لم يستطع العسكر في ميانمار، بعد عام من انقلابهم على الحكومة المدنية بقيادة الزعيمة أونغ سان سو تشي، الإمساك بالوضع الأمني في البلاد.
بل على العكس، فقد أدى القمع وسقوط مئات القتلى واعتقال الآلاف، إلى دخول البلاد في ما يشبه "نفق الحرب الأهلية"، مع تفجّر مقاومة شعبية أدت إلى خروج مناطق واسعة عن سيطرة الجيش، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي بشكل كبير.
وكان قائد الجيش في ميانمار، الجنرال مين أونغ هلينغ، استولى على السلطة في الأول من فبراير/شباط 2021، واعتقل سو تشي وكبار أعضاء حكومتها وحزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" الحاكم، الذي كان فاز في الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. ووضع الانقلاب نهاية لتجربة ديمقراطية لم تدم أكثر من 10 سنوات.
قتل 1500 مدني واعتقل نحو 11 ألفاً منذ الانقلاب
ومع الحماية التي تؤمّنها روسيا والصين للجنرالات في الأمم المتحدة، واندلاع أزمات وحروب تتطلب الاهتمام في إثيوبيا واليمن وأوكرانيا، فقد كثيرون في ميانمار الأمل في الحصول على مساعدة من المجتمع الدولي لإعادة البلاد إلى سكة الديمقراطية.
الانقلاب بميانمار أدى إلى عزلة البلاد
وأدى الانقلاب إلى عزلة البلاد. وفي أول زيارة من نوعها إلى ميانمار، التقى رئيس حكومة كمبوديا هون سين، الجنرال مين أونغ هلينغ، وذلك في إطار محاولة رابطة دول جنوب شرق آسيا، التي تترأسها كمبوديا حالياً، إطلاق مبادرة دبلوماسية لحل الأزمة في البلاد.
وقال مصدر مطلع، أمس الاثنين، إن محكمة في ميانمار ستبدأ محاكمة سو تشي في 14 فبراير الحالي في اتهامات بتزوير الانتخابات، بعد اتهامها بالتأثير على انتخابات عام 2020 للفوز بفترة ولاية ثانية.
وقال المصدر، لوكالة "رويترز"، إن سو تشي، (76 سنة) الحائزة على جائزة نوبل للسلام، متهمة بالتأثير على اللجنة الانتخابية وقت الاقتراع. كما يواجه الرئيس السابق وحليفها وين مينت وعضو مجلس الوزراء السابق مين ثو الاتهام نفسه. ويواجه الثلاثة أحكاماً بالسجن ثلاث سنوات وغرامة إذا ثبتت إدانتهم.
يضاف ذلك إلى مجموعة أخرى من الدعاوى القضائية المرفوعة ضد سو تشي، التي اعتقلت قبل ساعات من الانقلاب، تصل الأحكام القصوى المجمعة فيها إلى أكثر من مائة عام. ومنذ نهاية 2021، حكم على مقربين من سو تشي بأحكام مشددة: حكم بالإعدام لنائب سابق، وآخر بالسجن 75 عاماً بحق وزير سابق، والسجن 20 عاماً لأحد المعاونين.
مقتل 1500 مدني منذ انقلاب ميانمار
ومنذ عام، قتل نحو 1500 مدني، واعتقل أكثر من 11 ألفاً، بحسب جمعية مساعدة السجناء السياسيين، فيما تتهم مجموعات حقوقية قوات المجلس العسكري الانقلابي بالتعذيب والقتل التعسفي.
وكانت واشنطن فرضت، في يناير/كانون الثاني 2021، عقوبات ضد مسؤولين عسكريين، بمن فيهم أونغ هلينغ. كما فرضت كندا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات على المجلس العسكري الانقلابي.
وفي 18 يونيو/حزيران الماضي، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً غير ملزم يدعو "الدول الأعضاء إلى منع تدفق الأسلحة إلى ميانمار". وتعرقل روسيا والصين في مجلس الأمن أي محاولة لفرض عقوبات. لكن بكين، التي تواصل الحوار مع المجلس العسكري، تبقي على الاتصال مع "الرابطة الوطنية للديمقراطية" بزعامة سو تشي.
وأدى قمع قوات الجيش للمحتجين ضد الانقلاب إلى تصعيد الصراع، لدرجة أن بعض الخبراء يصفون البلاد بأنها في حالة حرب أهلية. وكان السفير الصيني لدى الأمم المتّحدة تشانغ جون شدد، بعد جلسة لمجلس الأمن الجمعة الماضي، على أنّه يجب تجنّب حصول "حرب أهليّة ومزيد من العنف" في ميانمار.
وفي حين لم تلعب سو تشي أي دور في هذه التطورات، فقد أطلق نواب من حزبها مقاومة سياسية للانقلاب. وأنشأوا، بعد أن منعهم الجيش من شغل مقاعدهم في البرلمان، في إبريل/نيسان الماضي، "حكومة الوحدة الوطنية"، التي تراهن على الاعتراف بها بأنها الهيئة الإدارية الشرعية للبلاد.
تشكل مليشيات لمواجهة قوات الجيش
وسعت مجموعة أطلقت على نفسها اسم "القوات المسلحة الوطنية" إلى تنسيق المقاومة، والمساعدة في تنظيم "قوات الدفاع الشعبي"، أو "قوات الدفاع الشعبية"، وهي مليشيات محلية تشكلت على المستوى المحلي وعلى مستوى الأحياء. ويعتبر الجيش أن هذه القوات "إرهابية".
والمتظاهرون السابقون، إضافة إلى قرويين مسلحين، سددوا عدداً من الضربات الموجعة لقوات المجلس العسكري الانقلابي، مع تنفيذهم كمائن مسلحة وهجمات بألغام، رغم الصعوبة التي يلقونها في الحصول على أسلحة ثقيلة.
وتقول مجموعة سرية من المشرعين إن قرابة 3 آلاف عنصر من قوات المجلس العسكري قتلوا في معارك مع "قوات الدفاع الشعبي" بين يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فيما يؤكد الحكام العسكريون مقتل 168 من الجنود والشرطة بين فبراير 2021 وأواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومع تحول معظم التظاهرات في المدن والمناطق الرئيسية إلى مفاجئة لتجنب حملات القمع، انتقلت المعركة ضد الحكم العسكري إلى الأرياف، حيث تشن المليشيات حرب عصابات، فيما يحاول الجيش القضاء على تهديد المليشيات من خلال قطع سبل حصولها على الغذاء والأموال والمعلومات والتجنيد.
أدت المقاومة الشعبية إلى خروج مناطق واسعة عن سيطرة الجيش
وأدى هذا الأمر إلى زيادة معاناة المدنيين، إذ إن الجنود يمنعون وصول الإمدادات إلى الأرياف، ويهدمون قرى بأكملها ويعذبون المدنيين ويخطفون أشخاصاً، بحسب محلل شؤون ميانمار في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية توماس كين.
إمكانية اندلاع صراع طويل في ميانمار
وأعلن كين، لوكالة "أسوشييتد برس"، أن الحكومة التي نصبها الجيش لم تكن تتوقع مستوى المقاومة التي تفجرت في وجهها. وقال: "لقد رأينا في الأيام الأولى بعد الانقلاب أنهم حاولوا تبني أسلوب العمل المعتاد"، حيث نفى الجنرالات تنفيذهم أي تغيير في السلطة، وأنهم فقط أسقطوا سو تشي.
وأضاف "بالطبع، كما تعلمون، أطلق هذا العنان لهذه الاحتجاجات الضخمة التي سُحقت بوحشية، ما أدى إلى تحول الناس إلى الكفاح المسلح". ورأى كين إمكانية اندلاع صراع طويل، موضحاً أن "أياً من الجانبين غير مستعد للتراجع، أو يرى أن ذلك في مصلحته تقديم تنازلات للطرف الآخر".
وقال ديفيد شتاينبرغ، الباحث في الدراسات الآسيوية في جامعة جورجتاون، لوكالة "أسوشييتد برس"، إن الناس عارضوا استيلاء الجيش على السلطة، لأنهم أصبحوا يتمتعون بحكومة تمثيلية بعد سنوات من الحكم العسكري.
وأشار إلى أنه على الرغم من المخاطر، فإن الشبان خرجوا بأعداد كبيرة للاحتجاج. وأوضح أنهم تمتعوا بمزايا تكتيكية افتقرت لها الأجيال السابقة من المتظاهرين، مشيراً إلى أنهم تمكنوا من تنظيم إضرابات وتظاهرات باستخدام الهواتف المحمولة والإنترنت، على الرغم من جهود الانقلابيين للحد من الاتصالات.
وقال رئيس قسم الشؤون الخارجية في "اتحاد كارين الوطني" بادوه ساو تاو ني، لـ"أسوشييتد برس": "نحن لا نقبل انقلاباً لأي سبب كان. إننا نعارض أي ديكتاتورية عسكرية. وبالتالي، فإن الرد التلقائي هو أنه يجب علينا العمل مع أولئك الذين يعارضون الجيش".
في المقابل، يواصل الجيش الضغط على أقلية "كارين" من خلال شن هجمات، بما في ذلك عن طريق الجو، ما يؤدي إلى فرار المدنيين إلى تايلاند. والنزاع المستمر منذ عام أرخى بثقله على الجيش الذي يواجه مشكلات معنوية وفي التجنيد، حسبما رأى المستشار في مجموعة الأزمات الدولية حول ميانمار، ريتشارد هورسي، في تصريح لوكالة "فرانس برس".
وفي حين وعد الجنرالات بإجراء انتخابات في أغسطس/آب 2023، فإن هورسي اعتبر أن هذا مستحيل "نظراً لضعف سيطرتهم على معظم أنحاء البلاد". واعتبر أنه "من غير المرجح بدرجة كبيرة أن يتمكن أي من الجانبين من تسديد ضربة قاضية" للآخر. وقال: "الوضع مهيأ لأشهر وربما لسنوات من المواجهات العنيفة".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)