يسود قلقٌ كبير في السودان، بعد إقدام محتجين في إقليم شرق السودان، يوم الجمعة الماضي، وتحت إشراف زعامات قبلية، على إغلاق الموانئ الواقعة على ساحل البحر الأحمر، والطرق البرّية الواصلة إلى داخل البلاد، وذلك من أجل الضغط لتحقيق جملة من المطالب، من بينها تنحية الحكومة المركزية في الخرطوم. وكان الإقليم، المشكّل من ثلاث ولايات، هي البحر الأحمر والقضارف وكسلا، قد شهد منذ سقوط نظام الرئيس عمر البشير، توترات أمنية، إما بسبب النزاعات القبلية، أو بسبب الاحتجاجات على أداء الحكومة المركزية ومطالبتها بإنهاء مظاهر التهميش للإقليم، أو رفضاً لتعيين الولاة، كما حدث في ولاية كسلا على وجه التحديد. وللتعاطي مع تلك المشكلات، دخلت الحكومة في حوار بمدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، مع أحزاب سياسية محسوبة على الإقليم، وتوصلت معها إلى اتفاق باسم مسار الشرق، ضمن اتفاق شامل وُقّع مع "الجبهة الثورية" (تحالف فصائل مسلّحة)، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو الاتفاق الذي لم يحصد رضا مكَونات قبلية أخرى في شرق السودان، تعتقد أنها الأحق بتمثيل الإقليم.
ينظر كثر إلى الحراك القبلي والجهوي في الشرق، والانفلاتات الأمنية، كجزء من مخطط شامل لإجهاض الثورة
مجلسٌ نافذ
وكانت الزعامات القبلية في إقليم شرق السودان، قد عقدت في سبتمبر/ أيلول 2020، اجتماعاً قرّرت فيه تشكيل المجلس الأعلى لنظارات البجا. والبجا هي أكبر المجموعات العرقية في الإقليم، وسبق لها أن قادت حملة تصعيد واسعة، لمعارضة تبوؤ والي كسلا، صالح عمار، المعيّن من قبل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لمنصبه، وقد حققت هدفها بإلغاء قرار التعيين (أعفي عمار من منصبه في أكتوبر 2020). ثم واصل المجلس مناهضة اتفاق مسار الشرق، ما أدى إلى تجميد تنفيذه حتى تاريخ اليوم. وفي يوليو/تموز الماضي، نفّذ المجلس، الذي يقوده محمد الأمين ترك، ناظر (زعيم) قبائل الهدندوة، أول عملية إغلاق للإقليم استمرت أياماً عدة. ويوم الجمعة الماضي، عاد المجلس لينفذ عملية إغلاق أوسع للإقليم، شملت الطرق البرية والموانئ على ساحل البحر الأحمر، بما في ذلك الميناء الخاص بتصدير النفط السوداني ونفط دولة جنوب السودان. ويخطط المحتجون كذلك لإغلاق مطار بورتسودان ومناجم الذهب وأكبر أسواق المحاصيل في مدينة القضارف، بحسب تصريحاتهم التي أطلقوها أخيراً.
ولم تتوقف هذه المرة مطالب الزعماء القبليين عند حدّ إلغاء اتفاقية الشرق، بل زادوا عليها مطالب صريحة وواضحة بحلّ حكومة حمدوك، وتشكيل حكومة مدنية بديلة لها، مع إقصاء أحزاب "تحالف الحرية والتغيير" الحاكم عن التشكيل، على أن يتكفل المكون العسكري بتنفيذ تلك المطالب. ويقول المجلس الأعلى لنظارات البجا، إن مطلبهم الرئيسي هو إلغاء اتفاقية مسار شرق السودان الموقعة في جوبا العام الماضي، والتأسيس لمنبر تفاوضي جديد يستوعب كل مكونات إقليم شرق السودان، والتوصل إلى اتفاق يلبي رغبات الشرق في التنمية والمشاركة السياسية العادلة. ويرجع المجلس توسيع مطالبه، خصوصاً طرح حلّ الحكومة المركزية وتشكيل أخرى، إلى عدم إيفاء حكومة حمدوك بوعودها لجهة تنفيذ المطالب نفسها، لأكثر من عام.
على الضفة الأخرى، ينظر كثر إلى الحراك القبلي والجهوي في الشرق، أو في غيره، والانفلاتات الأمنية، كجزء من مخطط شامل لإجهاض الثورة السودانية عامة، والفترة الانتقالية خصوصاً، وهذا ما يمضي مستشار رئيس الوزراء، ياسر سعيد عرمان، إلى تأكيده من خلال تغريدات على "تويتر"، لا يتردد فيها باتهام "فلول النظام البائد" (النظام المخلوع)، كما يسميهم، بالعمل على محاصرة الحكومة بقطع الكهرباء في مروي، شمال السودان، ووقف إنتاج البترول في كردفان، غرب البلاد، والموانئ في الشرق. ويحذّر عرمان مما يُثار عن تخطيط لانقلاب عسكري يستفيد من الواقع الحالي، ويؤكد أن كلّ من يفكر في انقلاب، فإنه يخطئ الحقائق والزمن، ولديه مصاعب في إدراك وقائع سودان اليوم. فالدولة، عند عرمان، ليست هي الدولة "والسلاح على قفا من يشيل"، والمجتمع محتقن لدرجة الغليان، والإقليم ليس هو الإقليم، من ليبيا إلى الصومال مروراً بإثيوبيا. ويستطرد بقوله: "ثورة ديسمبر والديسمبريون عصيّون على التركيع والتجويع والتخويف والانفلات الأمني، وقطع الطرق والموانئ والبترول".
من جهته، اعتبر المتحدث باسم مجلس السيادة، محمد الفكي سليمان، في آخر تصريحاته، أن الفترة الانتقالية تتعرض للتهديد بواسطة النشاط المتزايد لفلول الحزب المحلول من داخل وخارج أجهزة الدولة، وأن الغرض هو فتح الباب للطامعين والمغامرين في تعديل المعادلة السياسية للفترة الانتقالية والتي صيغت بصعوبة بالغة. وأشار سليمان، إلى أن تعديل المعادلة السياسية من دون حوار، سيفتح الباب أمام احتمالات محفوفة بالمخاطر تضيّع كل الجهد الذي تمّ بذله خلال العامين الماضيين.
لم تتوقف مطالب الزعماء القبليين عند إلغاء اتفاقية الشرق، بل أصبحت تشمل حلّ حكومة حمدوك
ارتداد عن الثورة
ويقول جعفر خضر، رئيس مبادرة الخلاص في مدينة القضارف، شرقي السودان، إنهم على مستوى "المبادرة"، "رصدوا أدلة مادية على تورط عناصر النظام البائد في توتير الأوضاع في الشرق، وإغلاق الطرق"، حيث رصدوا، كما يقول في تصريح لـ"العربي الجديد"، مسؤولين سابقين وطلاباً منسوبين لحزب المؤتمر الوطني المحظور، يقومون بإغلاق الطرق في القضارف، لافتاً إلى أن كل ذلك يتم بتواطؤ المكون العسكري، بهدف زعزعة الاستقرار وخلق اضطراب حكومي، ومن ثم الارتداد عن الثورة ككل، وإعادة الحزب المحظور للسلطة.
ويشير خضر إلى وجود أزمة فعلية سببها اتفاق مسار الشرق الذي يقول إنه وفّر مبررات لصبّ الزيت على النار. ويقترح رئيس مبادرة الخلاص، على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة، ملء الفراغات السياسية حتى لا يتسلل عبرها عناصر النظام البائد، وإتاحة فرصة لمشاركة كل القوى السياسية والمجتمعية لوضع حلول لأزمات الإقليم، مع "مخاطبة القضايا الحقيقية لإنسان الشرق من فقر وعطش ونهب لثورات ومقدرات الإقليم". ويشدد على أن كل ذلك يجب أن يتم بعيداً عن النخبة السياسية المشغولة بمطامعها الشخصية.
ولم تعلن حكومة حمدوك بعد موقفاً صريحاً من التطورات الأخيرة في شرق السودان، باستثناء تصريح لوزير رئاسة شؤون مجلس الوزراء، خالد عمر يوسف، أعاد فيه التأكيد على أن حلّ الأزمة في شرق السودان، هو سياسي في المقام الأول. وأقرّ يوسف بوجود أخطاء في اتفاق مسار شرق السودان، داعياً مكونات الإقليم للجلوس معاً لحل الخلافات في ما بينها، وبعد ذلك مع الحكومة لإيجاد حل شامل. لكن يوسف نفسه، وبحسب ما تسرب من أخبار، دخل في مشادة كلامية مع رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، أثناء اجتماع حكومي عقد لمناقشة الأزمة، حيث ظهر تباين المواقف بين المكونين العسكري والمدني في إدارة ملف الأزمة. ومن بين أوجه الخلاف، طبقاً لمصادر"العربي الجديد"، رغبة بعض مكونات "الحرية والتغيير" في تدخل أمني يمنع إغلاق الطرق والموانئ لما فيه من آثار اقتصادية، مع الاحتفاظ للمحتجين بحقّهم في التعبير بأشكال أخرى، وهو أمر لا يرغب فيه المكون العسكري حالياً.
وبحسب مصادر "العربي الجديد"، فإن مجلسي السيادة والوزراء، قررا تشكيل لجنة مشتركة للذهاب إلى ولاية البحر الأحمر للتفاوض مع الزعامات القبلية، لكن الخطوة تعرضت لنكسة بعد رفض الزعامات لمبدأ التفاوض مع رموز الحكومة المدنية، والتمسك بالتفاوض بالأساس مع المكون العسكري بقيادة البرهان، طبقاً لما جاء في حديث محمد الأمين ترك، عرّاب الحراك القبلي. ومن اللافت صمت تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير عن التعبير عن موقفه من الأزمة، من دون أن يقدم تبريراً حتى لحالة صمته.
يلتزم تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الصمت، دون أن يقدم تبريراً لصمته
وتخشى الحكومة تلبية طلبات أجسام شرقي السودان، لجهة أن ذلك ربما يغري أجساماً أخرى قبلية وجهوية للسير على درب مجلس نظارات البجا والضغط على الحكومة واستنزافها بالمطالب السياسية، خصوصاً أن بيانات قد صدرت في هذا الصدد عن أجسام في شمال ووسط السودان، وفي منطقة البطانة التي تمتد على عدد من الولايات، وتتفق جميعها في مطلب حل الحكومة الحالية، ما يدخل البلاد في نفق لا يمكن الخروج منه بسهولة.
ويرى الصحافي والمحلل السياسي، ماهر أبو الجوخ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن كل ما يجري في شرق السودان ومناطق أخرى، ما هو إلا تهيئة للمسرح في الخرطوم لتنفيذ انقلاب عسكري وإجهاض الفترة الانتقالية وإنجازاتها في الحرية والسلام والعدالة، موضحاً أن ما يقوم به قادة العصيان في شرق السودان، يدلل تماماً على أن المقصود ليس رفع الظلم عن الإقليم ولا إلغاء الاتفاقية الخاصة به، إنما إلغاء كل منجزات الثورة. ويستشهد أبو الجوخ، بما جاء على لسان محمد الأمين ترك، الذي يتزعم الحراك القبلي في الشرق، قبل يومين، ودعوته الصريحة للعسكر للانقلاب على الفترة الانتقالية ومواثيقها الدستورية والقانونية. كما يلفت إلى أن ترك نفسه تحدث عن تفاصيل دارت داخل اجتماع مجلس الأمن والدفاع، ولا مجال لتفسير كيفية حصوله على تلك المعلومات، إلا بوجود تنسيق بينه وبين جهات داخل السلطة، خاب ظنها من قبل بالانقلاب على الثورة لأكثر من مرة.
ويشدّد أبو الجوخ، على أن الثورة السودانية عصية على التغيير، ولن تنجح معها كل محاولات الانقلاب، ولو حدث أي تحرك عسكري، فإن مصيره سيكون تماماً كمصير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، ولن يتعدى ثلاث ساعات فقط، بحسب رأيه، مؤكداً أن الشعب السوداني "سيخرج عليهم كما خرج من قبل، ويلقنهم دروساً لن تنسى على مر التاريخ". ويشير المحلل السياسي إلى أن إلغاء الاتفاق الخاص بشرق السودان، كما ينادي بذلك البعض، يعني إلغاء كل اتفاقيات السلام في السودان، سواء في دارفور، أو النيل الأزرق أو جنوب كردفان، ويعني من زاوية أوسع إلغاء السلام والعودة للحرب، وهذا ما تريده الدولة العميقة وذيولها، حسب قوله.
وللسفير إدريس سليمان، القيادي في حزب المؤتمر الشعبي، رأي مختلف، يحمّل فيه مسؤولية ما يحدث في شرق السودان للحكومة، التي يقول إنها تتجاهل الأحداث، على الرغم من الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر كشريان رئيسي للبلاد. ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن الوضع لا يحتمل أكثر من ذلك لا سيما مع الاستقطاب القبلي والأطماع الإقليمية والدولية في المنطقة، وإذا لم تتدخل الحكومة، بالاستماع للمحتجين وتلبية مطالبهم، فإن الأمر سيكون مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك فرضية الانقلاب العسكري، أو الحرب الأهلية، أو الفوضى العامة، أو إعلان الانفصال.
وحول مطالب الزعامات القبلية بحل الحكومة المدنية وتشكيل مجلس عسكري وإعلان حال الطوارئ، يقول سليمان إنها جزء طبيعي من التصعيد الذي يحدث من أي جهة حال عدم الاستجابة لمطالبها، تماماً مثل الذي حدث في إقليم دارفور في السنوات السابقة، والتي بدأت مشكلتها صغيرة ثم كبرت، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن. ويشير إلى أن قوى إقليمية ودولية كثيرة لديها مصالح وأطماع في منطقة البحر الأحمر، وتريد أن تجد موطئ قدم فيه، مثل إسرائيل والإمارات، وجيران السودان القريبين والبعيدين، وكذلك الدول العظمى التي تدرك أهمية البحر الأحمر والذي يعبره 70 في المائة من النفط والملايين من البضائع والسلع.