"شبيبة التلال"... استيطان رعوي للضفة على طريقة "الكاوبوي"

14 مارس 2023
بؤرة استيطانية رعوية بمحاذاة مستوطنة في منطقة المعرجات (العربي الجديد)
+ الخط -

منذ نحو 70 عاماً، كان مشهد الخيام وبيوت الصفيح البدوية الفلسطينية جزءاً من هوية المكان في المناطق الممتدة على طول الحزام الشرقي للضفة الغربية. لكن هذا المشهد بدأ يتحول خلال السنوات القليلة الماضية إلى نمط حياة بدائية يهودية اتخذ من شكل حياة السكان الأصليين من البدو الفلسطينيين وسيلة للسيطرة على كامل المساحات الزراعية والجبلية الفارغة في الضفة الغربية. 

أقام مستوطنون متطرفون يطلقون على أنفسهم جماعة "شبيبة التلال"، ويبلغ تعدادهم بضع مئات، بؤراً استيطانية تأخذ شكل الحياة البدوية الفلسطينية، على قمم التلال في شتى أنحاء الضفة الغربية، وبدأوا منها مشروعهم للسيطرة على الأراضي الزراعية والرعوية وطرد الوجود البدوي والزراعي والرعوي الفلسطيني منها. 

وبعدما كانت الجماعة مصنفة كجماعة إرهابية في أروقة أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وكان نشاطها يتركز في عمليات "تدفيع الثمن" ضد الفلسطينيين، تحولت لاحقاً إلى مشروع دولة، وأصبحت تقود إحدى أسرع وسائل الاستيطان وأكثرها نجاعة في الاستيلاء على الأرض وطرد الفلسطينيين منها، متمثلة في ما بات يعرف بالاستيطان الرعوي. 

ويقتني هؤلاء المستوطنون قطعان أغنام وأبقار، وينصبون خياماً ويبنون غرفاً خشبية في معظم المناطق المصنفة إسرائيلياً تحت بند مناطق "ج"، وتشكل 60% من مساحة الضفة الغربية، وحددوا التجمعات البدوية والحياة الفلسطينية التي تعتمد على تربية الماشية، الهدف الأبرز لهم.

وتنتشر اليوم البؤر الاستيطانية بكثافة على طول الشريط الشرقي للضفة الغربية، انطلاقاً من الأغوار الشمالية، وصولاً إلى صحراء شرق القدس، وهو الشريط الذي احتوى على الانتشار البدوي والزراعي الفلسطيني الأوسع على مستوى فلسطين.

يقول أبو إبراهيم فزاع، وهو رب عائلة من ضمن عشرات العائلات التي تواجه تهديد التهجير بفعل هجمات المستوطنين واستيلائهم على الأراضي الرعوية والزراعية، إن عديد من العائلات تبحث اليوم عن مسكن آمن بعدما أقام أحد المستوطنين من جماعة "شبيبة التلال" بؤرة قريبة من تجمع المعرجات بين محافظتي رام الله وأريحا، وبدأ بمنع السكان من التنقل حول التجمع والرعي بأغنامهم.

وخلال الصيف الماضي أجبر المستوطنون تجمع "القبون" البدوي وتقطنه عشيرة الرشيدات على الرحيل من أرضها بعدما شنوا هجمات إرهابية على عائلات، كان من بينها الهجوم على عائلة مصطفى ارشيدات وإصابة سيدة بجروح بالغة بعد الاعتداء عليها بعصا خشبية رأسها مدبب، من قبل مجموعة مستوطنين ترافقهم قوة عسكرية من جيش الاحتلال.

"نحن وعديد من العائلات نبحث اليوم عن مناطق أكثر أمنا قرًب القرى والمناطق الحضرية، ومجبرون على التخلي عن جزء من هويتنا الاجتماعية وطريقة حياتنا البدوية في سبيل العيش. لم يعد بإمكاننا الاستمرار في طريقة حياتنا المعتمدة على تربية الماشية، والسكن في المناطق النائية"، يضيف أبو إبراهيم لـ"العربي الجديد".

يقول مدير قسم البحث الميداني في منظمة "بيتسيلم"، كريم جبران، لـ"العربي الجديد"، إن عملية العنف التي يمارسها المستوطنون عملية ممنهجة تهدف إلى حصر الوجود الفلسطيني في كانتونات وتجمعات داخل المنطقتين المصنفتين "أ" و"ب".

وفي واحدة من الحوادث التي تشير إلى عملية التطهير والإحلال التي تنفذ في منطقة المعرجات الممتدة على مساحة أرض واسعة تفصل بين مدينتي رام الله وأريحا، ما جرى لعائلة فلسطينية قدمت من قرية دير جرير المجاورة إلى جبال المعرجات في رحلة ترفيهية، حيث اقتربت العائلة من خيام، ظناً أنها للعائلات البدوية الفلسطينية التي تقطن المنطقة منذ عقود، لكنها فوجئت بهجوم مستوطنين عليها وإصابة رب العائلة حسن أبو مخو بجروح متوسطة، ليتبين للعائلة أن المستوطنين هم من يقطنون تلك الخيام. 

ويرى جبران أن هذا العنف لا يمكن فصله عن الدعم المطلق الذي يحصل عليه المستوطنون من قبل الحكومة الإسرائيلية الحالية التي وفرت الحماية القانونية والعملية لهم، وبالمقابل تمنع الفلسطيني من الدفاع عن نفسه، من خلال عمليات اعتقال وإطلاق نار استهدفت الفلسطينيين لمجرد الدفاع عن ممتلكاتهم وأرواحهم.

وأشارت تقارير إسرائيلية إلى أن الوزيرين في حكومة الاحتلال الحالية، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، كانا على ارتباط في مراحل معينة بجماعة "شبيبة التلال" الإرهابية، وهما الآن يتقلدان مناصب عليا في الدولة، ما قد يعطي دفعة كبيرة لعملية الاستيطان التي تقودها الجماعة خلال فترة الحكومة الحالية.

وتتيح البؤر الاستيطانية الرعوية السيطرة على أكبر مساحة من الأرض وطرد الفلسطينيين منها دون الحاجة للبناء الاسيتطاني فيها، ففيما لا تتجاوز مساحة بؤرة استيطانية مقامة في منطقة المزوقح في الأغوار الشمالية، بضعة دونمات، إلا أنها تسيطر على مساحة تتجاوز مساحة مدينتي "رمات غان" و"بات يام" داخل الخط الاخضر، و"هذا دليل على كبر هذا المشروع، ومدى الاستهداف الكبير للوجود الفلسطيني"، يضيف جبران.

وتراجع الوجود الفلسطيني بشكل ملحوظ خلال آخر 4 سنوات في مناطق شرقيّ الضفة الغربية، من نحو 8 تجمعات بدوية فلسطينية مركزية إلى تجمعين فقط، يواجهان التهديد اليوم بالترحيل خلال سنة أو أقل. 

ويقول عبد الكريم مصطفى "أبو بشار" من تجمع وادي السيق البدوي قرب قرية رمون، شرقيّ محافظة رام الله، إن العائلات في التجمع بدأت تعاني ضيقاً غير معهود في رعي مواشيها في منطقة التجمع المفتوحة شرقاً، وصولاً إلى صحراء البحر الميت، بعدما أقام مستوطن قبل أكثر من أسبوع بؤرة استيطانية جديدة مطلة على التجمع، ومن خلالها منع على السكان الوصول إلى عدة مناطق رعوية، بتهديد السلاح وبدعم من شرطة الاحتلال.

ويقول الباحث في مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، وليد حباس، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن البؤر الاستيطانية تعرض نفسها على أنها مجرد "كرافانات" تعيش فيها عائلات مستوطنين، لكنها في الواقع تشكل رأس حربة المشروع الاستيطاني، وهي محاولة لتحويل المنظر العربي لجبال الضفة الغربية إلى خليط ميؤوس منه يجمع ما بين الرواية التوراتية وما بين أسلوب الحياة الأشكينازي الغربي المنمق. ويضيف أن نتيجة ذلك "استيطان بروحية "الكاوبوي" الذي ينظر إلى الحيّز الجغرافي الفلسطيني كتلال غير محروثة، يمكن إعادة صياغتها".

وعن تاريخ نشوء مثل هذه البؤر، يشير حباس إلى أن أول بؤرة أقيمت عام 1996 على أراضي قرية "يانون" الفلسطينية التي يبلغ عدد سكانها اليوم 150 نسمة فقط بعد مصادرة حوالي 80% من أراضيها. وقد أقيمت البؤرة بالقرب من مستوطنة إيتمار المتطرفة، جنوب شرق مدينة نابلس، وتسيطر اليوم على نحو 7 تلال في المنطقة.

ويقول جبران إن البؤر الرعوية أصبحت مدعومة من حكومة الاحتلال، ومرتبطة بمشروع الدولة الأوسع، القاضي بفرض سيادة يهودية وتكريس منظومة الأبارتهايد، وحصر الوجود الفلسطيني داخل تجمعات كبيرة، والقضاء على معظم التجمعات البدوية والوجود الرعوي والزراعي الفلسطيني. و"هذا أدى إلى ضرب الحياة الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية، واستمراره سيؤدي إلى تصفية الوجود الفلسطيني تماماً من مناطق (ج)"، بحسب جبران.