يستذكر العراقيون مرور عقدين على بدء الاجتياح الأميركي للبلاد بمثل هذه الأيام عام 2003، باستعراض جملة كبيرة من الأسئلة والمقارنات، ومراجعة حصيلة الخسائر البشرية والمادية التي تكبدوها جراء الغزو الأميركي وما آلت إليه أوضاع البلاد، عدا عن استذكار أقربائهم ومعارفهم الذين قضوا خلال حرب الاحتلال وما بعدها.
ورغم مرور عشرين عاماً على هذه الحرب المدمرة تواصل السلطات العراقية حجب المعلومات عن عدد قتلى ما بعد الاحتلال الأميركي، وكذلك المفقودين والجرحى، باستثناء ما يصدر من تقديرات عن سياسيين وناشطين، وهي بالعادة تخمينية وفقاً لعداد ضحايا كل عام، ولا يقلّ عدد الضحايا عن نصف مليون وأكثر من مليون مصاب ومفقود، عدا عن الخراب الذي شمل كافة قطاعات وجوانب الحياة في البلاد.
وتتلاشى تدريجياً جُرأة عرابي الغزو الأميركي من الساسة العراقيين الحاليين في اعتبار هذا التاريخ "يوماً وطنياً"، كما كان يُطلق عليه خلال السنوات الأولى للاحتلال وكانت بعض القوى، ومنهم السياسيان الراحلان أحمد الجلبي وجلال الطالباني، تطالب باعتباره مناسبة وطنية وعطلة رسمية، لكن مشروع قانون العطل الرسمية المطروح في البرلمان منذ عامين لا يوجد ذكر فيه ليوم التاسع من نيسان/إبريل، وهو اليوم الذي دخلت به الدبابات الأميركية العاصمة بغداد.
وإلى جانب استمرار المشاكل الأمنية في البلاد وتضخم أعداد المليشيات والجماعات المسلحة ومواصلة بقايا "داعش" هجماتها بين وقت وآخر، فإن مشاكل الجريمة المنظمة المتصاعدة والمخدرات، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وأزمة الكهرباء والماء، تُعتبر من الأمراض العراقية المزمنة بعد عام 2003.
إلا أن التحدي الجديد، وفقاً لما يؤكده ناشطون وسياسيون عراقيون، هو سقف الحريات الذي بات على المحك في الأشهر الأخيرة، وتصاعد عمليات التهديد وليّ القوانين لخفض أصوات القوى المدنية والعلمانية المعارضة ومحاصرة وملاحقة الصحافيين والناشطين.
وبحسب بيان سابق، صدر عن المرصد العراقي للحريات الصحافية، قُتل قرابة 300 صحافي وصحافية في البلاد، في الفترة من من 2003 إلى 2022، على أيدي جماعات مسلحة ومليشيات وأثناء العمليات العسكرية، إضافة إلى الإخفاء القسري والتغييب، مثل مازن لطيف وتوفيق التميمي وغيرهما.
إضافة إلى ذلك، شهد العراق خلال عامي 2019 ـ 2020 مقتل أكثر من 800 متظاهر خلال الاحتجاجات التي عُرفت باسم "انتفاضة تشرين"، كان بينهم ناشطون رفعوا شعارات ترفض المحاصصة والسلاح والمليشيات وطالبوا بمحاسبة الفاسدين وسرّاق المال العام.
انخفاض تدريجي بمؤشر الحريات في العراق
ويقول سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، لـ"العربي الجديد" إن "الأحزاب والقوى التي أمسكت السلطة بعد عام 2003 ترفض الاستماع إلى الآراء الحرة والوطنية لاسيما ذات التوجهات المدنية والليبرالية والعلمانية، وواجهتهم بحملات إعلامية واستهدفتهم سياسياً وانتخابياً، وبلغت مراحل منعهم من حق الرأي والتعبير خلال فترة الاحتجاجات الشعبية حد التصفية الجسدية، حيث اغتيل الناشطون والصحافيون الذين دعموا الاحتجاجات المدنية".
وأشار فهمي إلى أن "المجتمع الدولي يعرف تماماً أن هناك تراجعاً في مؤشر الحريات، وأن هناك عشرات الصحافيين والناشطين اضطروا خلال السنوات الماضية إلى الهروب نحو مناطق إقليم كردستان وتركيا والأردن، وهناك من توجه إلى طلب اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي".
وقال فهمي: "الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها الصحافيون الذين غُيبوا لفترة وأطلق سراحهم، مثل الصحافية العراقية أفراح شوفي، وهناك من بقي مغيباً مثل مازن لطيف وتوفيق التميمي"، مضيفاً أن "الحزب الشيوعي العراقي كان عارض صدام حسين ونظامه لعقود، وتحمل رفاقنا المآسي وعمليات القتل والاغتيالات والتغييب في السجون، وكان أملنا بتأسيس عراق جديد، لكن للأسف هناك حالة من عدم فسح المجال أمام حرية الرأي والتعبير، وهو ما يدفعنا إلى مواصلة العمل المدني، اجتماعياً وسياسياً لتصحيح الوضع".
من جهته، يرى الناشط السياسي عصام حسين أن "مؤشر الحريات ينخفض تدريجياً مع استمرار تحكم قوى السلاح بالواقع السياسي، حتى وصلنا إلى مراحل خطيرة، فقد تم قتل شباب صحافيين وناشطين ومتظاهرين بواسطة السلاح المنفلت لبعض الجماعات المسلحة الذي تدعمه السلطة. وللأسف فإن هذه الأفعال أوجدت جيلاً من الشبان في البلاد، باتوا يرون أن النظام السابق (صدام حسين) كان أفضل من الحالي، وهذا خطأ كبير وقصور واضح في الرؤية السياسية، ورغم ذلك فإن التقصير من قبل الحكومات المتعاقبة تسبب بهذا الفهم".
وأضاف حسين لـ"العربي الجديد"، أن "أكثر ما يهدد الحريات الشخصية والعامة بعد 20 عاماً على الاحتلال الأميركي للبلاد هو السلاح المنفلت، الذي أدى إلى انهيار المنظومة السياسية وتحكم بعض الجماعات المسلحة في قرارات الوزارات وشكل العلاقات الخارجية مع الخارج، وأن استمرار هذه الحالة سيؤدي إلى تنامي الغضب الشعبي"، مؤكداً أنه "كما أن النظام السابق دمر العراقيين بالجوع والفقر والحصار الأمني والسياسي، وحرم العراقيين حق الكلام والتعبير عن الرأي، لا تزال الخطوط الحمر في مجالات عدة في البلاد موجودة، إذ يعرف العراقيون أن الحديث في بعض المواضيع يعني أنك تلعب بالنار".
العمل تحت سقف الأحزاب وقوى السلاح
وقال الصحافي علي هادي لـ"العربي الجديد" إن "الحريات في العراق على المحك فعلاً، وهناك المئات من النشطاء والكتاب والصحافيين خارج العراق بسبب التهديدات والمضايقات التي تعرضوا لها جرّاء طرح مواقفهم السياسية والأمنية من الوضع الذي صنعته الولايات المتحدة بعد عام 2003. وبالحقيقة، إن العراق الجديد ليس جديداً، بل إن أميركا خدعت وكذبت على العراقيين، فالوضع الأمني في تدهور مستمر وهناك رعب دائم بين صفوف الصحافيين والناشطين".
وأوضح أن "الأحزاب والفصائل المسلحة التي تقتل العراقيين بسبب آرائهم أو رفضهم لوجودها، تمارس الخداع أيضاً على العراقيين، بالقول إن البلاد تؤمن بالتعددية السياسية والحزبية، لكن في الحقيقة إن السلطة بين أحزاب أثبتت أنها لم تختلف كثيراً عن نظام صدام حسين".
وبالمقابل، فإن تكرار مغادرة الصحافيين والناشطين والمدونين وأصحاب الرأي بغداد باتجاه أربيل أو بلدان مجاورة بسبب تهديد المليشيات يتواصل للعام الثاني على التوالي، وفي هذا الشأن تقول فاطمة أحمد، وهي ناشطة في بغداد، إن "العراق ككل يشهد تراجعاً واضحاً في حرية الرأي والتعبير، مرة باستخدام القوانين والقضاء، وأخرى بسطوة الجماعات المسلحة"، واصفة الوضع الحالي: "بشكل أو بآخر، الجميع بات يعمل تحت سقف لا يغضب الأحزاب وقوى السلاح، وإلا فإن العواقب وخيمة".