مضى عامان على معركة "سيف القدس" (من 10 مايو/أيار 2021 حتى 21 منه) التي بدأتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة رداً على استيلاء مستوطنين إسرائيليين على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح، إضافة إلى عمليات الاقتحام المتصاعدة للمسجد الأقصى والانتهاكات ضد المصلين والمقدسيين عموماً.
بدأت المقاومة الفلسطينية في حينه المعركة مجتمعة، بقصف من "كتائب القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، مستوطنات القدس المحتلة، بالتزامن مع إطلاق "سرايا القدس"، الذراع العسكرية لحركة "الجهاد الإسلامي"، صاروخاً موجّهاً ضد جيب إسرائيلي شمالي غزة، بعد ساعات من تهديد رئيس هيئة أركان "كتائب القسام" محمد الضيف.
ومنذ اللحظة الأولى لبدء المعركة وحتى اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة مصرية وقطرية وأممية وبضغط أميركي، أظهرت المقاومة قدرات غير عادية للمرة الأولى حينها في تصديها للعدوان، وهي التي بادرت بتحديد ساعة الرد على الانتهاكات الإسرائيلية والعدوان.
أطلقت المقاومة خلال المعركة أكثر من 4 آلاف صاروخ، واستهدفت للمرة الأولى مطار رامون
وأطلقت المقاومة خلال المعركة أكثر من 4 آلاف صاروخ على مستوطنات ومدن الاحتلال، واستهدفت للمرة الأولى مطار رامون الذي يبعد عن غزة نحو 220 كيلومتراً، وكان قصفها مُركّزاً، إذ كانت تخرج في الرشقة الواحدة ما بين 35-130 صاروخاً، ما أدى إلى نتائج في مسار المعركة التي انتهت بمقتل 13 إسرائيلياً وإصابة 340 آخرين.
وتعرّضت غزة، التي ربطت هدوءها بما يجري في القدس والضفة المحتلتين والداخل، إلى دمار واسع. واستُشهد خلال المعركة نحو 250 فلسطينياً وأصيب نحو 5 آلاف، ودمر العدوان أبراجاً سكنية وجزءاً من شبكة أنفاق المقاومة في ضربةٍ كان يهدف من خلالها إلى قتل عشرات المقاومين الذين حاول استدراجهم للنزول في الأنفاق عقب إعلان مضلل وكاذب عن بدئه اجتياحاً برياً.
قواعد اشتباك جديدة
وفرضت المعركة قواعد اشتباك حقيقية على الأرض، خصوصاً في المسجد الأقصى، وبات التحرك الإسرائيلي فيه محسوباً حتى في ظل الحكومة الحالية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو، ومن نتائجها ما يجري في الضفة الغربية والقدس من عمليات شبه يومية ضد المستوطنين وقوات الاحتلال.
وأعادت معركة "سيف القدس" التي استمرت 11 يوماً الأمل للفلسطينيين بعد سنوات من الإحباط، وحرّكت خلايا المقاومة النائمة في الضفة حتى بات لها فعلها المقاوم في أتون المواجهة، وأكدت مرة أخرى أنّ الداخل الفلسطيني المحتل جزء لا يتجزأ من المعركة الكبرى مع الاحتلال والذي كان يحاول طوال الوقت تدجين الفلسطينيين فيه، الذين اشتبكوا بأدواتهم مع المحتل.
وأكد القيادي في حركة "حماس" إسماعيل رضوان، لـ"العربي الجديد"، أنّ معركة "سيف القدس" وحّدت الشعب الفلسطيني على خيار المواجهة والتصدي بعد سنوات من محاولات التدجين، ورفعت المعنويات عالياً، وكان من مفاعيلها ما يجري اليوم في الضفة الغربية من مقاومة متصاعدة ومن حراك في الأراضي المحتلة عام 1948.
رضوان: ما تخبئه المقاومة اليوم أكبر بكثير مما يعلمه الاحتلال
وأشار رضوان إلى أنّ المعركة أكدت وحدة الساحات وترابط جبهات المقاومة، ومعادلة غزة-القدس، وقبل أيام جرى تأكيد معادلة غزة الأسرى، من خلال الرد على جريمة اغتيال القيادي الأسير الشيخ خضر عدنان، وأنّ الأسرى خط أحمر كما أنّ القدس خط أحمر.
وتحدث عن قدرات المقاومة وإمكاناتها في المعركة، خصوصاً أنها باغتت الاحتلال بكل جديد من دون أن يُقدّر خطواتها، في ظل ما سماه عجز "القبة الحديدية" عن التصدي لصواريخ المقاومة، مشدداً على وجود ارتقاء نوعي في قدرات المقاومة وأنّ ما تخبئه اليوم أكبر بكثير مما يعلمه الاحتلال.
وشدد رضوان على أنّ أي "حماقة" إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ستشعل حرباً في المنطقة كلها، والرد عليها سيكون مؤلماً وكبيراً للاحتلال، موضحاً أنّ الاحتلال "يستطيع بدء العدوان لكنه لن يستطيع إنهاءه ولا تحديد نتائجه".
تحوّل في مسيرة المقاومة
أما القيادي في حركة "الجهاد الإسلامي" داود شهاب، فأشار في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ معركة "سيف القدس" شكّلت تحوّلاً فارقاً في مسيرة المقاومة الفلسطينية، وهي ليست حدثاً عابراً في سير المواجهة مع الاحتلال، فقد تحوّلت إلى واحدة من أهم قواعد الاشتباك، وحققت هدفاً مهماً يتمثل في جعل القدس من أقوى العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تفجير كبير للأوضاع.
وأضاف أن هذا يعد بُعداً استراتيجياً في الصراع في ظل اشتداد الهجوم الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى وسعي الاحتلال لحسم الصراع على القدس، مؤكداً أنّ رسالة معركة "سيف القدس" كانت أن إسرائيل لم ولن تنجح في حسم الصراع على مستقبل مدينة القدس، وأن المواجهة مفتوحة.
شهاب: رسالة معركة "سيف القدس" كانت أن إسرائيل لم ولن تنجح في حسم الصراع على مستقبل مدينة القدس
وأوضح شهاب أنّ المهم في المعركة أنها أعطت مساحة واسعة لمشاركة كل الشعب الفلسطيني في المواجهة، فما شهدته المواجهات في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 أو في الضفة الغربية وحتى في تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في اللجوء والشتات يعكس الأهمية الاستراتيجية لتلك المعركة، التي فتحت الطريق فيما بعد لوحدة الساحات التي كانت عنوان معركة خاضتها "سرايا القدس" في أغسطس/آب 2022.
وبيّن شهاب أنّ المعركة حققت نتائج مهمة على صعيد اشتعال الضفة الغربية في وجه الاحتلال ومستوطنيه، مشيراً إلى أنّ الشهيد جميل العموري مؤسس "كتيبة جنين" ومجدد حالة الاشتباك في الضفة، بدأ بتشكيل نواة المجموعات العسكرية في جنين كنتيجة لمعركة "سيف القدس"، والتي شكّلت دافعاً للشباب الفلسطيني في الضفة للانخراط في صفوف المقاومة.
ولفت إلى بُعد آخر في المعركة، إذ فتحت الباب أمام مشاركة قوى المقاومة في المواجهة عبر جبهات أخرى مثل لبنان وسورية، في إشارة لما جرى في 7 إبريل/نيسان الماضي من خلال الرد الصاروخي على اقتحام وتدنيس الأقصى والاعتداء على المرابطين والمعتكفين فيه.
وأوضح أنه قبل "سيف القدس" كانت المعارك التي خاضتها المقاومة الفلسطينية من غزة، تأتي تحت عناوين لها علاقة بالقطاع، أما المعركة ذاتها فقد تجاوزت ذلك عندما جاءت المقاومة للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، لافتاً إلى أن هذا الأمر جاء على غير ما كانت تتوقعه المنظومة الأمنية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية التي سعت لإشغال كل منطقة جغرافية بمشاكلها وقضاياها وبالتالي الفصل بين الساحات.
إسرائيلياً، كانت المعركة مختلفة من حيث بدؤها وربطها بالقدس، بعد سنوات من محاولة إلهاء الفلسطينيين بقضايا حياتية واقتصادية. ورصد الخبير في الشأن الإسرائيلي حاتم أبو زايدة، في حديث مع "العربي الجديد"، أبعاداً جديدة لمعركة "سيف القدس"، مشيراً إلى أنها أدت إلى كيّ وعي نوعي في العقل الجمعي الإسرائيلي، فمنذ قرار الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 2005 كان المخطط تحييد جبهة غزة وإبعادها عن الفعل المقاوم بشكل كامل، لكنها في "سيف القدس" أعادت الاعتبار لتوحيد الجبهات وأجنحة الوطن، وكانت رداً من المقاومة على محاولات ترويضها.
ودفعت المعركة، وفق أبو زايدة، باتجاه التأكيد للنخبة الإسرائيلية بأنّ القطاع قادر على المبادرة والقصف والذهاب إلى الأمام بغض النظر عن النتائج، فالجيش الإسرائيلي كان دائماً يفاجئ ويبادر في شن العدوان، بينما هنا كانت المقاومة هي المُبادِرة.
وأوضح أنّ المعركة "أعادت الاعتبار لقضية القدس والأقصى، ومركزيتها، وأكدت أنّ المقاومة لا تتوانى إذا تم العدوان على المسجد الأقصى، خصوصاً في ظل ما يجري من محاولات تقسيم زماني ومكاني"، مبيناً كذلك أنّ "سيف القدس" دفعت إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية عربياً وإسلامياً.
ونبّه أبو زايدة إلى أنّ القيادات السياسية والأمنية والعسكرية في دولة الاحتلال باتت تحسب حساباً لأي خطوة ولو صغيرة في المسجد الأقصى، وهذا يعكس مدى كيّ الوعي الذي حدث للعقلية الإسرائيلية النخبوية والجمعية. وأشار إلى وجود شعور عام في إسرائيل بأنّ قدرة الردع انهارت ولم تتآكل فقط، وأنّ القيادة السياسية المتطرفة بحاجة إلى بناء قدرة الرد، وهذا يعني أنها بحاجة إلى حرب مفاجئة ودموية وتفكيك وحدة الجبهات والساحات.
وهذا يعني، وفق تقدير أبو زايدة، بأنّ الاحتلال بحاجة إلى إعادة بناء قوة الردع والوجه القوي والدموي للآلة العسكرية الإسرائيلية على حساب الدم الفلسطيني، وهو ما قد يفتح المجال أمام تفجّر الوضع والقيام بمبادرة من الاحتلال لإعادة الاعتبار للمشروع الصهيوني.