عاصفة "الإصلاحات القضائية": حسابات نتنياهو و"انهيار إسرائيل"

27 مارس 2023
نتنياهو في الكنيست، 20 مارس (جيل كوهين ماغن/فرانس برس)
+ الخط -

تمرّ إسرائيل بأكثر مراحل تاريخها انقساماً واستقطاباً، وفي ظل تشظٍ كبير في مجتمعها، بفعل سعي حكومة بنيامين نتنياهو إلى تعديل النظام القضائي تحت مسمى "الإصلاحات القضائية"، وذلك بهدف إحداث تحول على موازين القوى في العلاقة بين السلطات الثلاث الرئيسية (القضاء، الكنيست، الحكومة). وبرزت مساء أمس الأحد إقالة نتنياهو وزير الأمن يوآف غالانت لاعتراض الأخير على خطة "الإصلاحات القضائية".

وترمي هذه التعديلات إلى تعزيز قدرة الحكومة على التحكم بالجهاز القضائي وتقليص قدرته على التدخّل في القوانين التي يسنّها الكنيست، والقرارات التي تتخذها الحكومة عبر تقليص قدرة المحكمة العليا على تعطيل هذه القوانين وإلغاء تلك القرارات من خلال سنّ قانون "التغلب".

في الوقت ذاته، فإن التعديلات تهدف إلى إلغاء المكانة المستقلة للمستشار القضائي للحكومة، لينحصر دوره في الدفاع عن قرارات الحكومة وليس فحص مدى قانونيتها والاعتراض عليها ونزع الشرعية عنها، كما تفعل المستشارة الحالية غالي بيهارف ميارا.

كما أن هذه التعديلات ترمي أيضاً إلى تحسين قدرة الحكومة على القيام بدور حاسم في تحديد هوية قضاة المحاكم، لا سيما أعضاء المحكمة العليا، عبر إحداث تحوّل على موازين القوى داخل اللجنة التي تختار هؤلاء القضاة.


حذر باراك ويعلون وغانتس من مخاطر اندلاع حرب أهلية وباردو وأرغمان من انهيار إسرائيل 

وحسب ما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في عددها الصادر الجمعة الماضي، فإن الائتلاف الحاكم يخطط، في إطار "الإصلاحات القضائية"،  لتمرير141 قانوناً كلها تتعلق بطابع العلاقة بين الحكومة والجهاز القضائي.

وأدت ثلاثة عوامل رئيسة دوراً في تحديد طابع المواقف التي تبناها الأفرقاء في الساحة الإسرائيلية من "الإصلاحات القضائية"، وشملت هذه العوامل: الاعتبارات الشخصية، الموقف من طابع العلاقة بين الدين والدولة، والموقف من الصراع مع الشعب الفلسطيني.

حماس نتنياهو للإصلاحات القضائية

وعلى الرغم من أن جميع الأحزاب التي تشارك في حكومة نتنياهو تؤيد "الإصلاحات القضائية"، إلا أنها تتفاوت في طابع العوامل التي تؤجج حماسها لهذه التعديلات. ويبدي كل من نتنياهو ورئيس حركة "شاس" الحاخام آرييه درعي، الشريك الثاني في الائتلاف الحاكم، حماساً كبيراً لهذه الإصلاحات لاعتبارات شخصية.

فنتنياهو، الذي يحاكم في ثلاث قضايا فساد خطيرة، معني بأن يسن الكنيست قانوناً يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة طالما كانوا يشغلون مواقعهم الرسمية، وأطلق على هذا القانون تسمية "القانون الفرنسي".

ومن أجل تمرير القانون، فإن نتنياهو معني بتمرير قانون "التغلب" الذي يجرد المحكمة العليا من صلاحية إعادة النظر في القوانين التي يسنها الكنيست، حتى لا يفتي بعدم دستورية "القانون الفرنسي".

كما أن درعي معني بسن قانون "التغلب" حتى يتمكن من تجاوز قرار المحكمة العليا، التي أمرت بإقالته من منصبه كوزير للداخلية والصحة ونائب لرئيس الحكومة، لأنه سبق أن صدر بحقه حكم بالسجن لإدانته بالتهرب الضريبي.

ويتمثل الاعتبار الثاني في الموقف من طابع العلاقة بين الدين والدولة، فالأحزاب الدينية المشاركة في الحكومة، وتحديدا الأحزاب الحريدية، معنية بـ"الإصلاحات القضائية" التي تحد صلاحيات المحكمة العليا، حتى تتمكن من سنّ القوانين التي تكرس الطابع الديني للدولة.

من هنا لم يكن غريباً أن تكون حركة "يهدوت هتوراة"، المشاركة في الائتلاف، الأكثر حماساً لسنّ قانون "التغلب"؛ وهدد النائب الحاخام موشيه غفني بأن حركته ستنسحب من الائتلاف في حال لم يتم سنّ القانون.

أما الاعتبار الثالث فيتمثل في الموقف من الصراع مع الشعب الفلسطيني، إذ يبدي حزب الليكود وحركتا "القوة اليهودية" بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير و"الصهيونية الدينية" بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، حماساً للإصلاحات القضائية لأنها تساعد على إزالة "العقبات القانونية" التي تحول دون حسم الصراع مع الفلسطينيين.

وعلى الرغم من أن المحكمة العليا لم تقف يوماً عائقاً أمام تشريع السياسات القمعية ضد الشعب الفلسطيني، إلا أن ما تعرضه "القوة اليهودية" و"الصهيونية الدينية" على صعيد الإجراءات الهادفة لحسم الصراع، تحديداً مخططات الطرد، والتوسع في القمع وتدمير المنازل وغيرها من سياسات، أكبر من أن تغض المحكمة العليا النظر عنه.

وعلى صعيد القوى السياسية والمجتمعية المعارضة لـ"الإصلاحات القضائية"، فإنها تسوّغ رفضها واحتجاجها على هذه الإصلاحات بحرصها على "الديمقراطية" الإسرائيلية، على اعتبار أن هذه التعديلات تضع حداً للفصل بين السلطات، الذي يعد أحد ضمانات الحكم الديمقراطي.

في الوقت ذاته، فإن القوى العلمانية ممثلة بأحزاب المعارضة وكثير من القوى المجتمعية، تخشى أن تسهم التعديلات القضائية في تحسين قدرة الأحزاب الدينية على المس بطابع الحياة "الليبرالية" في إسرائيل، وتحديداً على صعيد الموقف من المرأة، ومنظومة قوانين الأحوال الشخصية، والمثليين.

وإلى جانب أحزاب المعارضة، فإن الكثير من النقابات ووسائل الإعلام والأطر الجماهيرية تعارض "الإصلاحات القضائية". وتؤدي نقابة المحامين على وجه الخصوص دوراً رئيساً في إبراز المسوغات القانونية التي تستدعي مواجهة الإصلاحات القضائية.

ومما لا شك فيه أن وسائل الإعلام، ممثلة في القنوات الكبيرة والصحف الرئيسية، وضمن ذلك مؤسسات إعلامية تابعة لسلطة البث المملوكة للدولة، باتت تبدي موقفاً معارضاً شرساً لهذه التعديلات.


الحكومة غير معنية حتى الآن بإحداث تغييرات حقيقية على "الإصلاحات القضائية"

ونظراً لأن إسرائيل ترى ذاتها دائماً ككيان تتربص به الأخطار بفعل طابع المحيط المعادي الذي تعيش وسطه، فإن موقف المؤسستين العسكرية والأمنية من "الإصلاحات القضائية" يكتسب أهمية فائقة.

وقد التزم قادة الجيش والاستخبارات والشرطة في البداية الصمت إزاء الجدل الدائر بين الحكومة ومعارضيها بشأن الإصلاحات، وإن كان رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي قد اعتذر بعد أن قال في لقاء خاص إنه يفضّل الديكتاتورية على عدم الاستقرار.

وأدت ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، ومبادرة الآلاف من ضباط وجنود قوات الاحتياط إلى الإعلان عن رفضهم الخدمة العسكرية رداً على التعديلات القضائية، دوراً مهماً في دفع قادة الجيش والاستخبارات إلى التدخل والتحذير من التداعيات الخطيرة على تماسك الجيش والأجهزة الأمنية وقدرتها على تنفيذ المهام المناطة بها.

وحسب ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في عددها الصادر الجمعة الماضي، فقد أرسل هاليفي إلى نتنياهو رسالة حذره فيها من أن تخلف ضباط وجنود الاحتياط عن أداء الخدمة العسكرية مس بقدرة الجيش على أداء مهامه. ونظراً لأن 70 في المائة من الجهد الحربي لإسرائيل تضطلع به قوات الاحتياط، فإن تهاوي منظومة هذه القوات سيقلص بشكل كبير قدرة الجيش على أداء مهامه العسكرية والأمنية، تحديداً في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد والحساسية.

وإن كان قادة الجيش والمؤسسة الأمنية يكتفون بالتحذير من تداعيات الإصلاحات القضائية على قدرة الجيش على أداء مهامه، فإن قيادات عسكرية واستخبارية في الاحتياط كانت أكثر شراسة في التعبير عن موقفها الرافض للإصلاحات القضائية.

فقد حذر رئيس الوزراء السابق، رئيس الأركان السابق إيهود باراك، وكل من موشيه يعلون وبني غانتس، اللذين تبوّأا منصب وزير الأمن ورئيس الأركان في السابق، من مخاطر اندلاع حرب أهلية. أما تامير باردو الرئيس السابق لجهاز الموساد ونداف أرغمان الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، فقد حذرا من انهيار إسرائيل ذاتها في أعقاب هذه الإصلاحات.

مخاطر إقرار الإصلاحات القضائية

ودفع هذا الواقع بعض وزراء ونواب حزب "الليكود" الذي يقوده نتنياهو إلى التحذير من مخاطر مواصلة خطط إقرار "الإصلاحات القضائية" بسبب إسهامها في تفكك المجتمع، ونظراً للثمن الاقتصادي والأمني الباهظ الذي تدفعه إسرائيل مقابلها. فقد دعا وزير الأمن (الذي أقاله نتنياهو مساء أمس) يوآف غالانت ووزير الاقتصاد نير بركات والنائبان ديفيد بيتان ويولي إدلشتاين إلى التوقف عن تمرير هذه التعديلات.

وفي حال صوّت القادة الليكوديون الأربعة أو امتنعوا عن التصويت على "الإصلاحات القضائية"، فإن الحكومة لن تتمكن من تمريرها. وهذا يفسر الدعوات التي تتعاظم حالياً في "الليكود" للأربعة بالاستقالة فوراً على اعتبار أن "الليكود" التزم خلال الحملة الانتخابية بتمرير هذه التعديلات.


الإصلاحات القضائية بالنسبة لنتنياهو طوق النجاة الوحيد من المكوث في السجن

من الواضح أنه في حال أدرك نتنياهو أن معارضي "الإصلاحات" داخل "الليكود" سيصوّتون ضدها عند طرحها في الكنيست، فسيكون أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما إدخال تعديلات على "الإصلاحات" بشكل يضمن على الأقل وحدة "الليكود"، أو تجميدها بشكل كامل.

وفي المقابل، ففي حال اكتفى معارضو "الإصلاحات" داخل "الليكود" بدفع ضريبة كلامية والتزموا بـ"الانضباط الحزبي" وصوّتوا لصالح "الإصلاحات"، فسيتم تمريرها، وهي بالنسبة لنتنياهو طوق النجاة الوحيد من المكوث في السجن لمدة طويلة.

وعلى الرغم من أن الحكومة ادعت أنها أدخلت بعض التعديلات على "الإصلاحات القضائية" من منطلق محاولة التوافق مع المعارضة، إلا أن هذه التعديلات لم تمس، في الحقيقة جوهر هذه "الإصلاحات" ولم تؤثر على إسهامها في تمكين الائتلاف الحاكم من إحكام قبضته على الجهاز القضائي.

فعلى سبيل المثال عدل وزير القضاء يريف ليفين مشروع القانون المتعلق بتشكيل اللجنة المكلفة باختيار القضاة، تم تقليص عدد ممثلي الحكومة في اللجنة. لكن المشروع الجديد منح، في المقابل، وزير العدل لوحده صلاحيات أوسع في مجال تحديد القضاة المرشحين لأن يكونوا أعضاء في المحكمة العليا.

وشملت التعديلات إرجاء طرح قانون "التغلب" والقوانين المتعلقة بدور ومكانة المستشار القضائي إلى الربيع، لكن في المقابل فإن الائتلاف قرر إنهاء التصويت بالقراءة الثانية والثالثة على مشروع القانون المتعلق بتشكيل اللجنة المكلفة باختيار القضاة خلال الأسبوع الحالي.

ومما يدل على أن الحكومة غير معنية حتى الآن بإحداث تغييرات حقيقية على "الإصلاحات القضائية"، حقيقة أنها مررت بالفعل عدة "إصلاحات" بشكل نهائي، مثل القانون الذي يمنح عملياً نتنياهو حصانة من الإقالة، وقانون يلغي عملياً قرار المحكمة العليا الذي حظر على درعي أن يشغل منصب وزير بسبب صدور حكم بالسجن ضده بعد إدانته بالتهرب الضريبي.

وفي حال تم تمرير "الإصلاحات القضائية"، فإن بعض سيناريوهات الرعب التي يحذر منها معارضوها ستكون مرشحة للتحقق، وهذا سيُدخل إسرائيل حقبة جديدة تماماً.