لافت في الشكل والمضمون والحيثيات والاستنتاجات والتوصيات، هكذا يمكن تلخيص تقرير "منظمة العفو الدولية" (أمنستي) الذي صدر بداية فبراير/ شباط الجاري، واتهم إسرائيل بممارسة الفصل العنصري منهجياً ضد الفلسطينيين بما في ذلك ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقه لتكريس غلبة وتفوق اليهود على العرب، سكان الأرض الأصليين في فلسطين.
وصف التقرير بمهنية ودقة نظام الفصل العنصري متعدد الأشكال والمستويات الذي ينتهجه الاستعمار الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة، وحسب الوسائل المتاحة والممكنة لديه حيث التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 مع فصل عنصري موصوف في الضفة الغربية وتهجير قسري وتغيير ديموغرافي في القدس، وحصار عنصري أيضاً لغزة وقوانين عنصرية ضد اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بما في ذلك منعهم من حقهم الطبيعي والأصيل بالعودة إلى قراهم وبلداتهم التي هجّروا منها قسراً وبالقوة الجبرية، وبالتالي منعهم من تقرير المصير بوطنهم فلسطين.
التقرير صدر عن منظمة أممية موثوقة وجاء بعد تقريرين مماثلين لـ"هيومان رايتس ووتش" الدولية و"بتسيليم" الإسرائيلية مع توقعات بتوصيات واستنتاجات مشابهة في تقرير اللجنة القانونية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في ممارسات إسرائيل
هذا الفصل العنصري المنهجي والموصوف يتم تنفيذه بقرارات وقوانين عنصرية مثل قانون أملاك الغائبين لحرمان المواطنين الفلسطينيين من ممتلكاتهم وثرواتهم قبل النكبة الأولى، وإعلان دولة إسرائيل 1948 لصالح المهاجرين المستعمرين اليهود وقانون العودة الذي يجعل هذا الحق حصراً بهؤلاء، إضافة إلى جرائم حرب أخرى موصوفة ومستمرة مثل القتل والتشريد والتهجير ومصادرة الأراضي والتضييق على حريات الفلسطينيين بكافة أبعادها والتنغيص على مجريات حياتهم حتى في أبسط صورها.
بناء عليه، وحسب القوانين والمواثيق والشرائع الدولية ذات الصلة خلصت "أمنستي" في استنتاجاتها إلى أن ما تفعله إسرائيل هو فصل عنصري موصوف متكامل الأركان لا يمكن الجدال أو الشك فيه.
أما في التوصيات التي لا تقل أهمية عن الحيثيات والاستنتاجات، فقد طالب التقرير العالم بالتعاطي مع الوقائع كما هي، باعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري واستخدام الدول حيثما استطاعت الولاية القضائية العالمية لمحاسبتها على تلك الجريمة والجرائم المنبثقة عنها، كما استخدام كل الوسائل الممكنة من ضغط ومقاطعة وعزل لإجبارها على التوقف عن سياستها العنصرية الممنهجة.
التقرير مهم جداً كونه صدر عن منظمة أممية موثوقة خاصة أنه جاء بعد تقريرين مماثلين لـ"هيومان رايتس ووتش" الدولية و"بتسيليم" الإسرائيلية العام الماضي، مع توقعات عالية بأن نرى توصيات واستنتاجات مشابهة في تقرير اللجنة القانونية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين في كامل أراضي فلسطين التاريخية، وتحديداً بشهري نيسان/أبريل وأيار/مايو الماضيين بما في ذلك ولأول مرة في الأراضي المحتلة عام 1948.
بدا لافتاً جداً حسب حيثيات التقرير أن إسرائيل توحد عملياً الشعب الفلسطيني وتنظر إليه كوحدة واحدة، وتمارس ضده الفصل العنصري، وبشكل منهجي حتى لو استخدمت أساليب متنوعة حسب أماكن تواجده المختلفة والوسائل والإمكانات المتاحة بين يديها.
يفترض أن تأخذ القيادة الفلسطينية الجديدة - منتخبة شابة - على عاتقها وبشكل أساسي مهمة مواجهة نظام الفصل العنصري مع وجود تجربة تاريخية مماثلة أمامنا في جنوب أفريقيا
مبدئياً، يفترض أن يدفعنا هذا أيضاً للتوحد في مواجهتها، وإذا كان العدو نفسه ينظر إلينا كشعب واحد فالأولى أن نتصرف نحن على هذا الأساس عبر وضع استراتيجية واحدة وموحدة أيضاً، تنبثق عنها وسائل وآليات متعددة حسب الإمكانات المتاحة للفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة.
من هنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام ضرورة بل وحتمية تشكيل قيادة موحدة جديدة للشعب الفلسطيني، كون القيادة الحالية غير قادرة على مواجهة السياسات الإسرائيلية حتى لو أرادت، وهي تعاني عيوبا بنيوية شكلاً ومضموناً، وتفتقر إلى الشرعية والمصداقية، ولم تعد جديرة بقيادة الشعب الفلسطيني تحديداً بعد هربها من الانتخابات العام الماضي. ويبدو تشبثها بالسلطة معيباً ومشيناً لدرجة الاعتماد على دعم ومساندة الاحتلال نفسه الذي يستخدم نظام الفصل العنصري ضد شعبها.
يفترض أن تأخذ القيادة الفلسطينية الجديدة - منتخبة شابة - على عاتقها وبشكل أساسي مهمة مواجهة نظام الفصل العنصري مع وجود تجربة تاريخية مماثلة أمامنا في جنوب أفريقيا، لا بد من قراءتها جيداً واستخلاص العبر المناسبة منها من أجل ضمان هزيمة النظام العنصري الإسرائيلي تماماً كما جرت هزيمة نظيره في جنوب أفريقيا.
وبالتالي، فإن تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي يقتضي بالضرورة استلهام تجربة جنوب أفريقيا، وتحديداً لجهة اتباع المقاومة الشعبية السلمية والصمود والثبات، واستخدام وسائل يتفهمها العالم ويمكن الدفاع عنها أمامه.
تفكيك نظام الفصل العنصري يرتبط بالضرورة أيضاً بالتمسك الصلب بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي شُرّدوا منها في العام 1948، علماً أن التقرير يشير ولو ضمناً إلى فشل وبؤس حلّ الدولتين وأفكار التقسيم الأخرى، ويدعم ضمناً أيضاً فكرة الدولة الواحدة لكل مواطنيها لكن دون إفلات المجرمين من العقاب والمحاسبة على كل الجرائم وفق نظام عدالة انتقالية موثوق به.
يفترض أن تأخذ القيادة الفلسطينية الرسمية أيضاً على عاتقها مهمة الاستفادة من التقرير في المحافل الدولية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها في المؤسسات القضائية ذات الصلة، كما قيادة وتصدر الدعوات لعزلها ومقاطعتها بالوسائل والمجالات الممكنة، وهي واسعة ورحبة أصلاً سياسياً وقضائياً واقتصادياً وثفافياً وفنياً ورياضياً.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى رد الفعل الغربي الرسمي المنافق، حيث تلعثم الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس وهو يرد على سؤال لأحد الصحافيين عن التناقض الصارخ في الاعتماد على تقرير منظمة "أمنستي" نفسها ومنظمات حقوقية أخرى ضد روسيا والصين وإيران، بينما يتم تجاهل تقارير المنظمات نفسها تجاه إسرائيل بما في ذلك التقرير الأخير. نفس النفاق والازدواجية رأيناهما في مواقف قوى غربية أخرى مثل بريطانيا وألمانيا، حتى أن أستراليا، الحليفة الجديدة لواشنطن، رأت الوقت المناسب لتصنيف حماس حركة إرهابية رغم أنها تمتلك حق المقاومة المشروع بمواجهة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي حسب المواثيق والشرائع الدولية.
هذا لا يعني طبعاً تجاهل الاهتمام بالرأي العام العالمي الذي يقبل ويصدق الرواية الفلسطينية، كما نرى في أميركا وبريطانيا وألمانيا وجنوب أفريقيا وحتى في أستراليا نفسها، وهو كفيل مع الوقت بالضغط على الحكومات لاتخاذ موقف رادع وأخلاقي تجاه إسرائيل ونظامها العنصري.
في الأخير وباختصار، لا بد من التأكيد على أهمية تقرير "أمنستي" شكلاً ومضموناً وآثاراً، وفي كل الأحوال عندما تزول إسرائيل ككيان استعماري ويتم تفكيك نظام الفصل العنصري ستشير كتب التاريخ حتماً إلى تقرير "أمنستي" كمحطة وعلامة فارقة على طريق تلك النهاية الحتمية.