لا يمكن الجدال في حقيقة صمود الفلسطينيين بمواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الذي وصفته عن حق منظمة "أمنستي" ومنظمات حقوقية أممية أخرى بنظام الفصل العنصري، الذي يستهدف الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وشرائحه وفي أماكن تواجده المختلفة.
لا يمكن الجدال أيضاً في أن هذا الصمود الأسطوري المستمر لمائة عام تقريباً ما كان ليحدث دون انخراط كافة فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني بالضرورة، مع دور جدي ومركزي للمرأة فيه كونها ببساطة نصف المجتمع. وإذا كان هذا الأخير عنيداً صامداً ولا يزال يقاوم محكوماً بالأمل والثقة في النصر، فلا شك أن المرأة شريكة أساسية في المقاومة والصمود والأمل أيضاً.
وإذا كانت الأسرة، وعن حق أيضاً، تمثل النواة الأولى والصلبة للمجتمع، فهنا أيضاً ثمة دور مركزي للمرأة في صمود وثبات المجتمع ككل، مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي تلعبه ضمن الأسرة، تحديدا في ما يتعلق بتنشئة الأجيال الجديدة على الذاكرة العصية والرواية العادلة.
وبالتأكيد لا يمكن الحديث حتى عن صمود الرجال في كافة الميادين وساحات الصدام المباشر السياسية والعسكرية دون التذكير أو الانتباه إلى حضور المرأة أيضاً ومساهمتها الأساسية في هذا الصمود كونها الأم والأخت والزوجة للصامدين والمشتبكين مع الاحتلال في الميادين المختلفة.
هذا بشكل منهجي وتاريخي، وبتفصيل أكثر وبمناسبة يوم المرأة العالمي نشرت إحصائية تتضمن مساهمة المرأة المباشرة في المواجهة مع الاحتلال خلال السنوات السبع الأخيرة، وحسب تلك الإحصائية فقد تم اعتقال 1100 امرأة منذ العام 2015، بينما هناك الآن 32 امرأة معتقلة بسجون الاحتلال منهن فتاة قاصر بعمر 16 عاما، هي نفوذ حماد من القدس بينهن كذلك 11 أمًّا بكل ما يعنى ذلك من معاناة وعذابات وتضحيات.
بين المعتقلات أيضاً ستّ جريحات على رأسهن الأسيرة إسراء جعابيص التي تعتبر عنوانا ونموذجا لصمود المعتقلات. وكانت اعتقلت منذ سبع سنوات وحكم عليها بالسجن 11 عاماً رغم معاناتها من حروق بنسبة 50 بالمائة في جسدها وفقدانها 8 من أصابع يديها، كما تم منع العلاج عنها علماً أنها تحتاج إلى عدة عمليات جراحية وتجميلية عاجلة.
وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن المرأة بشكل عام هي أمّ وأخت وزوجة لآلاف المعتقلين حالياً -4500 - ومئات آلاف المعتقلين والشهداء على مرّ العقود السبعة بل العشرة الماضية، أي منذ بداية الهجمة الصهيونية الاستعمارية في فلسطين.
راهناً أيضاً، ثمة حضور بارز ومباشر للمرأة في ساحات وميادين الصراع المختلفة. وهي حاضرة في القدس بمواجهة التهويد والاستيطان، كما في ميادين الرباط دفاعاً عن المسجد الأقصى. وهنا تمثل خديجة خويص التي اعتقلت "28 مرة" عنوانا ورمزاً للمرابطات إلى جانب إخوانهن المرابطين الصامدين بمواجهة مشاريع التهويد وتزوير التاريخ، والسعي لتقسيم الأقصى والحرم القدسي بشكل عام زمانياً ومكانياً.
مقدسياً؛ لا يمكن تجاوز النموذج المقدسي المغربي الرائع الذي تقدمه الحاجة عائشة المصلوحي المولودة قبل النكبة- أيار/ مايو 1948- لأب مغربي وأم مقدسية في حي المغاربة الذي دمره الاحتلال بمجرد احتلاله المدينة المقدسة في حزيران/ يونيو 1967 والتي باتت تمثل تجسيداً حياً للصمود والرباط في المدينة كما للرواية الفلسطينية المغربية العربية الإسلامية بمواجهة محاولات تزوير التاريخ من قبل المستعمرين وتابعيهم من المطبّعين الجدد.
في القدس كذلك، ثمة حضور بارز للمرأة في مواجهة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي بصمود أسطوري للعائلات المهددة بالتهجير تختصره عائلة الكرد من عميدة العائلة الحاجة رفقة الكرد إلى الحفيدة منى التي تمثل نموذجا للصمود مع أهلها وعائلتها وبقية أُسر حي الشيخ جراح، إضافة إلى عملها الإعلامي خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي لترويج ونشر المظلومية والرواية الفلسطينية العادلة إلى مختلف أرجاء العالم لدرجة أن مجلة تايم الأميركية اختارتها مع شقيقها محمد ضمن الشخصيات المائة الأكثر تأثيراً في العالم خلال العام الماضي 2021. وببساطة، تبدو منى ومحمد كعنوان للتكامل الأسري والوطني في القدس وفلسطين بشكل عام.
عند الحديث عن المرأة الفلسطينية لا يمكن بالتأكيد تجاهل دورها في مواجهة الحصار غير الشرعي وغير الإنساني ضد قطاع غزة. وعندما نتحدث أيضاً عن صمود المجتمع الغزاوي ككل في مواجهة الحصار فبالتأكيد ثمة حضور مهم للمرأة نصف المجتمع كما بصفتها الأم والأخت والزوجة للرجال والشباب الصامدين.
في القدس ثمة حضور بارز للمرأة في مواجهة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي بصمود أسطوري
غزاوياً أيضاً، وعندما نتحدث عن دحر وإفشال العدوان الإسرائيلي الأخير – مايو/ أيار الماضي - والحروب الثلاث التي سبقته لا يمكن أيضاً تجاوز أو تجاهل دور المرأة في الصمود والثبات وعدم التراجع أو الاستسلام أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
الصمود والثبات والمعاناة والتضحيات لا تقتصر على المرأة الفلسطينية بالداخل في مواجهة الغزاة، وإنما ثمة مكان لها كذلك في مواجهة الطغاة، كما نرى في تضحيات ومعاناة المرأة الفلسطينية في سورية. وحسب إحصائية رسمية صدرت أيضاً بمناسبة يومها العالمي فهي أي الفلسطينية في سورية أمّ أو أخت أو زوجة لـ1797 معتقلاً و333 مفقوداً و4116 ضحية، وآلاف المهجرين والنازحين عن بيوتهم ومخيماتهم المدمرة، عوضاً عن الدور الذي تلعبه في إبقاء ذاكرة الأجيال الجديدة حيّة وعصية على النسيان، وإبقاء بوصلة العودة صحيحة نحو فلسطين.
الحديث عن المرأة الفلسطينية ودورها في شهر مارس تحديداً يكتسب بعداً إضافيا لتزامن يومها العالمي مع يوم الأرض الذي يمثل هو أيضاً عنواناً للصمود والثبات الفلسطيني التاريخي بشكل عام وبالتالي صمود المرأة بشكل خاص.
على المستوى الرسمي لا بد من الإشارة إلى تقصير القيادة الفلسطينية والطبقة السياسية بشكل عام في الدفاع عن حقوق المرأة، ليس فقط بالداخل حيث تتعرض للظلم وانتهاك حقوقها رغم مساهمتها المركزية والواسعة في المقاومة والصمود، وإنما بالخارج أيضاً حيث لا نرى حملات سياسية وقانونية وإعلامية منظمة لفضح انتهاكات الاحتلال ضد حقوق وحريات المرأة الفلسطينية الأساسية في التنقل والعمل والتعليم والعلاج والعبادة وحقوق المعتقلات بشكل خاص، كما نرى في حالة إسراء جعابيص وزميلاتها الأمهات والجريحات والقاصرات، ومرة أخرى نجد أنفسنا هنا أمام التداعيات السلبية للفراغ القيادي وغياب الإطار المرجعي الأعلى، الذي يضع الاستراتيجيات العامة ويتيح للمواهب الفلسطينية التعبير عن طاقاتها وقدراتها، مع التأكيد على ضرورة الحضور المركزي والمعتبر للمرأة فيه.
هذا يأخذنا مباشرة إلى حتمية العودة للحزمة الانتخابية الكاملة لتجديد الدماء وبث الحياة والحيوية في شرايين المؤسسات الفلسطينية، خاصة أن القانون الانتخابي ضمن تواجد المرأة بنسبة الربع على الأقل في قوائم المجلس التشريعي والخمس في مجالس الهيئات المحلية، ما يعنى حكماً أن الحياة الديمقراطية المؤسساتية السليمة تنعكس وبالضرورة إيجاباً على حضور المرأة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
تناول، أو للدقة، الاعتراف بدور المرأة المحوري في الصمود والجهاد الفلسطينيين على مدى عقود طويلة، والذي لا غنى عنه يدفعنا إلى التأكيد مرة أخرى على ضرورة تبني خيار المقاومة الشعبية، كما رأيناه في نماذج الانتفاضة الأولى وهبّة بل هبّات الشيخ جراح وباب العمود وبيتا وبرقة والنبي صالح وبلعين ونعلين.
وببساطة، إن اتباع خيار المقاومة الشعبية يتيح مشاركة كافة فئات المجتمع بما فيها المرأة طبعاً، كما أنه أكثر نجاعة وجدوى ضد الاستعمار الصهيوني، وأقل تكلفة كذلك على الأسرة والمجتمع الفلسطينيين بشكل عام خاصة أننا نخوض صراعا ماراثونيا بامتياز طال لقرن تقريباً، وقد يمتد أيضا لسنوات وربما لعقود قادمة نتمنى ألا تكون كثيرة بإذن الله.
وقبل ذلك وبعده، فالمقاومة الشعبية يتقبلها ويتفهمها العالم كله، إضافة إلى كونها تعبيراً رائعاً وحضارياً عن هذا الشعب الصامد والمنفتح بكل فئاته وشرائحه على نفسه كما المحيط العربي والإقليمي والدولي، والمصرّ على المضي قدماً في عناده المحمود وصموده الأسطوري حتى تحقيق آماله المشروعة في الحرية والسيادة والاستقلال وتقرير المصير.