كشف إعلان الولايات المتحدة أخيراً عن شراكة أمنية استراتيجية، تضّم إلى جانبها بريطانيا وأستراليا، عن صراع خفيّ تحت الماء بين بكين وواشنطن. ففي ظلّ تكثيف وجودها الأمني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تسعى البحرية الأميركية إلى الحفاظ على تفوّقها تحت الماء على منافسيها، خصوصاً الصين. وهذا ما قد يفسّر أسباب اعتزامها مشاركة تكنولوجيا الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية مع أستراليا، بعدما لم تشاركها سوى مع البريطانيين، كجزء من شراكة دفاعية ثلاثية هي الأولى من نوعها منذ عقود. يشار إلى أن الصين والولايات المتحدة كثفتا من أنشطتهما العسكرية في بحر الصين الجنوبي خلال السنوات القليلة الماضية. ويُعتقد أن المنطقة، وهي نقطة اشتعال محتملة بينهما، تضم احتياطيات ضخمة من الموارد الطبيعية، وهي طريق شحن رئيسي. كما أنها موطن لمناطق الصيد التي توفر سبل العيش للملايين من سكان الدول المشاطئة.
الصين والولايات المتحدة كثفتا من أنشطتهما العسكرية في بحر الصين الجنوبي خلال السنوات القليلة الماضية
وكان التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأميركية قد سلّط الضوء على التهديد الذي تشكله البحرية الصينية، صاحبة أكبر أسطول بحري في العالم، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى بناء أسطول أكبر وأكثر فتكاً، مع مزيد من الغواصات. وعلى الرغم من أن الصين لديها أسطول بحري أكبر من الولايات المتحدة، يعتقد مراقبون أن الأخيرة تحتفظ بميزة تحت سطح البحر، بغواصات أكثر قوة وكفاءة.
وتمتلك الصين ما بين 66 و70 غواصة، من ضمنها أربع غواصات لإطلاق الصواريخ البالستية، وست غواصات هجومية تعمل بنظام الدفع النووي، و46 غواصة هجومية تعمل بالديزل. بينما تمتلك الولايات المتحدة 52 غواصة تعمل بالطاقة النووية. وكانت بكين قد أنفقت 200 مليار دولار خلال الأعوام الأخيرة الماضية، لتحديث أسطولها البحري، غير أن خبراء يرون أنه على الرغم من تعزيزها قدراتها الحربية تحت سطح البحر، فإن الصين لا تزال تفتقر إلى التكنولوجيا التي تؤهلها خوض حرب ضد الغواصات في المياه العميقة.
أنشطة استخبارية
عن خفايا الصراع تحت الماء بين بكين وواشنطن، خصوصاً في منطقة المحيطين الهادئ والهندي باعتبارها نقطة اشتعال محتملة بين القوتين النوويتين، يرى الباحث في معهد داليان للدراسات والبحوث العسكرية، جيانغ تيه ينغ، أن الأنشطة العسكرية بين البلدين تزداد سخونة تحت الماء، ما ينذر بأن اندلاع أي حرب في المنطقة سيكون مجالها البحر، وستعتمد بشكل رئيسي على الغواصات التي تعمل بالدفع النووي. ويوضح الباحث، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن البحرية الأميركية راقبت عن كثب، خلال السنوات الماضية، نشاط الغواصات الصينية في بحر الصين الجنوبي، وأن سفن المراقبة تواجدت في منطقة المحيطين بمعدل 320 يوماً في العام الواحد، وهدفت إلى جمع المعلومات وتحليل نطاق أنشطة الغواصات الصينية ومدى فعاليتها في المناطق العميقة. ويلفت جيانغ تيه ينغ إلى أن الصين بدورها تعقبت الأنشطة الاستخبارية الأميركية في المنطقة، ودخلت في صدام مباشر مع سفن حربية تواجدت بالقرب من جزر باراسيل، مشيراً إلى أن البحرية الصينية فاجأت نظيرتها الأميركية، حين تمكنت غواصاتها من الظهور فجأة على بعد مئات الأمتار من الغواصات الأميركية من دون أن يتم اكتشافها، معتبراً أن ذلك يظهر قصوراً في التكنولوجيا العسكرية الأميركية المضادة للغواصات.
وفي هذا الإطار، يلفت الباحث الصيني، إلى أن خطوة الولايات المتحدة بإقامة شراكة أمنية مع أستراليا وبريطانيا، جاءت بعد سلسلة من التقارير الاستخبارية التي أكدت قوة وفعالية الغواصات الصينية، ونجاح بكين في تضييق الفجوة مع واشنطن بعد إنفاق مليارات الدولارات لتحديث قوات الردع البحرية خلال السنوات الأخيرة.
ضبط التوازن
من جهته، يقلل الباحث الزائر في مركز تايوان للدراسات الأمنية، تسان يان، من قدرات الغواصات الصينية مقارنة بنظيرتها الأميركية، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن لدى الصين عدداً محدوداً من الغواصات التي تعمل الطاقة النووية (6-7 غواصات)، بينما لدى الولايات المتحدة أكثر من 50 غواصة تعمل بالدفع النووي. ويوضح تسان يان، أن العدد الأكبر من غواصات البحرية الصينية يعمل بمحركات ديزل، ما يستدعي الطفو المتكرر على سطح الماء لتنظيف العادم والتزود بالطاقة، وهذا يجعلها عرضة للهجوم في حالة الحرب، خصوصاً في المياه العميقة، فضلاً عن أنها بطيئة في الحركة وتصدر ضجيجاً مقارنة بالغواصات النووية.
نجحت بكين في تضييق الفجوة مع واشنطن بعد إنفاق مليارات الدولارات لتحديث قوات الردع البحرية
كما يتحدث الباحث عن فارق الخبرة بين البحرية الأميركية ونظيرتها الصينية، لافتاً إلى أن الأولى اكتسبت خبرة كبيرة في حرب الغواصات أثناء الحرب العالمية الثانية في معركة الأطلسي، بينما حتى وقت قريب، لم تكن الصين تعرف عن البحر شيئاً سوى أنه نهاية اليابسة، وكان يعتبر الخاصرة الرخوة للإمبراطورية الصينية قبل تأسيس الجمهورية، إذ تعرضت البلاد آنذاك للعديد من الغزوات كانت معظمها من الثغور البحرية. لكنه يذكّر بأن الصين أولت مزيداً من الاهتمام خلال السنوات الأخيرة، بتطوير وتحديث ترسانتها العسكرية البحرية، إلا أنها لا تزال في نهاية المطاف تواجه تحديات كبيرة في سدّ الفجوة مع الولايات المتحدة تحت سطح البحر.
وعن التطورات الأخيرة في موضوع الشراكة الأمنية الثلاثية ومنح كانبيرا غواصات تعمل بالطاقة النووية، يعتبر تسان يان، أن هذه الخطوة تأتي في إطار ضبط التوازن في منطقة المحيطين، بعدما كثّفت الصين من تدريباتها وأنشطتها العسكرية في المنطقة، وما يشكل ذلك من تهديد مباشر لجيرانها. ويضيف أن الولايات المتحدة تسعى إلى خلق جبهة موحدة تضم جميع الحلفاء في آسيا، وفي مقدمتهم اليابان والهند، لمواجهة الهيمنة الصينية، وأن موقع أستراليا الجغرافي قد يمكّن غواصاتها من أن تلعب دوراً حيوياً إلى جانب الهند في حفظ الأمن بمنطقة المحيط الهندي.
ولا يستبعد تسان يان، أن يقود ذلك إلى حرب وشيكة، خصوصاً أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء الإجراءات الأميركية التي تتعارض مع مصالحها الحيوية، وهي بدورها تسعى إلى تعزيز قوتها المضادة للغواصات، لاسيما أن الوضع الأمني الدولي الراهن غير مستقر، وقد أجرت قواتها البحرية أخيراً تدريبات مشتركة مع نظيرتها الصينية، مذكّراً بالتشاور والتعاون والتنسيق الدائم بشأن موقف البلدين حول السياسات الخارجية الأميركية. لذلك، فإن أي حرب تشنها قوات التحالف ضد الصين في المنطقة، ستواجه بجبهة موحدة بين بكين وموسكو، على حد قوله.