مضى عام على واقعة وفاة الفنان المصري الشاب شادي حبش في سجن طرة في ظروف غامضة، من دون أن تعلن النيابة العامة عن النتائج الكاملة للتحقيق، الذي قالت إنها فتحته بشأن أسباب وملابسات الحادث. وعلى مدار 365 يوماً، اكتفت بإصدار بيانين فقط بعد بضعة أيام من الوفاة، حمّلت فيهما المسؤولية لشادي نفسه، وحرصت على تبرئة ساحة إدارة السجن.
وكما تم اتهام الشاب من الإسكندرية خالد سعيد بالتسبب في قتل نفسه، في الحادث الشهير الذي وقع في 6 يونيو/حزيران 2010، وكان الشرارة الأولى لاندلاع ثورة يناير/كانون الثاني 2011 ضد نظام الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، أفادت الشهادات الصادرة من مستشفى السجن، وكذا من نزلائه، الذين لم تسمهم النيابة ولم تعلن هوياتهم، بأن اتجاه القضية يسير إلى أحد طريقين: الأول أن يكون شادي قد انتحر بقتل نفسه بشرب مادة الكحول، والثاني أن يكون قد توفي بسبب ممارسات خاطئة صحياً بمزجه الكحول مع مياه غازية عدة مرات، بحجة "الحصول على تأثير مشابه لتأثير المشروبات الكحولية"، تركت أثراً على أحد زملائه الذي ارتشف من ذلك الخليط، وأن شادي كان يحتفظ بزجاجات كحول من غير النوع المصروف للسجناء للوقاية من فيروس كورونا، ما أدى إلى إيذاء نفسه وتدهور حالته الصحية تدريجياً.
استندت النيابة العامة إلى تقرير مصلحة الطب الشرعي، الذي أكد أن سبب الوفاة هو التسمم بالكحول الميثيلي
وعبّر الإعلان المتعجل من النيابة العامة عن مجريات التحقيق في القضية، وعدم وفائها بقولها إنها ستواصل التحقيق وستعلن عن نتائجه، خلال عام كامل، عن رؤية النظام وأجهزته للتصرف المفترض في مثل هذه الحوادث التي تكلف مواطنين أرواحهم. فقد استهدف بيان النيابة، وكذلك بيان الداخلية عن وفاة شادي، الرأي العام لاحتمالات معينة، والمصادرة المبكرة لاحتمالات تعرّضه للتعذيب أو الضغط النفسي والعصبي والجسدي. أسهبت النيابة في تكرار التأكيد على أن شادي -الذي كان محبوساً احتياطياً على ذمة قضية إهانة وسب لرئيس الجمهورية لاشتراكه في إنتاج أغنية "بلحة" للمغني رامي عصام- كان بصحة نفسية وجسدية جيدة، وأنه لم يخضع للتعذيب والتعدي إطلاقاً، بحسب الشهود من زملائه الذين لم تكشف هوياتهم.
واستبقت النيابة العامة أيضاً إجراء جوهرياً كان من المتبع سلفاً اتخاذه فوراً من دون إعلان، وحتى قبل سماع الشهود، هو الإحالة للطب الشرعي وطلب تشريح الجثمان، وأخذ عينة حشوية منه لبيان المواد التي تناولها قبل الوفاة. وكذلك -وهو أمر أساسي في أي قضية وفاة داخل السجن- بيان مدى تعرّضه للتعذيب أو الانتهاك، ومدى صحة الإجراءات الطبية التي اتخذت بشأنه، خاصة وأن الوفاة حدثت بعد تردد شادي على مستشفى السجن مرتين في أقل من 24 ساعة. واستندت النيابة العامة فيما بعد في بيانها الثاني، وتحديداً بعد الوفاة بتسعة أيام، إلى تقرير مصلحة الطب الشرعي، الذي أكد أن سبب وفاته هو التسمم بالكحول الميثيلي ونواتج أيْضه، وما أحدثه من حموضة في الدم وتثبيط الجهاز العصبي المركزي وفشل تنفسي حاد، وأن الوفاة مُعاصرة للتاريخ الثابت بالتحقيقات، وأن المعمل الكيميائي في المصلحة أفاد بأنه بفحص العينات الحشوية المأخوذة من الجثمان، تم العثور على الكحول الميثيلي، وقد ثبت بإجراء الكشف الظاهري على الجثمان عدم وجود أي آثار إصابة ظاهرية حيوية حديثة به، تُشير إلى تماسك أو تجاذُب أو عُنف جنائي واقع على المتوفى.
لكن النيابة لم تتطرق، في أي بيان لها، ولم تعلن للرأي العام، نتيجة تحقيقها في مسألة مهمة، وهي مدى مسؤولية السلطات عن الواقعة. فالقواعد الأساسية في القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية تنص على أن واجب الحفاظ على صحة المحتجز، أو السجين، يقع على عاتق السلطات، ممثلة في مصر بوزارة الداخلية ومصلحة السجون، وعلى الأخص "بمنع دخول أشياء قد تضر بصحة المحتجز أو استخدامها للإضرار بنفسه، وكذلك العمل على حمايته، فضلاً عن معاملته بصورة لا تؤثر بالسلب على حالته النفسية"، وذلك وفقاً لقانون السجون المصري ولائحته. وتجاهلت النيابة جميع المقدمات التي أدت إلى ملابسات الوفاة من مقدمات وضغوط وآلام، تجعل من شادي مجنياً عليه في كل الأحوال، وهو الذي لا يملك من أمره شيئاً داخل محبسه، وسلامته أمانة معلقة في رقاب من تنص القوانين على مسؤوليتهم.
عكست رسائل شادي حبش، قبل وفاته، إلى زملائه خارج السجن حجم الألم النفسي الذي يعيشه
وعكست رسائل شادي حبش، قبل وفاته، إلى زملائه خارج السجن، حجم الألم النفسي الذي يعيشه، حيث طالب فيها بتكثيف الجهود للعمل على إخراجه للنور. فعلى سبيل المثال، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، كتب شادي شاكياً الوحدة: "السجن مابيموتش بس الوحدة بتموت، أنا محتاج دعمكم عشان ماموتش. في السنتين اللي فاتوا أنا حاولت أقاوم كل اللي بيحصلي لوحدي عشان أخرج لكم نفس الشخص اللي تعرفوه بس مبقتش قادر خلاص. مفهوم المقاومة في السجن إنك بتقاوم نفسك وبتحافظ عليها وإنسانيتك من الآثار السلبية من اللي بتشوفه وبتعيشه كل يوم، وأبسطها إنك تتجنن أو تموت بالبطيء". وفي مارس/آذار 2020 -أي قبل الوفاة بشهرين- أكمل شادي الحد الأقصى لفترة الحبس الاحتياطي، وهي عامان، ولم تخل السلطات سبيله منذ ذلك الوقت، بل أمرت النيابة العامة -جهة التحقيق ذاتها في واقعة الوفاة- والقاضي باستمرار حبسه بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية، ما فاقم أزماته التي وضعت الوفاة حدا لها.
وطرح حقوقيون تساؤلات عن مدى مسؤولية ومشاركة النيابة العامة ذاتها في بلوغ شادي هذه المرحلة من الحزن والألم والاكتئاب، الذي ربما أودى بحياته، إذا تم التسليم برواية النيابة العامة عن ملابسات وفاته. ووفقاً لمحامين، تكتظ السجون المصرية حالياً بأكثر من 1500 حالة، تم رصدها، لمحبوسين تخطّوا المدة القصوى للحبس الاحتياطي، وهي سنتان، علماً بأن القانون يستثني فقط من قاعدة الحد الأقصى المحبوسين الذين سبق الحكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد عند نظر قرارات حبسهم أمام محكمة النقض أو الإعادة. ورغم النص الصريح على ذلك، فإن المحاكم والنيابة العامة كانتا تطبقانه على نحو مخالف، منذ تعديله في عهد رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور إلى الصيغة المطبقة حالياً، بادعاء أنه يسمح بفتح مدد الحبس الاحتياطي لأي شخص وُجهت له اتهامات يعاقب القانون عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، وبالتالي انتحلت دوائر نظر استمرار الحبس صفة محكمة النقض ومحكمة الجنايات في مرحلة الإعادة. وتعاظمت خطورة الحبس الاحتياطي، مفتوح المدة وأثره الداهم على حرية الأفراد، في ظلّ إفراط النظام في اتباعه بعد 3 يوليو/تموز 2013، ليتحول من إجراء تحفظي وتدبير مؤقت يهدف في الأساس لمنع التأثير على مجريات القضية أو هروب المتهم، إلى عقوبة بحد ذاته. وسبق أن قدّر رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب المصري (رئيس لجنة النقل حالياً) علاء عابد، عدد المحبوسين احتياطياً في مصر حتى يناير 2018، بما بين 25 و30 ألف سجين من إجمالي عدد السجناء الذي يقارب 65 ألفاً. كذلك تشير تقارير وإحصاءات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية إلى أنّ "حالات الحبس الاحتياطي وصلت لعدد لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر".