تتراكم الأزمات في مصر من دون أن يقدّم النظام أي حلول جذرية أو حتى مؤقتة لها. فبعد أقل من اثنتين وسبعين ساعة من حادثة جنوح سفينة عملاقة في قناة السويس وتعطّل حركة الملاحة، والتعتيم الرسمي على الحادثة والتعامل الإعلامي الفاشل بشأنها، وقع صباح أمس الجمعة حادث جديد في مرفق السكك الحديدية، في محافظة سوهاج بصعيد مصر، ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا، في تكرار أصبح روتينياً لفشل الدولة في إنقاذ أرواح مواطنيها من حوادث القطارات المتكررة، التي كانت في الماضي سبباً دائماً لتغيير وزراء النقل. أمّا الآن، وبعد تولي وزير النقل الحالي المقرب من الرئيس عبد الفتاح السيسي، الفريق كامل الوزير هذه الحقيبة، غاب التعاطي النقدي إعلامياً وبرلمانياً مع تكرار هذه الحوادث، واكتسب منصب وزير النقل حصانة من المساءلة والعقاب، وأصبح من المستحيل تقديم طلب إحاطة أو سؤال برلماني بشأن تكرار الحوادث، وسوء الخدمة، في الوقت الذي تنفق فيه الدولة مليارات الجنيهات على مشاريع مستقبلية طويلة الأمد في قطاع النقل، لن تعود بالفائدة على المواطنين البسطاء الذين تُحصد أرواحهم على مزلقانات السكك الحديدية في قرى الريف.
سقط عشرات القتلى والجرحى بتصادم قطارين في سوهاج أمس
ولكن في دلالة على الارتباك بعد حادث أمس، كانت حتى العصر توجيهات الدائرة المقربة من السيسي، التي يقودها رئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل، ومحمود نجل الرئيس المصري، لوسائل الإعلام التي تسيطر عليها بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، بتكثيف الهجوم على وزير النقل كامل الوزير، بل وصدرت توجيهات للنيابة العامة بمنع الجهات كلها من التصريح بأسباب الحادث، بعد أقل من ساعة على صدور بيان من وزارة النقل يحصر الأسباب في "مجهولين"، عطلوا "بلف الخطر (مكابح الطوارئ) لأحد القطارين اللذين اصطدما".
وكان من مظاهر الارتباك الواضحة كذلك، حذف الحساب الرسمي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على موقع "فيسبوك"، منشوراً بشأن كارثة تصادم قطاري سوهاج، بعد دقيقة واحدة من نشره، ثم أُعيد نشره مرة أخرى بعد تعديل وإضافة بعض الكلمات. وقال السيسي: "تابعت عن كثب الحادث الأليم الذي عايناه اليوم (أمس) بتصادم قطارين في محافظة سوهاج"، ثمّ قام بتعديل كلمة "عايناه" وجعلها "شاهدناه". وأضاف "إنّ الألم الذي يعتصر قلوبنا اليوم، لن يزيدنا إلا إصراراً على إنهاء مثل هذا النمط من الكوارث. ولقد وجهت رئاسة الوزراء وكافة الأجهزة المعنية بالتواجد بموقع الحادث والمتابعة المستمرة وموافاتي بكافة التطورات والتقارير المتعلقة بالموقف على مدار اللحظة".
وتابع السيسي في منشوره الأول: "على أن ينال الجزاء الرادع كل من تسبب في هذا الحادث الأليم". لكنه قام بتعديل هذه الجملة وأضاف إليها بعض الكلمات فجاءت كالتالي: "على أن ينال الجزاء الرادع كل من تسبب في هذا الحادث الأليم بإهمال أو بفساد أو بسواه، من دون استثناء ولا تلكؤ ولا مماطلة". وتابع السيسي في منشوره قائلاً: "إنني إذ أتوجه بكامل العزاء لأسر الشهداء الذين لقوا ربهم اليوم، أقدم لأسر المصابين كامل المواساة والدعم وأمنياتي بالشفاء العاجل إن شاء الله. وأوجه الأجهزة المعنية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة وتوفير التعويض اللائق لأسر الشهداء والضحايا".
ووقع الحادث بسبب اصطدام قطار VIP متجه من أسوان إلى الإسكندرية بقطار ركاب متجه من سوهاج إلى الإسكندرية، من الخلف، أثناء تعطل الأخير، مما أدى إلى خروج خمس عربات عن القضبان، ما تسبب بسقوط نحو 40 قتيلاً في حصيلة أولية، وأكثر من مائة مصاب، فضلاً عن عشرات المفقودين. وعقب وقوع الحادث، بادر وزير النقل إلى تحميل سائقي القطارين المسؤولية، وأحالهما إلى التحقيق بمعرفة النيابة العامة، التي طالبت جميع الجهات عصر أمس بالتزام الصمت إزاء أسباب الحادث ومنحها الفرصة لمباشرة التحقيقات على المستوى القضائي. لكن الوزير لم يعلن تحمّل أي مسؤولية، ولو أدبية، عن الحادث، الذي اكتفى السيسي إزاءه أيضاً بتقديم العزاء للمواطنين والتعهد بأن ينال المخطئ "جزاءً سريعاً ورادعاً"، من دون الإشارة إلى المسؤولية السياسية عن الحالة المتردية التي بلغها مرفق السكك الحديدية.
تغيب ثقافة إدارة الأزمة لدى السلطات المصرية
وثمة رابط بين هذا الحادث الأليم وحادث قناة السويس يتمثّل في غياب ثقافة إدارة الأزمة لدى السلطات المصرية. فمشهد الأهالي والركاب المحتشدين حول عربات القطار المقلوبة، محاولين انتشال المواطنين وإنقاذهم، على الرغم من مرور ساعات على الحادث، وقلة عناصر الإسعاف والإنقاذ والدفاع المدني، يمكن مقاربته بسهولة بمشهد السفينة الجانحة التي انتظرت هيئة قناة السويس يوماً كاملاً للإفصاح عن طبيعة ما حدث لها، وإعلان المستجدات للعالم المترقب. أما البيان الذي كان ادعى في البداية، على غير الحقيقة، عودة الملاحة جزئياً للقناة، في الوقت الذي لم تكن فيه السفينة الجانحة قد تحركت قيد أنملة وتعقدت فيه محاولات تعويمها، فيمكن مقاربته بالبيانات الأولى الصادرة من أجهزة الدولة المختلفة عن حادث الصعيد، بالإعلان عن عدد محدود من المصابين، قبل الاعتراف بسقوط عشرات المتوفين، وترك الساحة للأهالي للتعامل مع كارثة تمس أرواح المئات، بدلاً من التدخّل المباشر والحصري من السلطات المختصة.
ولا يمكن تجاهل أن التعامل السلبي مع الأزمتين يأتي تحت سلطة عسكرية خالصة، بينما كان السيسي والموالون له يراهنون على عسكرة الدولة "لتجاوز عهد الفساد والإهمال الذي يقع من المدنيين". فقناة السويس يرأسها الفريق أسامة ربيع قائد القوات البحرية السابق، وقطاع النقل يرأسه الفريق كامل الوزير، الرئيس السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وكان كامل الوزير قد تولى حقيبة النقل في مارس/ آذار 2019، على خلفية رغبة السيسي في تعميم "الضبط والربط" العسكري على هذا القطاع المدني، بعد وقوع أربعة حوادث كبيرة للقطارات بين عامي 2017 و2019؛ الأول في محطة خورشيد على خط القاهرة-الإسكندرية، ثم اصطدام قطار مطروح بسيارة ملاكي، ثم تصادم قطارين بكوم حمادة بالبحيرة، ثم الحادث الكبير الذي وقع في 27 فبراير/ شباط 2019 باصطدام قطار بالحاجز الإسمنتي في محطة القاهرة الرئيسية برمسيس، مما أودى بحياة 30 شخصاً على الأقل، ما دفع وزير النقل هشام عرفات إلى الاستقالة.
واختار السيسي كامل الوزير، المشهود له عسكرياً بالانضباط والصرامة وإنجاز أوامر السيسي بغض النظر عن أي اعتبارات فنية ومالية، وسط ترحيب واسع من نواب البرلمان الموالين للنظام ووسائل الإعلام الموالية، إلى حد ظهور دعوات لتوليه رئاسة الوزراء حتى قبل إنجاز أي تقدم في قطاع النقل. مع العلم أنّ الذي طرأ بشكل أساسي على تعامل الدولة مع الحوادث والأزمات في هذا القطاع هو التخفيف المقصود لحالة الهلع والغضب الجماهيري إزاء تكرار حوادث القطارات، والإحالة السريعة للسائقين والعاملين بالمرفق إلى التحقيقات الجنائية والتأديبية والمحاكمات، من دون تحميل المسؤولية للوزير، الذي أصبح متحصناً بخلفيته العسكرية، ورتبة "فريق" التي منحها له السيسي تكريماً له بعد اختياره وزيراً. وامتدت هذه الحصانة إلى سلبيات القطاع ككل، فلم يعد مسموحاً لوسائل الإعلام والنواب بفتح القضايا المتعلقة به، وكأن الحل كان في قمع الانتقادات لا التعامل بإيجابية معها.
اكتسب منصب وزير النقل مع كامل الوزير حصانة من المساءلة
وبعد تولي الوزير بأيام، بدأت مسيرة حوادث القطارات في عهده، ففي مارس/ آذار 2019، سقط بوجي بعربة توليد القوى في قطار ركاب بورسعيد-الإسماعيلية، من دون حدوث أي إصابات. وفي إبريل/ نيسان من العام ذاته، تكرر الحادث في قطار بكفر الشيخ أسفر عن إصابة 9 مواطنين. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، وقع حادث إجبار شابين على القفز من قطار بطنطا، ليلقى أحدهما مصرعه نتيجة تعليمات الوزير الصارمة لعاملي القطارات بعدم السماح بوجود الباعة الجائلين أو أشخاص على متن القطارات من دون تذاكر، وتهديد العاملين بالخصم من مرتباتهم ومعاقبتهم.
وبعدها بأيام وقع حادث تصادم بالأقصر بين قطار وسيارة أجرة، راح ضحيته 4 مواطنين. وفي مارس/ آذار 2020، وقع حادث تصادم بين قطاري ركاب بين محطتي إمبابة ورمسيس أسفر عن إصابة 13 شخصاً. وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، خرج قطار بكفر الشيخ عن سكته ليقتل شاباً. وفي فبراير/ شباط الماضي، وقع حادث تصادم آخر بين قطار وسيارة في أسيوط نتجت عنه إصابات معدودة.
لكن الوزير نجا من كل هذه الحوادث، ولم يطبّق عليه ما حدث مع أسلافه. فعلى الرغم من سوء حالة القطارات وعدم دقة المواعيد والتأخر والحوادث، ظلّ الوزير بمعزل عن المساءلة. بل إنه - وبمباركة من السيسي - حصل على مساحة أكبر كواجهة للمشاريع المستقبلية، كالقطار فائق السرعة بين منطقة العلمين الجديدة والعين السخنة، والمونوريل (قطار أحادي الخط) في العاصمة الإدارية الجديدة، والموانئ البرية الجديدة، فضلاً عن توليه التنسيق مع الجيش في شق وإنشاء الطرق الجديدة التي تديرها الهيئة الهندسية.
وردّ الوزير بعنجهية ملحوظة على الانتقادات الخافتة التي طاولته. وعلى سبيل المثال، ظهر في أحد البرامج الحوارية المسائية بعد حادث قطار طنطا في أكتوبر 2019، ليرفض مطالبة البعض له بالاستقالة، قائلاً بنبرة متهكمة: "لو الناس شايفة إن حل أي مشكلة في كل الوزارات، استقالة الوزير يستقيل الوزير"، مستطرداً: "هل الوزير هيمسك لكل واحد ورقة يكتب فيها كيفية التعامل في أي موقف طارئ؟ الوزير يعمل على تطوير البنية التحتية للسكك الحديدية".