عدوان من طرف واحد في الضفة الغربية

26 نوفمبر 2023
من مشاهد الدمار الذي خلفه اقتحام جيش الاحتلال لمخيم طولكرم للاجئين (جعفر اشتية/فرانس برس)
+ الخط -

لا جديد من حيث المضمون في واقع سياسات الاحتلال تجاه الضفّة الغربية بعد عملية طوفان الأقصى، فكلّ ما تشهده الضفّة حاليًا هو امتدادٌ لسياساتٍ مارستها سلطات الاحتلال على مدار سنواتٍ طويلةٍ. غير أنّ هذه السياسات والممارسات الاستعمارية أخذت تتصاعد بشدةٍ في الآونة الأخيرة، لا سيّما منذ قدوم حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، المتحالفة مع قادة المستوطنين المتطرّفين، من أمثال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، المؤمنين بعقيدة "أرض إسرائيل الكاملة"، التي تتموضع الضفّة الغربية في القلب منها.

لذلك، جاء حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لا ليغيّر مضمون هذه السياسات، إنّما ليسرع وتيرتها، ويزيد حجمها، ومدى عنفها، ما يعطي دفعةً قويّةً للمشروع الاستعماري الاستيطاني. إذ تشهد الضفّة تصاعدًا في عنف المستوطنين، وحملات الاعتقالات الضخمة، واقتحامات المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية، وهدم البيوت والمنشآت، وتهجير سكانها، وفرض حصارٍ غير معلنٍ زاد من تقطيع أوصال الضفّة، وعزل كلّ قريةٍ عن أختها، وفرض حالةٍ من الترهيب والرعب، واستهداف المجتمع بالدعاية المحذرة من ملاقاة الضفّة مصير غزّة، أو تهجير سكانها.

تغوّلٌ في العنف الاستعماري

بدأت سلطات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول اتخاذ عدّة إجراءاتٍ تصعيديةٍ تجاه الضفّة الغربية، تهدف أساسًا إلى تحييد الضفّة عن مجريات الأحداث، ومنع انتقال التصعيد إليها، حتّى لا يضطرّ جيش الاحتلال إلى تشتيت قواته على جبهاتٍ عدّةٍ. إذ فرض جيش الاحتلال إغلاقًا شاملًا على الضفّة الغربية، ترافق مع إغلاق الحواجز؛ البالغ عددها 645 حاجزًا وعائق حركة، الفاصلة بين المدن والمحافظات الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من التنقل عبرها، إلّا في ظروفٍ مشددةٍ.

تلتزم السلطة الفلسطينية الحياد، وتتجنب المواجهة على الأصعدة كافّة، لا تجاه العدوان على قطاع غزّة فقط، إنما تجاه ما يحدث في الضفّة الغربية أيضًا

إضافةً إلى ذلك، أقيمت المزيد من الحواجز على مداخل القرى، والبلدات الفلسطينية لعزلها بعضها عن بعضها، ونشرت العديد من البوابات الحديدية والمكعبات الإسمنتية في مناطق مختلفةٍ من الضفّة الغربية، ثم مع الوقت خفت حدّة هذه الإغلاقات قليلًا. غير أنّ انتشار المستوطنين على الطرقات ومهاجمتهم السيارات الفلسطينية، والحواجز الطيارة، التي تقيمها قوات الاحتلال فجأةً، والاقتحامات المستمرّة للمدن والقرى الفلسطينية في كلّ الأوقات عملت بدورها على زيادة التضييق، وفرض قيودٍ مشددةٍ على الحركة الفلسطينية.

في الوقت ذاته، شنت قوات الاحتلال حملات اعتقالٍ واقتحاماتٍ مكثفةٍ في أرجاء الضفّة الغربية كافّةً، تهدف إلى إفراغ الضفّة من القوى القادرة على تحريك الجماهير والتأثير عليها، أو تلك المنخرطة في النشاط الشعبي والمقاوم. فحسب بيانات نادي الأسير الفلسطيني، بلغ عدد المعتقلين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول قرابة 2650 معتقلًا حتّى تاريخ 15 نوفمبر/تشرين الثاني. إذ تعلن قوات الاحتلال عن اعتقال عشرات الفلسطينيين ذكورًا وإناثًا يوميًا. وإلى ذلك كثفت قوات الاحتلال من اقتحاماتها للمدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية، خاصّةً تلك التي تستهدف بؤر المقاومة في شمال الضفّة الغربية، إذ لم يعد يخلو يومٌ من اقتحامٍ كبيرٍ لنابلس أو جنين أو طولكرم أو طوباس أو أريحا، في عدوانٍ مستمرٍّ يتركز على هذه المناطق، بوصفها بؤر النشاط المقاوم. ويأتي ذلك في محاولةٍ للقضاء على هذه البؤر، واستنزاف المقاومين فيها، ويشمل هذا المسعى أيضًا مناطق أخرى مثل بيت أمر في الخليل، وغيرها، لمحاولة وأد أيّ تجربةٍ مقاومةٍ قبل أن تتحوّل إلى ظاهرةٍ ثابتةٍ.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

وقد أدت هذه الاقتحامات المكثفة، وتصاعد عنف المستوطنين، وتخفيف شروط إطلاق النار لدى جنود الاحتلال إلى استشهاد أكثر من 163 فلسطينيًا منذ 7 أكتوبر حتّى أواسط نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

استغلال الفرصة لتسريع مخطط التهجير

حسب بيانات مؤسسة بتسيلم الإسرائيلية؛ المعنية بحقوق الإنسان، أقدمت قوات الاحتلال ومستوطنيه منذ السابع من أكتوبر على تهجير 16 تجمعًا بدويًا من شمال الضفّة إلى جنوبها، تهجيرًا كاملًا بواقع 847 مواطنًا، إضافة إلى تهجيرٍ جزئيٍ لـ 6 تجمعاتٍ أخرى، بواقع 89 مواطنًا، ما يعني أن قرابة ألف شخصٍ قد هُجّروا خلال أسابيع العدوان فقط. ويأتي هذا التهجير المتصاعد استكمالًا لمسعى إفراغ المناطق المصنفة (ج) حسب اتّفاقية أوسلو، من سكانها الفلسطينيين، ودفعهم للنزوح إلى مناطق (أ) و(ب) في المرحلة الحالية. حسب مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية هُجّر ما مجموعه 1105 فلسطينيين من 28 تجمعًا بدويًا منتشرٍ في مناطق (ج)، منذ أوائل عام 2022 حتّى بداية شهر سبتمبر/أيلول 2023.

يشير تصاعد عمليات التهجير إلى استغلال دولة الاحتلال الانشغال الحالي بالعدوان على غزّة لتسريع عملية تهجير الفلسطينين من مناطق (ج)، تنفيذًا لمخطط ضمها فعليًا. علمًا أنّ هذه المناطق تمثّل 62% من مساحة الضفّة الغربية، كما لا يتجاوز عدد سكانها الفلسطينيين 150 ألف مواطنٍ، إذ تمكّن الاحتلال خلال السنوات الماضية من دفع معظم سكانها إلى الانتقال للسكن في مراكز المدن والقرى الفلسطينية.

جاء حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لا ليغيّر مضمون هذه السياسات، إنّما ليسرع وتيرتها، ويزيد حجمها، ومدى عنفها، ما يعطي دفعةً قويّةً للمشروع الاستعماري الاستيطاني

يعتمد الاحتلال سياساتٍ عدّة لإفراغ تلك المناطق من سكانها، من بينها التضييق على إمكانية البناء والتوسع العمراني فيها، وحرمان الفلسطينيين من استغلال أراضيهم للزراعة ورعي الماشية التي تمثّل مصادر رزقٍ، خاصّةً للتجمعات البدوية. غير أنّ أهمّ أداةٍ لتنفيذ هذا المخطط هي المستوطنون وعنفهم الذي يجري برعايةٍ كاملةٍ من قوات الاحتلال، فقد شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في عنف المستوطنين كمًا ونوعًا. إنّ تتبع التقارير التي تصدرها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية تشير إلى أنّ حالات عنف المستوطنين أخذت تتزايد سنةً تلو الأخرى، لتصل إلى معدلٍ شهريٍ يبلغ قرابة 160 حالة اعتداءٍ شهريًا خلال العام الجاري. غير أنّه ومنذ بداية العدوان على غزّة شهد هذا المعدل تصاعدًا غير مسبوقٍ، إذ بلغ عدد حالات عنف المستوطنين في شهر أكتوبر/تشرين الأول قرابة 400 حالة، شملت قتل 9 فلسطينيين، وإطلاق نارٍ، وتخريب ممتلكاتٍ، ومهاجمة قاطفي الزيتون والمزارعين، ومهاجمة القرى والتجمعات البدوية. ولا تشمل هذه الإحصائية حملات الترهيب والتحريض الممنهجة، التي يمارسها المستوطنون ضدّ أفراد ومؤسساتٍ ومحلاتٍ تجاريةٍ، التي نفذ جيش الاحتلال على أثرها حملات اعتقالٍ، أو هدمٍ، أو إغلاقٍ.

الحرب الاقتصادية

منذ بداية العدوان أصبح أكثر من 139 ألف عاملٍ فلسطينيٍ، كانوا يعملون في الداخل المحتمل، في عداد العاطلين عن العمل، نتيجة الإغلاق المفروض على الضفّة، ومنع العمال من التوجّه إلى عملهم. لهذا الأمر تأثيرٌ بالغٌ على السوق الفلسطيني، إذ تمثّل أجور أولئك العمال، البالغة أكثر من مليار و400 مليون شيكلٍ إسرائيلي شهريًا، أحد أهمّ مصادر الدخل والنشاط التجاري في الضفّة. علاوةً على ذلك؛ حَرم إغلاق الضفّة المستمر السوق الفلسطينية من المتسوقين الفلسطينيين القادمين من القدس والداخل المحتل، الذين يفضلون شراء احتياجاتهم من الضفّة، نظرًا إلى انخفاض الأسعار فيها عمّا هي عليه في الداخل. وإلى ذلك، فإنّ التضييق على الحركة، ونشر الحواجز، وإغلاق القائم منها سابقًا، وانتشار المستوطنين في الشوارع، وتعريضهم حياة الفلسطينيين للخطر أدّى إلى تقليل النشاط التجاري، والقدرة على التوجّه إلى العمل لدى جزءٍ كبيرٍ من العمال والموظفين داخل الضفّة.

أمام هذه الأوضاع، التي أثرت بشدةٍ على الاقتصاد الفلسطيني، وقدرة المواطنين الشرائية، جاء قرار حكومة الاحتلال في 3 نوفمبر/تشرين الثاني باقتطاع جزءٍ من أموال المقاصة (الضريبة التي تجبيها دولة الاحتلال على البضائع المستوردة نيابة عن السلطة الفلسطينية، مقابل نسبة 3% تذهب إلى الاحتلال) المخصصة لقطاع غزّة، مضافًا إلى مبالغ أخرى تقتطعها حكومة الاحتلال، بدل الرواتب التي تدفعها السلطة الفلسطينية لعوائل الأسرى والشهداء الفلسطينيين، ليبلغ مجموع الاقتطاع، حسب وزارة المالية الفلسطينية، قرابة 600 مليون شيكلٍ إسرائيليٍ.

وقد أعلنت السلطة الفلسطينية رفضها استلام أموال المقاصة دون حصة غزّة، علمًا أنّها كانت تستلم أموال المقاصة منقوصةً، طوال أكثر من عامين، ما تسبب بأزمةٍ ماليةٍ، اضطرّت خلالها إلى دفع نسبة 80% من فاتورة الرواتب، وأشباه الرواتب التي تدفعها لقرابة 250 ألف موظفٍ ومستفيدٍ، بمجموع مليار و100 مليون شكيلٍ شهريًا. كانت هذه الخطوة بمنزلة ثالثة الأثافي التي قصمت ظهر الاقتصاد الفلسطيني، لا سيّما أنّ معظم الموظفين مرهونون بقروضٍ، وملتزمون بسداد شيكاتٍ شهريةٍ. وقد بدأ أثر هذه الخطوة ينعكس على القطاع الخاص، الذي أخذ يترنح على إثر كلّ هذه العوامل المتراكبة. إذ عمد عددٌ من الشركات والمصالح الخاصّة إلى تسريح عددٍ من موظفيها، أو تخفيض رواتبهم، أو تقليل ضغط العمل وساعاته في ظلّ ازدياد الأوضاع الاقتصادية سوءًا.

في ظلّ استمرار سياسيات الاحتلال، وتصعيدها عسكريًا وأمنيًا واستيطانيًا واقتصاديًا، يبدو أنّ العدوان قد انتقل فعليًا إلى الضفّة الغربية، ولكنه عدوانٌ من طرفٍ واحدٍ فقط. إذ تلتزم السلطة الفلسطينية الحياد، وتتجنب المواجهة على الأصعدة كافّة، لا تجاه العدوان على قطاع غزّة فقط، إنما تجاه ما يحدث في الضفّة الغربية أيضًا، التي بات الاحتلال يشكل واقعها ومستقبلها، في حين ينشغل العالم في العدوان على قطاع غزّة، وتستمرّ السلطة في المراهنة على دورٍ مستقبليٍ على أنقاض الضفّة وغزّة.

المساهمون