قبيل اجتماع "مجلس القطب الشمالي" في العاصمة الأيسلندية ريكيافيك، يومي الأربعاء والخميس المقبلين، ولقاء يجمع وزيري خارجية واشنطن وموسكو، بدأ التوتر يتزايد بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وموسكو. وعبّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن امتعاضه من خطة نظيرة الأميركي أنتوني بلينكن لتوسيع وجود "الناتو" في المنطقة القطبية، معتبراً أنها "ملكنا.. هذه سواحلنا".
ويذهب بعض المعلقين والمختصين بالشؤون السياسية في كوبنهاغن إلى التعليق على ما يجري بأنه "لو كان الأمر في عهد دونالد ترامب، لرأينا وزير الخارجية الأميركي يهرع إلى تل أبيب وقت حروبها، لكن يبدو أن أولوية الشرق الأوسط مقابل ما يجري في منطقة القطب الشمالي غيّرت النظرة الأميركية"، وفق ما أكد محلل قناة "دي آر" الدنماركية الرسمية، ينس رينبيرغ. ولا يختلف عن ذلك التقييم أساتذة علوم سياسة، ومحللو شؤون دفاعية في كوبنهاغن وغيرها من الدول الإسكندنافية وبقية مجموعة دول الشمال.
توجه نحو العسكرة: أميركا تعود بقوة
منذ بضعة أعوام اتجهت موسكو نحو فرض واقع جديد في منطقة القطب الشمالي. وخلال أعوام حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي وصفت في أوروبا بأنها "انسحابية ومضرة" بمصالح حليفي ضفتي الأطلسي، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلعب منفرداً في المنطقة القطبية، وسط قلق "مجموعة دول الشمال"، فيما واشنطن كانت منشغلة بتصريحات ترامب عن "موازنات الناتو".
الكرملين وجد فرصة في انشغال الحليفين الأميركي والأوروبي بعلاقتهما المتوترة خلال السنوات الأربع لإدارة ترامب، فوسّع وجوده القطبي عبر توسيع "أسطول الشمال" وتحديثه بسفن كاسحات جليد وعبر قاعدته الجوية ناغورسكوي، التي تقع على بعد نحو 500 كيلومتر من الأرخبيل النرويجي سفالبارد، معززاً نشر قاذفات استراتيجية، وزيادة الاستفادة من الموارد الطبيعية في المنطقة القطبية. كذلك لم يخلُ الأمر من اختراق روسي للمجال الجوي لجزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، وهو ما يقلق على ما يبدو الإدارة الأميركية الجديدة.
وتزامناً مع زيارة بلينكن لكوبنهاغن، أمس الاثنين، وتوجهه إلى عاصمة أيسلندا، ريكيافيك، لعقد لقاء مع لافروف، قبيل انطلاق اجتماعات "مجلس القطب الشمالي"، الذي يضم أيضاً إلى جانب الدولتين كلاً من فنلندا والنرويج والدنمارك وكندا وأيسلندا، خرجت عبارات إعلامية وسياسية، عبّر عنها وزير خارجية الدنمارك يبا كوفود، بالقول: "أميركا عادت بقوة".
وتلك العودة سبقها تأكيد لها باتفاقية عقدتها واشنطن مع أوسلو تضمن وجوداً أميركياً في أقصى شمال الأطلسي والنرويج. وذلك يسمح للجيش الأميركي باستخدام النرويج كمهبط لطائرات وقاذفات ونشر وسائل مراقبة للتحركات الروسية. لكن المسألة لم تعد تتوقف عند حدود النرويج، إذ ينظر الكرملين بقلق إلى مساعي الإدارة الأميركية إلى جرّ "الناتو" "لتبرير التحرك في القطب الشمالي"، بحسب ما ذهب إيله لافروف، أمس الاثنين، وهو ما سيدفع بالتأكيد حرارة نقاشات مجلس القطب الشمالي يوم غد الأربعاء.
وإذا كان ترامب لم يدرك المكانة الاستراتيجية لجزيرة غرينلاند إلا من زاوية تجارية عقارية، بالتعبير عن رغبته في شراء الجزيرة، وهو ما أدى إلى إلغاء زيارة للدنمارك وتوتير العلاقة معها في 2019، فإنّ بلينكن، ومعه لفيف عسكري وأمني، يفهمون الأهمية الاستراتيجية لجزيرة ضمت في الحرب العالمية الثانية، وفي فترة الحرب الباردة، أقوى القواعد الشمالية وأكبرها.
ولم يكن غريباً أن يحضر إلى كوبنهاغن ساسة "نوك" (عاصمة غرينلاند) وجزر الفارو (المشكلتين لما يسمى محلياً أراضي كومنولث المملكة الدنماركية) لتأكيد متغير أميركي واضح في مزيد الاهتمام بالقطب الشمالي.
ويصف محللون ومراقبون هذا التوجه بأنه "يؤدي دوراً مركزياً اليوم في السياسة الأمنية الأميركية". فاهتمام واشنطن بكوبنهاغن يأتي على خلفية أنها المسؤولة عن غرينلاند، التي يريد العسكريون الأميركيون أن تستعيد مكانتها كحائط صد بوجه العسكرية الروسية المتوسعة في المنطقة، ولو استدعى الأمر انخراط "شمال الأطلسي" (الناتو) في المهمة.
إذاً، اللعبة القطبية الشمالية، التي تبشر بسباق تسلح جديد، بحسب محللين في دول الشمال، تتطلب، وفقاً للقراءة الأميركية الجديدة، انخراطاً أكبر للحليف الأوروبي، وبشكل محدد "الناتو"، في تعزيز وجوده العسكري فيه. بل مضى بلينكن يكشف في كوبنهاغن عن أن واشنطن ستقترح على اجتماع قادة "الناتو" في 14 يونيو/ حزيران المقبل مناقشة استراتيجية تعزيز الوجود العسكري في القطب الشمالي، في سياق مناقشة "استراتيجية 2030".
ما يجري في المنطقة القطبية الشمالية، سباق روسي لفرض السيطرة المطلقة عليه، يضاف إليه قلق أميركي، وقلق بعض الحلفاء الأقرب لواشنطن من دول صغيرة كالدنمارك، من تحركات صينية تحاول أيضاً أن تجد موطئ قدم لها، من خلال غرينلاند تحديداً. ومن هنا تأتي أهمية الدخول الأميركي إلى غرينلاند لتستعيد الولايات المتحدة وجودها السابق عليها خلال فترة الحرب الباردة، وهو أيضاً ما سيبحثه بلينكن مع ساسة الحكم الذاتي فيها لتطوير الوجود العسكري الأميركي عليها.
وبعد سنوات من محاولات تجنب سباق تسلح في القطب الشمالي، أو سياسة "تبريد الصراع"، فإن الاستخبارات العسكرية الدنماركية كانت تبدي قلقاً من التحدي الروسي والتوترات التي خلقها توسيع الكرملين وجوده العسكري في المنطقة.
فمصلحة واشنطن في تنشيط عسكرة وجودها مع حلف شمال الأطلسي في أقصى شمال الأطلسي وغرينلاند وجزر الفارو، بموافقة النرويج وأيسلندا، تتفق أيضاً مع رغبة كندية، لقرب غرينلاند ومناطق الوجود الروسي الشمالي من أميركا الشمالية.
التحرك الأميركي الذي استبق اجتماع دول مجلس القطب يبدو مستفزاً للروس بحيث اندفع لافروف في تصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية، مساء أمس الاثنين، إلى تحذير "الناتو" من الانتقال إلى العمل في القطب الشمالي.
وترى موسكو في تنشيط تنسيق حليفي ضفتي الأطلسي للعسكرة، من البلطيق إلى القطب الشمالي، مساراً جديداً عليها، خصوصاً مع رغبة أميركية في الحضور والتنسيق مع أقرب جيران روسيا، مثل فنلندا والسويد، غير العضوين في "الناتو"، والتأسيس لقواعد وجود مختلفة عن السابق، تشترك فيه دول الاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب مع حلف الأطلسي، لمواجهة طموحات روسيا والصين في الاستحواذ على المنطقة القطبية الشمالية. وتؤدي الثروات الطبيعية دوراً هاماً بالنسبة إلى استثمار موسكو في المنطقة، وهو ما تحاوله الصين.
وفي مجمل الأحوال، إنّ اجتماع "مجلس القطب"، يومي الأربعاء والخميس، بعد تعبير لافروف عن غضبه من التكتيكات الجديدة لواشنطن، يحدد "منعطفاً جديداً في السياسات الأميركية الغربية، فلم يعد ثمة حديث عن الحفاظ على السياسات التقليدية التي مورست على اعتبار القطب الشمالي منطقة منخفضة التوتر العسكري"، بحسب ما ذهب الباحث في المعهد الدنماركي للدراسات الدولية ميكيل فيدبي راسموسن، لقناة "دي آر"، مساء الاثنين. واعتبر راسموسن أن ما يجري "هو بشروط أميركية عندما يتعلق الأمر بعسكرة القطب الشمالي".