - والولايات المتحدة لممارسة ضغوط شديدة لتحقيق هذه الغاية".

بعد ذلك، نشر معهد "مسغاف" ورقة موقف أخرى، بقلم رئيس ما يسمى مجموعة الليبراليين في "الليكود"، أمير ويتمان، الذي اقترح خطة أكثر تفصيلاً لتوطين جميع الفلسطينيين من غزة في الأراضي المصرية، بما في ذلك التكلفة التقديرية لهذه الخطوة، بمبلغ يتراوح بين خمسة إلى ثمانية مليارات دولار. وعرّف ويتمان اقتراحه بأنه "خطة إعادة توطين فورية وواقعية ومستدامة وإعادة تأهيل إنساني لجميع السكان العرب في قطاع غزة".

مثال إضافي يستعرض التصور الجديد لمصطلح التهجير (ترانسفير) بدون ذكر الكلمة هو مقالة يوآف سوريك، أحد كبار أعضاء صندوق "تكفا" الأميركي في إسرائيل والذي يشغل منصب رئيس تحرير مجلة "هاشيلوح" التي تعبّر عن مزاج التيار اليميني المحافظ في إسرائيل، بعنوان "ضروري وأخلاقي وممكن: عدم إعادتهم إلى غزة"، نشرت في طبعة خاصة من مجلة "هاشيلوح" خصصت للحرب في غزة. قدّم سوريك مجموعة من الحجج المنطقية، والادعاءات الفلسفية التي تعبّر عن موقف أخلاقي جديد لتبرير تهجير سكان غزة، وفقا للكاتب.

سوريك اقترح ثلاثة مبادئ: 1. القتل الجماعي الذي لا يشكل جزءاً من هزيمة العدو هو أمر غير أخلاقي؛ 2. السماح بوجود سكان ونظام قتلة في بلدنا، أو بالقرب من حدودنا، هو سياسة غير أخلاقية. لا يوجد حق بالوجود في إسرائيل لمن لا يتصالح مع وجودنا، ويعتبر دماءنا ماء؛ 3. إن نقل السكان غير المتورطين لمواصلة العيش في مكان آخر، من خلال تشجيع الهجرة وتأخير العودة إلى غزة، هو العمل الأخلاقي.

مقالة سوريك جديرة بالملاحظة، وفقاً للصحافي في "هآرتس" نتنائيل شلوموفيتش، لأن النخبة المحافظة في إسرائيل باتت تردد الادعاءات الواردة في المقال، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، وباتت تلقى صدى لدى حلفائهم في الائتلاف في الكنيست.

من ناحية أخرى، يبدو أن سوريك والآخرين مدركون أهمية تغليف اقتراحهم بغلاف أخلاقي مقبول بحيث يكون موجّهاً إلى آذان غربية، وفقاً لشلوموفيتش. إذ يكتب سوريك "إذا كان لدينا وضوح أخلاقي، وبالطبع الرغبة في الخروج من المفاهيم التقليدية المنهارة، فمن المحتمل أننا سنكون قادرين أيضاً على إبقاء العالم إلى جانبنا في الحرب ضد الشر الهمجي".

رونان شوفال، أحد مؤسسي منظمة "ام تيرتسو" اليمينية، وهو حالياً أحد كبار المسؤولين في صندوق "تكفا"، نشر أيضاً مقالاً في نسخة الحرب الخاصة لمجلة "هاشيلوح"، بعنوان "تذكروا ما فعلته بكم حماس"، والغرض منه تعزيز طرح الترانسفير. تناول المقال الحجج الدينية والأخلاقية، والمقارنات بالنازيين والعماليق، لتبرير التهجير. وقد غلف كافة ادعاءاته بفكر أخلاقي، بحيث قال: "إن الغرب بشكل عام وإسرائيل بشكل خاص بحاجة إلى توضيح أن استمرار وجود السكان والنظام القاتل (في غزة) هو سياسة غير أخلاقية، ونقل السكان غير المتورطين لمواصلة الحياة في مكان آخر هو عمل أخلاقي".

دعوات صنّاع القرار وسياسيين لتهجير غزة

اقتراحات التهجير-الترانفسير المغلفة بادعاءات أخلاقية لم تبقَ في إطار مراكز الأبحاث والتفكير والتنظير بحسب، بل تم تبنيها من قبل عدد كبير من صنّاع القرار والسياسيين، وطُرحت كمشاريع قوانين في الكنيست، ولقيت رواجاً لدى المجتمع الإسرائيلي.

صحيفة "كلكاليست" كشفت منتصف أكتوبر الماضي ورقة سياسات صادرة عن وزارة الاستخبارات، برئاسة غيلا غمليئيل، تتضمن اقتراح تهجير سكان غزة كلهم إلى مصر. تتضمن الوثيقة ثلاث مراحل: إنشاء مدن من خيام في سيناء جنوب غرب القطاع، وإنشاء ممر إنساني لمساعدة السكان، وبناء مدن في منطقة شمال سيناء. بالإضافة إلى ذلك، تدعو الوثيقة إلى خلق تعاون مع أكبر عدد ممكن من الدول حتى تتمكن من استقبال الفلسطينيين المهجرين من غزة وتزويدهم بسلال الاستيعاب. وقد تم ذكر كندا والدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا ودول شمال أفريقيا من ضمن الدولة المقترحة كعنوان لتهجير الفلسطينيين سكان غزة. الحكومة الإسرائيلية لم تنكر أو ترفض رسمياً هذه الوثيقة.

اقترحت ورقة سياسات صادرة عن وزارة الاستخبارات تهجير سكان غزة كلهم إلى مصر

كذلك اقترح عضو الكنيست أمير ويتمان من حزب "الليكود" تهجير سكان غزة إلى مصر، وعرض رزمة تعويضات كريمة لمصر لضمان إسكان المهجّرين الفلسطينيين في مصر نفسها، وليس فقط في سيناء. أما عضو الكنيست رام بن براك (حزب المعسكر الرسمي) وداني دانون (حزب الليكود) السفير الأسبق لإسرائيل في الأمم المتحدة، فقد اقترحا أيضاً مشروعاً لتهجير سكان غزة في مقال مشترك نشر في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية. وكتب الاثنان: "على غرار ما يحدث في صراعات أخرى في العالم، ستستقبل دول مختلفة عائلات من غزة ترغب في الهجرة وإعادة التوطين. ويمكن القيام بذلك من خلال آلية منظمة، بالتنسيق بين الدول، هدفها توفير حل دولي لسكان غزة. علاوة على ذلك، ومن أجل تسهيل تأقلم هؤلاء الغزيين، يستطيع المجتمع الدولي، بل وينبغي له، أن يساعدهم بحزمة مساعدات اقتصادية سخية، بحيث يمكن استيعاب كل أسرة في غزة في بلد المقصد بسهولة وراحة أكبر".

كما أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بداية شهر يناير/كانون الثاني الحالي، أنه سيقترح على الحكومة المصغرة مشروعاً لتشجيع ما سماه الهجرة الطوعية لسكان قطاع غزة، وإعادة الاستيطان في "غوش قطيف" في قطاع غزة. وصرح سموتريتش بأنه "حان الوقت لتجربة شيء مختلف، من خلال جهود المجتمع الدولي برمته، من إيجاد حل إنساني لسكان قطاع غزة في بلدان أخرى من العالم. وبالمناسبة، فقد حدث هذا لملايين اللاجئين في السنوات الأخيرة في مناطق الصراع العالمي، في الحرب في سورية، والآن في أوكرانيا وأماكن أخرى. لن تعود غزة لتكون مرتعاً لمليوني إنسان محتجزين هناك كرهائن في محنة ويكبرون مع الرغبة في تدمير دولة إسرائيل. غزة لن تعود إلى هذا المكان. نقطة". الحل وفقاً لسموتريتش هو تشجيع إعادة توطين كحل انساني وإعادة سيطرة إسرائيل كلياً على غزة وعودة الاستيطان.

وصرح وزير الاتصالات شلومو قرعي، في مؤتمر "عائدون إلى غزة"، بأن الترحيل "هو السبيل الحقيقي الوحيد لتحصيل ثمن باهظ من النازيين من حماس وضمان الأمن والهجرة الطوعية".

في بداية ديسمبر/كانون الأول طرح عضو الكنيست موشيه بيسيل (الليكود) اقتراح مشروع على الكنيست بعنوان "اتفاق استيعاب سكان قطاع غزة"، والذي يهدف إلى تشجيع هجرة سكان غزة إلى دول مستعدة لاستقبالهم، وذلك مقابل مبالغ مالية تقدّم لكل من يقبل بالرحيل. حسب مشروع القانون، فإن المقيم في غزة الذي يوافق على الانتقال طوعاً سيحصل على 6 آلاف دولار مقابل ذلك، وستحصل الدولة المستقبلة له على 10 آلاف دولار.

نتنياهو: مشكلتنا ليست في السماح بالخروج، وإنما في إيجاد الدول المستعدة للاستيعاب

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يلغِ إمكانية التهجير، وصرح في جلسة لكتلة "الليكود" في الكنيست عقدت بتاريخ 25 ديسمبر الماضي، وفي رده على حديث عضو الكنيست داني دانون حول فكرة التهجير، قال نتنياهو: "ليست لدي مشكلة مع هذه الفكرة. مشكلتنا ليست في السماح بالخروج، وإنما في إيجاد الدول المستعدة للاستيعاب. ونحن نعمل على ذلك. هذا هو الاتجاه الذي نسير فيه".

بالمجمل يمكن القول إن خطاب التهجير لم يعد خطاباً هامشياً في المجتمع الإسرائيلي ولدى صنّاع القرار، من كافة الطيف السياسي. غالبية الاقتراحات لا تقترح فقط تهجير سكان غزة، بل تطالب دول العالم كلها بإيجاد حلول وتمويل لمشاريع التهجير، وتعمل على تسويقها بمفاهيم أخلاقية تكون مقبولة على الغرب. تلك الحلول تهدف إلى تنفيذ مشاريع متجذرة في ذهنية المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، لاقت منفذاً الآن للترويج والعمل على تنفيذها. بينما هدفها الأساسي هو إراحة إسرائيل وضمان الأمن والأمان لسكان إسرائيل، من خلال تجاهل تام لحقوق الشعب الفلسطيني وكونه صاحب الأرض يقبع تحت الاحتلال والحصار. وتدعي أن هذا هو الحل الإنساني لمشاكل قطاع غزة.