يخلط الاجتياح الروسي لأوكرانيا الأوراق السياسية والعسكرية والاقتصادية في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما لدى جيران موسكو في القارة الأوروبية، الذين يجدون أنفسهم أمام ضرورة إعادة صياغة السياسة الأمنية لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
أبرز مثال على هذا التحوّل يظهر في ألمانيا، التي أعلن مستشارها أولاف شولتز، أول من أمس الأحد، عن تحوّل كبير في سياستها الخارجية والدفاعية، بعد سنوات من الأداء الخجول والهادئ تجاه النزاعات، ومن محاباة روسيا وفتح علاقات اقتصادية واسعة معها.
حقبة جديدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا
وأعلن شولتز صراحة أن الغزو الروسي لأوكرانيا "يشكّل نقطة تحوّل، ويهدد نظامنا الكامل بعد الحرب، وأصبحنا في حقبة جديدة، لينطلق من ذلك لفتح صفحة جديدة في السياسة الخارجية والأمنية وسياسة الطاقة.
وفي جلسة طارئة للبرلمان (البوندستاغ) أول من أمس الأحد، أعلن شولتز رصد استثمارات بمائة مليار يورو (نحو 113 مليار دولار) في الجيش الألماني للعام 2022، رافعاً استثمار بلاده في القطاع الدفاعي إلى أكثر من اثنين في المائة من إجمالي ناتجها المحلي، في سابقة من نوعها، ليتخطّى هذا التعهّد نسبة الاثنين في المائة التي يحددها حلف شمال الأطلسي هدفاً لدوله الأعضاء للاستثمار في القطاع الدفاعي.
شولتز: الغزو الروسي لأوكرانيا يشكّل نقطة تحوّل، ويهدد نظامنا الكامل بعد الحرب
ويشكّل ذلك قطيعة مع نهج اتّبعته برلين منذ سنوات باستثمار نسبة أدنى بكثير من اثنين في المائة في قطاعها الدفاعي، وهو ما أدى إلى تعكير العلاقات بينها وبين حلفائها.
خطاب شولتز في مبنى البرلمان الألماني، الذي لم يُسمع مثله في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفق متابعين، أظهر بشكل واضح أن برلين تخلت عن محاباة روسيا فلاديمير بوتين، الذي أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، بإقدامه على اجتياح أوكرانيا، وسعيه لتنظيم أوروبا وفقاً لأفكاره.
واعتبر شولتز في خطابه أنه مع الهجوم الروسي بات من الواضح أنه "يتعيّن على ألمانيا أن تستثمر أكثر في أمن بلادنا"، مضيفاً أن "الهدف هو التوصل إلى جيش قوي وحديث ومتطور قادر على حمايتنا بشكل يعتمد عليه".
ومنذ انتهاء الحرب البادرة، قلّصت ألمانيا عديد قواتها من 500 ألف عسكري إلى نحو مائتي ألف حالياً. كما خفضت عدد دبابات القتال الرئيسية من 5 آلاف في عام 1989 إلى 300 في الوقت الحالي. وسبق أن حذّر مسؤولون في القطاع الدفاعي الألماني مراراً في السنوات الماضية من متاعب الجيش على صعيد التجهيز.
وفي اليوم نفسه الذي أمر فيه بوتين قواته ببدء الهجوم على أوكرانيا، كتب قائد القوات البرية الألمانية ألفونس مايس في رسالة عبر شبكة "لينكد إن"، أن "الخيارات التي يمكننا أن نعرضها على السياسيين في إطار دعم حلف شمال الأطلسي محدودة للغاية".
وجاء إعلان شولتز الأحد بعد ساعات من إعلان برلين تصدير شحنات عسكرية كبيرة إلى أوكرانيا، شملت ألف صاروخ مضاد للدبابات، و500 صاروخ أرض-جو من نوع "ستينغر" من مخزون الجيش الألماني، في توجّه يشكّل قطيعة مع الحظر الذي تفرضه البلاد على تصدير الأسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع.
وفي الأسابيع التي سبقت بدء الغزو الروسي، تجاهلت برلين مراراً مطالب أوكرانيا والحلفاء بإرسال أسلحة إلى كييف، واقتصرت المساعدة العسكرية الألمانية لأوكرانيا على 5000 خوذة، في واقعة استدعت كثيراً من السخرية. كما بقيت مساعي إستونيا لتسليم كييف ثمانية مدافع هاون قديمة اشترتها من ألمانيا الشرقية عالقة لأسابيع في عراقيل بيروقراطية في برلين إلى أن حظيت أمس الأول الأحد بالموافقة.
وإضافة إلى ذلك، أعلن شولتز الأحد أن بلاده ستعزز قواتها المنتشرة شرقاً في إطار حلف شمال الأطلسي، لا سيما في سلوفاكيا، مبدياً أيضاً استعداد بلاده للمشاركة في الدفاع عن المجال الجوي للحلف بواسطة صواريخ مضادة للطائرات.
ولم تقتصر التبدلات الألمانية على النواحي العسكرية والأمنية، فشولتز تعهد أيضاً بتغيير واقع اعتماد بلاده على دول أخرى لتأمين احتياجاتها على صعيد الطاقة، وقال إن التأزم الحالي السائد في أسواق الطاقة يشكّل مؤشراً يدل على ضرورة المضي قدما في التحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة.
وكانت ألمانيا قد واجهت اتهامات بأنها تعطي الأولوية لاقتصادها ومصالحها على صعيد الطاقة، بتمسّكها بمشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، إلى أن قرّرت الأسبوع الماضي تعليق العمل به.
وبالنسبة لوزير الاقتصاد المنتمي إلى "الخضر" روبرت هابيك، فإن "إمدادات الطاقة أصبحت قضية أمن قومي"، موضحاً أن "الطاقات المتجددة تحررنا من التبعيات". ومن المعلوم، أن شولتز أعلن أنه سيتم بناء محطتين للغاز المسال في ألمانيا، في إشارة واضحة لتغيير المسار للتغلب على فكرة الاعتماد على موردي طاقة معينين.
تباينات داخل الحكومة الألمانية
ويأتي التحول اللافت في سياسات برلين في ظل حكومة جديدة مشكّلة من الاشتراكيين الديمقراطيين مع شولتز، المتحالف مع حزب الخضر والليبراليين، وذلك بعد 16 عاماً من تولي المحافظين الحكم.
وتتباين توجهات الأطراف المشكلة لائتلاف "إشارات المرور" الحاكم، ففي حين يناهض "الخضر" على الدوام تصدير الأسلحة، وُجّهت اتهامات إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمحاباة روسيا، فيما يُتّهم الليبراليون غالباً بإعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية.
وحاول حزب الخضر تبرير التحول في مسألة تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا وميزانيات الدفاع بعد أن كان رافضاً في برنامجه الانتخابي نسبة 2 في المائة لميزانية حلف الأطلسي، فقالت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، المنتمية إلى هذا الحزب: "إذا كان عالمنا مختلفاً، فيجب أن تكون سياستنا مختلفة أيضاً". أما وزير المالية، زعيم الحزب الليبرالي الحر كريستيان ليندنر، فأشار إلى أن ألمانيا أخطأت في تقدير نوايا الحكومة الروسية.
وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك: إذا كان عالمنا مختلفاً، فيجب أن تكون سياستنا مختلفة أيضاً
في المقابل، اتهم زعيم البديل اليميني الشعبوي تينو شروبالا، المستشار شولتز بأنه أعاد تنشيط الحرب الباردة بخطابه الثوري. بدوره، حاول زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي، فريدريش ميرز، خلق توازن بين دعم الائتلاف والمعارضة، ووعد بدعم العقوبات والتدابير الشاملة التي تخطط لها الحكومة الاتحادية.
وأبرزت صحيفة "دي فيلت" أن ما قيل وأقر في البوندستاغ لا علاقة له بما كتبه قبل أسابيع التحالف الحاكم في ورقة ائتلافه. أما موقع "تي أون لاين"، فأبرز أن ألمانيا كواحدة من أفضل الاقتصادات في العالم، لا يمكنها أن تتصرف كما لو أن النزاعات الدولية ليست من شأنها. ورأى أنه لم تتعامل أي حكومة في ألمانيا على الإطلاق بسرعة مع الواقع الوحشي كالحكومة الحالية، معتبراً أن التحالف الحاكم أثبت أنه يتكيّف مع الظروف الجديدة لتصبح صادرات الأسلحة والعقوبات على روسيا ممكنة فجأة، وهذا مؤشر جيد على التبدلات السريعة في السياسة الخارجية والأمنية وأمن الطاقة.
هذا التوجه الجديد يأتي أيضاً كاستجابة للشارع الألماني الذي شهد الأحد تظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، في تحركات كان الأكبر في القارة العجوز والعالم.
تراجع عن أسس تاريخية
وعن هذا التحول، اعتبر الكاتب السياسي شتيفان ديتجان، في حديث مع إذاعة "دويتشلاند فونك"، أن خطاب شولتز أكثر من مجرد تغيير مذهل في المسار من قبل الحكومة الاتحادية، مشيراً إلى أن الأمل بمواجهة الإمبريالية الجديدة لبوتين بسياسة الانفراج الاشتراكية الديمقراطية للقرن العشرين تحوّل إلى وهم.
ورأى أن ما حصل لا يعني فقط تغيير السياسة، ولكن الدولة ستكون مختلفة، وذلك بعدما كان يُنظر إلى تسليم الأسلحة على أنه عامل تسريع خطير للخلافات داخل تحالف "إشارات المرور" الحاكم. وذكّر كيف شرحت وزيرة الخارجية، قبل أيام في بروكسل، بإسهاب عن أن استبعاد روسيا من نظام المعاملات المالية "سويفت" سيلحق الضرر بالمواطنين الفقراء أكثر من بوتين، ولكن اعتباراً من يوم الأحد لم يعد ذلك سارياً وغاب الشعور بالعجز.
كاتب ألماني: ما حصل لا يعني فقط تغيير السياسة ولكن الدولة ستكون مختلفة
واعتبر ديتجان أن ألمانيا وبحكم تعاطيها المتذبذب مع الأزمة الأوكرانية، هددت نفسها بالوقوع في عزلة من خلال الأدوار التي كان يؤديها كل من شولتز وبيربوك في دبلوماسية الأزمات الدولية، كالتردد لشهور في اتخاذ موقف تجاه وقف مشروع "نورد ستريم 2" والدفاع عنه كمشروع اقتصادي خاص، والمهزلة بتسليم 5000 خوذة عسكرية للجيش الأوكراني، ناهيك عن منع برلين تسليم دول أخرى مدافع هاوتزر الألمانية الصنع، عملاً بورقة الاتفاق الحكومي التي تقضي بمنع تسليم الأسلحة لبلدان الأزمات واعتبارها من المحرمات.
النهج المغاير بالكامل للسياسة الألمانية، يلغي أسساً تاريخية تمسكت بها الجمهورية لعقود، بل حتى في جميع أنحاء أوروبا الغربية، من ألمانيا إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حيث انتهج الكثير من النخبة السياسية والتجارية منذ تسعينيات القرن الماضي سياسة التعاون مع روسيا والسعي لتعميق العلاقات في الأعمال والدبلوماسية والثقافة والمجتمع المدني والطاقة.
وكان أبرز مثال على ذلك المذهب الألماني المعروف بـ"التغيير من خلال التجارة"، كرهان على أن تعزيز العلاقات التجارية من شأنه أن يؤدي إلى علاقات ودية وكبت طموحات الكرملين بمراجعة النظام الجيوسياسي في أوروبا. لكن هجوم بوتين على أوكرانيا جاء ليطيح هذه السياسة، ويفتح حقبة جديدة من العلاقات داخل القارة العجوز وفي العالم.