لم تُظهر الطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار، بعد مرور أكثر من عامين على الانقلاب الذي نفذّه العسكر في الأول من فبراير/ شباط 2021 على الحكومة والزعيمة المدنية أونغ سان سو تشي، أي شهية للتفاوض مع الجماعات المناهضة للجيش والمعارضة للانقلاب، والتي تقود ضدّه حرب عصابات، خلّفت في العام الماضي وحده، بحسب مؤسسة "أكليد" لتحليل الأزمات، ومقرها الولايات المتحدة، حوالي 19 ألف قتيل.
وبينما تشير أرقام العسكر الرسمية إلى مقتل حوالي 2500 شخص فقط في هذه الحرب، منذ عامين، والتي تدور من دون الكثير من الاهتمام الدولي بها، يتجه عسكر ميانمار إلى السماح بتسليح المدنيين الموالين لهم في وجه المعارضين، في إطار شبيه بما يطلق عليه اسم مليشيات الدفاع الذاتية، المعروفة خصوصاً في القارة الأفريقية وتتشكل في وجه الجماعات المسلّحة المتطرفة.
وفي بلد كميانمار (جنوب شرقي آسيا)، يواجه أيضاً مشكلات إثنية، يهدّد القرار الجديد، والذي يبدو أنه صدر عشية الذكرى الثانية للانقلاب، بحرب أهلية مفتوحة، وسط تغطية من دول داعمة لعسكر ميانمار، كالصين وروسيا، وقلّة اكتراث دولي صادمة. وتبدو أسباب القرار المباشرة متعلقة بـ"مواجهة المسلحّين المعارضين"، فيما قد تكون خلفه أسباب أخرى، لا سيما مع استمرار المواجهات والتي تحصد أيضاً من دون شك قتلى ومصابين من الجيش.
جيش ميانمار يسلّح "المخلصين للأمة"
وتعتزم الحكومة التي يقودها الجيش في ميانمار، أخيراً، تسليح المدنيين الموالين لها، بمن فيهم الموظفون الحكوميون والعسكريون المتقاعدون، بحسب وثيقة سرّبت الأسبوع الماضي، وأكدها الجيش.
المسلحون المعارضون يبلغ عددهم أكثر من 65 ألف مقاتل
وكانت وسائل إخبارية موالية لجيش ميانمار، وأخرى مستقلة، بالإضافة إلى حسابات على موقع "فيسبوك" وقنوات "تلغرام" موالية للعسكر، قد نشرت، الأسبوع الماضي، وثيقة تتألف من 15 صفحة حول سياسة وزارة الداخلية. وذكرت وسائل الإعلام التي نشرت الوثيقة، أنها صدرت في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد الموافقة عليها في اجتماع الحكومة في ديسمبر/ كانون الأول 2022.
وتقول الوثيقة إن الحاصلين على تصاريح حمل السلاح يجب أن يكونوا "مخلصين للأمة، وأن يكونوا من ذوي الأخلاق الحميدة، وألا يشاركوا في زعزعة أمن الدولة"، مع ضرورة الامتثال لأوامر السلطات المحلية بـ"المشاركة في تدابير الأمن وإنفاذ القانون".
وتحدّد الوثيقة الشروط الواجب توفرها في طالب الرخصة، ومنها ألا يقلّ عمره عن الـ18 عاماً، وأن يبرز أو يقدم أسباباً مقنعة لحاجته لحمل السلاح، بالإضافة إلى شروط "الولاء" للعسكر. ولم تحدّد الوثيقة موعداً لدخول القرار حيّز التنفيذ. ويسمح القرار لأجسام مشكّلة لمحاربة حركات التمرد، ومليشيات مرخصّة، وأيضاً العسكريين المتقاعدين، بحمل المسدسات والبنادق والرشاشات طالما أنهم يحملون الرخصة. وقالت الوثيقة إن الحكومة العسكرية سيكون لديها الحق في استيراد وبيع الأسلحة النارية والعتاد المرخص من قبل وزارة الدفاع.
وأثار الإعلان الجديد من ميانمار مخاوف من تأجيج أعمال العنف، في هذا البلد الذي مزقته ما وصفها بعض خبراء الأمم المتحدة بالحرب الأهلية. ويرى خبراء أن القرار سيقوّي المجموعات الداعمة والمؤيدة للعسكر، ولن يفيد سوى في إطالة أمد أعمال العنف والمواجهات الدائرة بشكل شبه يومي بين الجيش و"المقاومة" المسلّحة، بحسب ما يسمّي المعارضون للانقلاب أنفسهم، والتي اندلعت في كل أنحاء البلاد تقريباً، وأدّت إلى نزوح أكثر من 1.2 مليون شخص (عدد سكان ميانمار حوالي 54 مليون نسمة)، وهروب حوالي 70 ألفاً من البلاد، بحسب أرقام أممية.
عامان على الانقلاب: لا شهية للتفاوض
ولم يظهر عسكر ميانمار، منذ الإطاحة بحكم أونغ سان سو تشي، أي رغبة حتى الآن بتقديم تنازلات أو بالتفاوض مع حركة "المقاومة". وبينما يتشبث جزء كبير من الشعب بمكتسبات ديمقراطية وفرص اقتصادية تمكنوا من الحصول عليها نتيجة الانفتاح المتواضع الذي تحقق خلال عهد حكومة أونغ سان سو تشي (فاز حزبها "الرابطة الوطنية للديمقراطية" بانتخابات 2015)، يتمسك العسكر بتاريخ طويل لم يخرج فيه هذا البلد من قبضتهم وحكمهم القمعي منذ عام 1948، رغم أنه ظلّ لمراحل طويلة في حالة "حرب أهلية" صامتة، بين أكثرية البامار (بوذية)، والأقليات الإثنية التي قاتلت جماعاتها المسلّحة الجيش عقوداً طويلة.
يصنّع جيش ميانمار نسبة كبيرة من أسلحته ويستورد السلاح من الصين وروسيا
ويصنّع الجيش في ميانمار نسبة كبيرة من أسلحته، ورغم العقوبات الدولية والأممية المفروضة عليه منذ الانقلاب، فقد ذكر تقرير المجلس الاستشاري الخاص بشأن ميانمار، المؤلف من خبراء أمميين سابقين، من بينهم مسؤولان أمميان سابقان من بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن ميانمار، في تقرير نشرت نتائجه في يناير الماضي، أن جيش ميانمار "ينتج مجموعة كبيرة من الأسلحة لاستخدامها ضد شعبه بفضل إمدادات من بعض الشركات في 13 دولة على الأقل". ومن بين الدول التي وردت أسماؤها في التقرير الولايات المتحدة وفرنسا والهند واليابان، على الرغم من العقوبات التي تهدف إلى عزل الطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار. وأكد التقرير أن الأسلحة المصنوعة محلياً تستخدم في ارتكاب فظائع ضد من يعارضون الجيش.
وأنشأت المعارضة السياسية بعد الإطاحة بحكم أونغ سان سو تشي حكومة ظلّ، هي حكومة الوحدة الوطنية، والتي تملك جناحاً مسلّحاً (قوات الدفاع الشعبية). وبحسب تقرير لمعهد "بروكينغز" البحثي، نشر أول من أمس الإثنين، فإن هذه القوات قد توسعّت إلى 250 وحدة، مع عديد من العناصر بلغ أكثر من 65 ألف مقاتل. ولفت التقرير إلى أنه في المناطق الريفية، حيث سيطرة العسكر ضعيفة، فإن قوات "المقاومة" وسعّت سيطرتها على الأراضي وهي تنفذ هجمات ضد حواجز للجيش ومراكز شرطة ومكاتب حكومية.
وبحسب تقرير "بروكينغز"، فإن هذه القوات لا تزال غير موحدة قيادياً، لكن وضعها تحسن في عام 2022، وأصبح جزءاً مهماً منها معترفاً به أو تحت سيطرة "حكومة الوحدة الوطنية" (حكومة الظلّ للمعارضة). وأشار التقرير إلى أن "جيش تحرير كاشين" الذي يقود الحراك المسلّح الأساسي الإثني ضد الجيش في ولاية كاشين (أقلية مسيحية أصولها من التيبت)، منذ ما قبل الانقلاب في ولاية كاشين، شنّ هجمات كثيرة ضد الجيش، بالاشتراك مع "قوات الدفاع الشعبية"، كما أن الكثير من وحدة "قوات" حكومة الظل تدير عمليات لها مع الجماعات الإثنية المسلّحة.
لكن التقرير لفت رغم ذلك إلى "الفجوة" الكبيرة بين مقدرات الجيش ومقدرات "قوات الدفاع الشعبية"، لا سيما في الموارد المالية، حيث تعتمد الثانية على "الهبات"، بينما يسيطر الجيش على مقدرات الدولة ويحصل على الدعم من الصين وروسيا.
وكان عسكر ميانمار قد مدّدوا في بداية فبراير الحالي، حال الطوارئ لستة أشهر إضافية، رغم أن ذلك معارض للدستور، ولا يزالون يمتنعون عن تحديد موعد للانتخابات. ورأى تقرير "بروكينغز" أنه حتى لو جرت انتخابات، فستكون صورية.
(العربي الجديد، رويترز، أسوشييتد برس)