بعد تعرضه لهجوم محافظ شديد على خلفية انتقاداته الأخيرة لتبني "طموح وأمانٍ أكبر من القدرات والإمكانيات المتاحة" في السياسة الخارجية الإيرانية، أطلّ وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، ليل أمس الثلاثاء، في برنامج حواري على منصة اجتماعية، ليوجه انتقادات شديدة لخصومه السياسيين من التيار المحافظ، كاشفاً عن بعض المستور في ملفات خارجية إيرانية، في مقدمتها المفاوضات النووية والاتفاق النووي المبرم عام 2015، فضلاً عن الدفاع عن سجله في إدارة هذه الملفات، في مواجهة الهجمات المستمرة من التيار المحافظ ضده.
وتحدث وزير الخارجية الإيراني السابق لساعات طويلة عن ملفات مختلفة في برنامج حواري على منصة "كلوب هاوس"، بمشاركة آلاف الإيرانيين، منها المفاوضات مع واشنطن بشأن ملفات إقليمية، لكنّ كلمته تركّزت بالأساس على ظروف مرحلة ما قبل الاتفاق النووي وبعده، مروراً بالانسحاب الأميركي منه عام 2018، ووصولاً إلى المفاوضات النووية المتعثرة راهناً لإحياء هذا الاتفاق.
كيف بدأت المفاوضات النووية؟
أشار وزير الخارجية الإيراني السابق إلى مرحلة توليه وزارة الخارجية عام 2013، وطريقة بدء المفاوضات النووية المباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي تُوجت بالتوصل إلى اتفاق نووي عام 2015.
وقال ظريف الذي يتهمه معارضو الاتفاق من المحافظين المتشددين بـ"الخيانة" إن المفاوضات المباشرة مع الجانب الأميركي لم تبدأ مع توليه الوزارة وتشكيل الحكومة برئاسة الرئيس حسن روحاني عام 2013، بل بدأت في العاصمة العُمانية مسقط، قبل عام من تشكيل روحاني حكومته الأولى بعد الفوز بالرئاسة.
وكشف عن أن الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد وأمين مجلس الأمن القومي الإيراني الأسبق سعيد جليلي كانا يعارضان المفاوضات مع الأميركيين، لكنها بدأت بـ"تصريح من القائد" علي خامنئي. وأضاف أن مفاوضات مسقط مع الأميركيين عام 2012 "قد كسرت الحاجز"، وأجراها عن الجانب الإيراني وزير الخارجية الأسبق علي أكبر صالحي "على الرغم من معارضة شديدة" من جليلي وأحمدي نجاد آنذاك.
وشرح أن الجولة الثانية من المفاوضات مع الأميركيين جرت آنذاك بين نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الأوروبية والأميركية علي أصغر حاجي، ونائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز الذي يتولى حالياً رئاسة الاستخبارات الأميركية. وأكد أن كل تلك المفاوضات جرت قبل وصول روحاني إلى الرئاسة عام 2013 وتوليه هو وزارة الخارجية في حكومته.
وهاجم ظريف سياسات محمود أحمدي نجاد وسعيد جليلي، متهماً الأول بأنه عزز الإجماع الأمني الدولي ضد إيران بتصريحاته حول نفي "الهولوكوست"، وموقفه من المفاوضات النووية والملف النووي، والقرارات الدولية التي وصفها آنذاك بأنها "مجرد قصاصات ورق".
وتابع أنه وفريقه المفاوض نجحا في المفاوضات النووية والاتفاق الناتج عنها في كسر الإجماع الدولي ضد إيران، وإخراجها من تحت الفصل الأممي السابق، عبر إلغاء ستة قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن.
اتهامات للسعودية وإسرائيل
واتهم وزير الخارجية الإيراني الأسبق السعودية وإسرائيل بأنهما قامتا بما كان بوسعهما لمنع إبرام الاتفاق النووي وبقاء الإجماع الأمني الدولي ضد إيران.
وهنا قال ظريف إن الموقف الإسرائيلي الرافض للاتفاق النووي دافعه الأساسي هو بقاء المشكلة، والإجماع ضد إيران، وليس منع حصول إيران على الأسلحة النووية، لأن الاتفاق النووي كما قال هو أفضل آلية لمنع ذلك، مؤكداً أن بلاده لا تسعى إلى تلك الأسلحة والمرشد الإيراني قد حرّم ذلك، وأن إسرائيل تستخدم ذلك كشماعة ومسوغ لاستمرار الإجماع الدولي ضد إيران.
وكشف ظريف عن أن السعودية "أخرت التوصل إلى الاتفاق النووي لستة أشهر"، قائلاً إنه خلال المفاوضات، زار وزير الخارجية السعودي الأسبق سعود الفيصل فيينا، وأجرى مباحثات مع نظيره الأميركي السابق جون كيري، واعداً إياه بأن الرياض ستعمل على خفض كبير لأسعار النفط، لإجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر.
وأكد أن تلك الضغوط السعودية أخرت الوصول إلى الاتفاق النووي، "لكن ما حصلنا عليه لم يختلف كثيراً، وحتى عاد بالنفع علينا"، متحدثاً عن أن السعودية والإمارات، لوجود أرصدة كبيرة لهما في البنوك الغربية، منعتا تلك البنوك من العمل مع إيران بعد الاتفاق النووي.
كما أشار ظريف إلى مواقف روسية خلال المفاوضات النووية، قائلاً إنها عرقلت بعض الأحيان التوصل إلى الاتفاق، عندما أعلنت موسكو أنها مستعدة لتزويد إيران بالوقود النووي، بينما كانت بلاده تسعى إلى انتزاع حق إنتاج هذا الوقود في الداخل خلال المفاوضات مع المجموعة الدولية.
وتابع ظريف في تعليق على هجمات محافظين المستمرّة ضد الاتفاق النووي، أن "الاتفاق فكّ السلسلة من أقدامنا، لكنه لم يكن من المقرّر أن يعلّمنا الركض"، مشيراً إلى أن بلاده تلقت طلبات بعد إبرام الاتفاق باستثمار 85 مليار دولار في إيران، لكن قُبلت منها فقط طلبات باستثمار مليارين، مما جعل الانسحاب الأميركي سهلاً من الاتفاق ومن دون أثمان. وهنا، انتقد ظريف عدم دخول إيران في اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة الأميركية بعد إبرام الاتفاق النووي.
وأكد ظريف أن فريق التفاوض الإيراني كان يرفع باستمرار محاضر وتقارير عن تفاصيل المفاوضات النووية إلى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، قائلاً إنه إذا ما كان عنده تحفظ أو ملاحظة كان يبلغهم بها، مع القول إن الفريق حقق الشروط التسعة التي حدّدها المرشد حول المفاوضات والاتفاق المتمخض عنها.
وخاطب الوزير الإيراني السابق معارضي الاتفاق في الداخل الإيراني متسائلاً: "لماذا لا ترمون الاتفاق ولا تدفنونه إذا كان بمثابة خيانة؟"، مضيفاً أنه منذ عامين ترك المنصب، ولم يعد على أي علاقة بالملف، ويدرّس حالياً في كلية الدراسات العالمية بجامعة طهران "لكنهم ما زالوا يتابعون الاتفاق النووي"، في إشارة إلى استمرار الحكومة الإيرانية الحالية المحافظة في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي.
وكشف ظريف عن أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد دعاه لزيارته في مكتبه بالبيت الأبيض خلال فترة رئاسته، لكن السلطات الإيرانية لم تسمح بذلك، قائلاً "نقلت هذه الرسالة إلى طهران، وقلت إنني إذا فشلت (بالمباحثات) سأقبل العقوبة"، غير أن الطلب رفض، مشيراً إلى أنه علم في وقت لاحق أن رسالته "لم تصل إلى المستويات العليا، ورُفضت في المستويات الدنيا".
وأكد وزير خارجية إيران السابق أيضاً أنه خلال زيارته إلى باريس عام 2019، أخبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن دونالد ترامب الموجود آنذاك في باريس "مستعد لمقابلتي، لكن لم يُسمح لي باللقاء".
المفاوضات النووية الراهنة
أكد وزير خارجية إيران السابق أنه "لا بديل أفضل للاتفاق النووي"، مشيراً إلى أن خطوات بلاده في تعزيز قدراتها النووية، وإنتاج وتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة، لن تؤدي إلى إبرام اتفاق أفضل من الاتفاق النووي.
وأضاف أنه لا يملك "أي معلومات عن كواليس المفاوضات، ولذلك لا يستطيع أن يحكم، لكن الصورة التي يراها ليست جميلة"، متحدياً خصومه والحكومة الحالية إذا ما استطاعت إبرام اتفاق أفضل من الاتفاق النووي.
وفيما يشكل الحصول على ضمانات من الجانب الأميركي مطلباً إيرانياً خلال المفاوضات النووية الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي، إلا أن ظريف قال إن لا معنى للضمانات في العلاقات الدولية، وإن وجود المصالح هو الذي يضمن.
وفي سياق آخر، اعتبر ظريف أن اتفاق الحكومة الإيرانية الحالية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن تركيب كاميرات مراقبة في المنشآت النووية، يتعارض مع القانون الذي أقره البرلمان المحافظ مطلع عام 2020. وأضاف أن هذه الإجراءات "تُتخذ لدفع الشر، لكن يجب أن يحصلوا على ثمن لها"، وذلك في إطار مناكفة المحافظين الذين وقفوا بالمرصاد لظريف وفريقه المفاوض سواء خلال المفاوضات التي انتهت إلى التوصل للاتفاق النووي عام 2015، أو خلال المفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق والتي أجريت ست من ثماني جولاتها منها في عهد ظريف.
الحرب الأوكرانية والاتفاق مع الرياض
وفي تعارض مع الموقف الإيراني الرسمي الذي يلوم الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في الحرب الأوكرانية، متهماً إياهما بالتسبب في اندلاع هذه الحرب، قال وزير خارجية إيران السابق إن ما فعلته روسيا ضد أوكرانيا "عدوان".
وحول الاتفاق الإيراني مع السعودية لاستئناف العلاقات، أكد ظريف أنه يرحب "للغاية" بتحسين العلاقات مع السعودية "لكن بشرط أن يتم ذلك ببصيرة".
وعرّج على الهجمات على السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران مطلع عام 2016 من قبل محافظين متشددين، تزامناً مع بدء تنفيذ الاتفاق النووي، مؤكداً أن تلك الهجمات "كانت عكس المصالح الإيرانية". وأضاف أن بلاده، عندما تعرضت السفارة السعودية فيها للهجوم، كانت في "وضع دولي مناسب، والسعودية كانت في عزلة، والاتفاق النووي قد بدأ يُنفذ، والسعوديون كانوا في موقف الدفاع"، قائلاً إن تلك الهجمات على البعثات السعودية منحت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان "فرصة ذهبية لتشكيل تحالف ضد إيران وتغيرت الظروف لصالح السعودية".
وأوضح أن الرياض آنذاك اعترضت على الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، متسائلة "لماذا تتصالحون مع إيران وأوباما قال لهم حلوا مشكلاتكم مع إيران بأنفسكم"، مضيفاً أن "السعودية في تلك الفترة كانت في هذا الوضع، لكن كيف وضعها اليوم؟ هي في وضع دفع الرئيس الصيني (شي جين بينغ) خلال زيارته إلى السعودية إلى القول لهم إنكم من أركان النظام العالمي في المستقبل".
وبهذه التصريحات، حاول ظريف انتقاد موقف المحافظين في إيران، الذين يشيدون اليوم بالاتفاق مع السعودية، معتبرين أن ذلك من إنجازات الحكومة الإيرانية الحالية المحافظة، ومنحها الأولوية للعلاقات مع الجيران.
المفاوضات مع واشنطن بشأن أفغانستان والعراق
إلى ذلك، كشف ظريف عن أنه أجرى مفاوضات مباشرة مع الأميركيين في ملفي أفغانستان والعراق قبل عقدين من الزمن، قائلاً إنه أجرى مفاوضات مع الأميركيين بشأن أفغانستان خلال المشاركة في مؤتمر بون في ألمانيا في نوفمبر تشرين الثاني 2001، والذي ركز على اختيار نظام بديل عن "طالبان" بعد الحرب الأميركية على أفغانستان.
وقال ظريف إنه كان على تواصل وتنسيق وثيق ومباشر مع قائد "فيلق القدس" السابق الجنرال قاسم سليماني بشأن مفاوضاته مع الأميركيين حول أفغانستان والعراق، مضيفاً أنه لولا دعم الأخير "لما تمكنت إيران من لعب دور كبير" في المفاوضات الأفغانية التي أدت إلى نظام بديل لـ"طالبان" عام 2001.
كما كشف وزير الخارجية الإيراني السابق عن أنه أجرى ثلاث جولات من التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية بشأن العراق، جولتان قبل الحرب الأميركية عليها عام 2003 وجولة واحدة بعد الحرب، مشيراً إلى أنه أجرى هذه المفاوضات كلها "بإذن" من السلطات الإيرانية العليا، وأنه كان يرفع التقارير بشأنها إلى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي.
وأضاف أنه كان ينسق مفاوضاته مع الأميركيين بشأن الملفين مع الجنرال سليماني، لافتاً إلى أن صداقته مع سليماني تشكلت خلال تلك المفاوضات.
وأكد أن هذه المفاوضات "حققت مكاسب منقطعة النظير، ليس لأنني كنت مسؤول المفاوضات، بل لأنني على قناعة بأنه بتنسيق بين الدبلوماسية والميدان (يقصد منه الميدان العسكري، أي نشاطات فيلق القدس) حققنا مكاسب جيدة حول البلدين (أفغانستان والعراق)".